64 عامًا مضت على ذكرى 23 يوليو 1952، تلك الذكرى التي غيرت ملامح الخريطة السياسية لمصر طيلة العقود الماضية، وجمعت بين كل المتناقضات في آن واحد، الإطاحة بالحكم الملكي وترسيخ حكم الفرد، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتفعيل الفرقة بين الطبقات، والقضاء على الاستعمار وفتح الباب للاحتلال الأجنبي من جديد، والإعلاء من الكرامة الإنسانية وسحل كرامة المواطن.
وبالرغم من مرور تلك العقود الطويلة على هذه الذكرى لازال الجدل المصاحب لها مستمرًا، مما أفرز حالة من الانقسام بين المصريين، ليبقى السؤال الجدلي قائمًا: 23 يوليو، ثورة مباركة أم انقلاب دموي؟ إلا أن ما يتفق عليه المصريون في هذا اليوم هو الإجازة التي منحتها الدولة لجميع القطاعات، فمتى يحسم هذا الجدل؟
ثورة مباركة
المؤيدون للحقبة الناصرية يستنكرون كل الاتهامات الموجهة لـ 23 يوليو، مؤكدين أنها ثورة مكتملة الأركان، حيث انتصر الجيش للشعب الذي عانى مرارًا وتكرارًا من ظلم الملكية وفساد الحكم، ودفع دماءه رخيصة إرضاءً للمستعمر الأجنبي، وبذل كرامته وحريته خدمة لأسياده من الإقطاعيين المقربين من السرايا، مما كان تغيير هذا المشهد أمرًا لا مفر منه، وهو ما دفع الضباط الأحرار داخل الجيش للتحرك.
العديد من المؤرخين المقربين من الناصرية أشاروا إلى أن ضباط الجيش في هذا الوقت كانوا ملاذ الشعب المغلوب على أمره، لاسيما وأن بعضهم كان ينتمي للطبقات الفقيرة، يعايشون آلامهم، ويحيون معاناتهم وإذلالهم، مما رسخ في نفوس بعض الضباط كراهية الملك وأسياده من الإنجليز، وهو ما دفعهم للتخطيط للإطاحة به، وتخليص الملايين من المصريين المقهورين من هذا الظلم الذي خيم على صدورهم سنوات طويلة.
لقد حمل الضباط الأحرار أكفانهم على أيديهم بهذه التحركات، وكانوا على يقين تام أن فشل ثورتهم يعني إعدامهم والتخلص منهم تمامًا، ومع ذلك عقدوا العزم على استكمال مشوارهم الثوري للتخلص من الملك وزبانيته في أسرع وقت دون إراقة نقطة دم واحدة.
حددت الثورة أهدافها منذ البداية في ستة محاور: إنهاء الاحتلال، والقضاء على الإقطاع، والقضاء على الرأسمالية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء جيش قوي، وضمان نظام ديمقراطي سليم، وهو ما سعى رجال الثورة لتحقيقه بالفعل بعد رحيل الملك واستتباب الأمر بيد ضباط الثورة.
وحسب إحصائيات المؤرخين، فقد نجحت الثورة في تحقيق عدد من الانجازات – داخليًا وخارجيًا – في شتى المجالات، منها على المستوى السياسي، تأميم قناة السويس، وإلغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية، وتوقيع اتفاقية الجلاء بعد أكثر من سبعين عامًا من الاحتلال، وبناء حركة قومية عربية، أما على المستوى الثقافي، إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة والمراكز الثقافية، وإنشاء أكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والأوبرا والموسيقى والفنون الشعبية، ورعاية الآثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية.
وتعليميًا، فقد حققت الثورة إنجازات عدة منها، مجانية التعليم، ومضاعفة ميزانية التعليم العالي، وإضافة عشر جامعات في جميع أنحاء البلاد، وإنشاء مراكز البحث العلمي وتطوير المستشفيات التعليمية، وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، القضاء على الإقطاع، وتمصير وتأميم التجارة والصناعة، وإلغاء الطبقات بين الشعب المصري، والقضاء على السيطرة الرأسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي.
أما إنجازات الثورة خارجيًا فيكفي أنها ساهمت بشكل كبير في توحيد الجهود العربية وحشد الطاقات لصالح حركات التحرر العربية، والتأكيد على أن قوة العرب في توحدهم، وهو ما تمخض عن إقامة الوحدة العربية بين مصر وسوريا في فبراير 1958، وعقد اتفاق ثلاثي بين مصر والسعودية وسوريا، ثم انضمام اليمن، والدفاع عن حق الصومال في تقرير مصيره، والمساهمة في استقلال الكويت، ودعم الثورة العراقية، ومن ثم أصبحت مصر قطب القوة في العالم العربي، حيث ساعدت مصر اليمن الجنوبي في ثورته ضد المحتل، وساندت الشعب الليبي فى ثورته ضد الاحتلال، كما دعمت حركة التحرر في تونس والمغرب حتى الاستقلال.
