اشتعل الجدل بين مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وبالطبع حضرت المقارنة بين الأحداث هناك وبين ما حدث في مصر قبل 3 أعوام.
اللافت أن النخب التي تسمي نفسها “مدنية” في مصر لم تخرج في إطار معالجتها عن نفس التحليل الذي تقدمه حول ما يحدث في بلدها، فهي تعتبر أن أردوغان وخصومه على نفس الدرجة من السوء (مثل ما تقوله عن العسكر والإخوان)، وأن محاولة الانقلاب ستكون نتائجها سيئة سواء نجحت أم فشلت.
الحياد الزائف
على سبيل المثال، شبه رئيس تحرير صحيفة “الأهرام ويكلي” السابق “هاني شكر الله” المعركة بين الحكومة الشرعية المنتخبة في تركيا وبين الانقلابيين بأنها “اختيار بين الطاعون والكوليرا” مؤكدا أن ذلك ليس اختيارا. كما استعان بتعليق من أحد مستخدمي موقع تويتر مؤيدا إياه يقول “انقلاب غير ديمقراطي فشل في الاطاحة بنظام غير ديمقراطي. الديمقراطية لم تفز، فلم تكن نلعب”.
أما الكاتب –والمذيع حاليا- تامر أبو عرب، فقد اعتبر