كما لعبت مصر بفضل ثورتها دورًا رائدًا مع يوغسلافيا والهند في تشكيل حركة عدم الانحياز، وتوقيع صفقة الأسلحة الشرقية عام 1955، والتي اعتبرت نقطة تحول كسرت احتكار السلاح العالمي، كذلك الدعوة إلى عقد أول مؤتمر لتضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية في القاهرة عام 1958
انقلاب عسكري
وفي المقابل، هناك من يرى أن ما حدث في 23 يوليو 1952 انقلابًا عسكريًا لا يقبل الشك، سواء في بداية التحرك أو فيما أفضى إليه من نتائج، كما أن شرعنة هذه التحركات للحكم العسكري في مصر منذ ذلك الوقت وحتى الآن، والذي أودى بها إلى مصاف الدول النامية الفقيرة، لهو دليل كاف على أن ما حدث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون ثورة، وهو ما أشار إليه الكاتب الصحفي رضا حامد في مقال له تحت عنوان “23 يوليو.. ثورة أم انقلاب؟”.
الكاتب أشار إلى أنه وبلغة أكاديمية فإن الانقلاب العسكري حسب الاقتباس من تعريف العلوم السياسية هو: تحرك للقوات النظامية للاستيلاء على الحكم باستخدام القوة المسلحة، حتى وإن أيدتها الجماهير بعد نجاحها وامتلاكها السلطة فعليًا، حيث تم التحرك دون استدعاء من الجماهير لينقلب على النظام الحاكم والحياة السياسية القائمة في نظام حكم مستقر، ملكي كان أو جمهوري لا فرق، المهم أنه تم في غيبة صاحب الحق الأصيل في سحب شرعية ذلك النظام، بناءً على ذلك فحركة ضباط 23 يوليو 1952 هي انقلاب عسكري بعيد عن صاحب المصلحة الوحيد ألا وهي الجماهير المنظمة الواعية لحقوقها.
الكاتب وجه سؤالاً للمدافعين عن ثورية تحركات 23 يوليو جاء فيه: لماذا لم تثر الجماهير لانتزاع تلك الشرعية من نظام الحكم عبر طلائع ثورية تنظم وعي الجماهير وتكشف عوار النظام وقوام سلطاته وأحزابه المناصرة والمعارضة غير المنتجة لحالة تداول سلمي للسلطة؟ ثم أشار إلى حقيقة ما تم بعد إسقاط الملك، حيث استولى الضباط على الملكيات الخاصة والقصور والإقطاعيات، وأمموها لصالح الطبقة الحاكمة البرجوازية الجديدة وقاموا بتوزيع الفتات من ملكية الأراضي الزراعية على البروليتاريا، في إجراء كان ظاهره مصلحة الفقراء والأجراء المُعَدمين، وباطنه كان نكايةً وانتقامًا من الأمراء والرأسماليين والبرجوازية الكبيرة وتكسير لقواعد الحكم الملكي، ليظهر كإجراء من إجراءات الانحياز الطبقي المزيف وكتطبيق عملي للديماجوجية في تحييد الجماهير عن صراع التشكل الطبقي الجديد وتحويل ملكية الملك الفرد إلى جمهورية الضباط.
حامد شنّ هجومًا شرسًا على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، واتهمه بالعمل لحساب تمجيد نفسه وليس لمصلحة وطنه، بقوله: ثم جاء التأرجح بين فاشية موسولينى ونازية هتلر وثورية جيفارا وانقلابية ستالين فكان الناتج ديكتاتورًا مسخًا من كل الديكتاتوريات قام بمساعدة حركات التحرر في الجزائر واليمن فقد فيها آلاف الجنود المصريين أرواحهم، فقط لتحقيق حلم المجد للزعيم، الزعيم الذي قتل الحركة الطلابية وأقام مذبحة القضاة، وعطل الحياة النيابية، وعطل الدستور، وأمم الصحافة، وأوجد منصب الرقيب على النشر والإبداع، وعسكر المناصب، وأعدم المعارضين الذين شرعنوا حكمه، فكان نتيجته نشوء دولة الفساد، فشهدنا إهمال قادة الجيش لدورهم في التدريب وقيادة الجيوش من داخل العوامات وقصور الحكم وصعود مراكز القوى ما أدى إلى هزيمة البطل التي سميت نكسة 1967 تزويرًا وتلطيفًا.
الكثير من المؤرخين المناوئين لـ 23 يوليو، أشاروا إلى أن ما حدث بعد ذلك يجيب على تساؤل ما إذا كانت ثورة أم انقلاب، فما وصلت إليه مصر من تردي في الأحوال المعيشية، وسيطرة بعض ضباط الجيش على ممتلكات الدولة، ونكسة 67 وإعادة احتلال سيناء، وقتل عشرات الآلاف من الجنود المصريين في اليمن والجزائر، وتراجع قيمة الجنيه المصري، وتفشي الظلم، وانتهاكات حقوق الإنسان، وانتشار المعتقلات والسجون ومحاكم التفتيش، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، وانتشار التجسس بين المواطنين، فضلاً عن تراجع مصر عربيًا وإقليميًا ودوليًا بسبب الحكم العسكري من أكثر الأدلة الدامغة على أن ما حدث انقلابًا بكل المعاني، وللوقوف على الإجابة عن هذه الإشكالية، كان التعرض لشهادات من شاركوا في هذه التحركات خير دليل على حقيقتها.
الأسرى العرب في نكسة 1967
محمد نجيب: انقلاب فحركة فمباركة فثورة
أجاب اللواء محمد نجيب، أول رئيس مصري بعد الجمهورية، في كتابه “كنت رئيسًا لمصر” على سؤال: 23 يوليو ثورة أم انقلاب، بقوله: “من يؤيدنا ويتحمس لنا، يقول ثورة! وكأنه يكرمنا، ومن يعارضنا ويرفض ما فعلنا يقول انقلاب وكأنه يحط منا، إن تحركنا ليلة 23 يوليو، والاستيلاء على مبنى القيادة كان في عرفنا جميعًا انقلابًا، وكان لفظ انقلاب هو اللفظ المستخدم فيما بيننا، ولم يكن اللفظ ليفزعنا لأنه كان يعبر عن أمر واقع، ثم عندما أردنا أن نخاطب الشعب، وأن نكسبه إلى صفوفنا، أو على الأقل نجعله لا يقف ضدنا، استخدمنا لفظ الحركة، وهو لفظ مهذب وناعم لكلمة انقلاب، وهو نفس الوقت لفظ مائع ومطاط ليس له مثيل ولا معنى واضح في قواميس المصطلحات السياسية، وعندما أحسسنا أن الجماهير تؤيدنا وتشجعنا وتهتف بحياتنا، أضفنا لكلمة الحركة صفة المباركة، وبدأنا في البيانات والخطب والتصريحات الصحفية نقول حركة الجيش المباركة، وبدأت الجماهير تخرج إلى الشوارع لتعبر عن فرحتها بالحركة، وبدأت برقيات التأييد تصل إلينا وإلى الصحف والإذاعة، فأحس البعض أن عنصر الجماهير الذي ينقص الانقلاب ليصبح ثورة قد توافر الآن، فبدأنا أحيانًا في استخدام تعبير الثورة، إلى جانب تعبيري الانقلاب والحركة”.
يذكر أن نجيب كان أول ضحايا عبد الناصر بعد الإطاحة بالنظام الملكي، حيث أصدر أمر اعتقال له، ووضعه تحت الإقامة الجبرية لعقود طويلة، فضلاً عن محو اسمه وتاريخه وإنجازاته من كتب التاريخ في مصر.
أثناء اعتقال محمد نجيب من مكتبه
السادات وانشغال ناصر بأمنه الشخصي
أما الرئيس محمد أنور السادات، فقط تطرق في كتابه “البحث عن الذات” إلى ثورة 23 يوليو، مشيرًا أنها لم تحقق أهدافها نظرًا للصراعات الشخصية التي فرضت نفسها بين الضباط الأحرار بعد ذلك، حيث قال “قد أتت بأفكار جديدة وحاولت جاهدة أن تنقل المجتمع المصري إلى المرحلة الحضارية التي يعيشها اليوم، ولكن يجب أن أعترف بأن النجاح لم يحالفنا بالكامل فيما أردنا تحقيقه لأسباب كثيرة منها الصراعات الشخصية، ومنها أيضًا عدم وضوح الرؤيا بالقدر الكافي لا في وقت مجلس قيادة الثورة ولا بعد أن أصبح جمال عبد الناصر رئيسًا للجمهورية، فقد كان بطبعه كثير الشك، ولذلك انشغل بأمنه عن الرؤية البعيدة وعن أهم وأثمن ما في الوجود وهو الإنسان”.
السادات وعبدالناصر في زيارة لأحد مواقع الجيش
ولمواقع التواصل رأي آخر
تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الذكرى الـ 64 لـ 23 يوليو، من خلال بعض التعليقات الساخرة التي تكشف حجم المقارنة بين الأهداف التي دعا إليها الضباط الأحرار حينها، وبين ما وصل إليه الحال الآن، ونرصد هنا بعضًا مما قيل في هذا الشأن.
بالرغم من القضاء على حركة الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952 نهائيًا بثورة التصحيح التي قادها السادات في 15 مايو 1970، والتي أطاحت بما تبقى منها، إلا أنه سيظل هذا اليوم حدثًا هامًا في مسيرة التاريخ المصري، وبصرف النظر عن توصيف هذا اليوم، ثورة كان أم انقلاب، سيظل علامة فارقة في ضمير الأمة العربية، له ماله وعليه ما عليه، ليبقى السؤال: متى ينتهي الجدل الدائر بين المؤيدين لناصر والمعارضين له حول ماهية 23 يوليو؟ وهل إعادة استنساخ هذه التحركات من جديد سيأتي بنفس النتائج، وعود براقة ونتائج على الأرض غير ملموسة؟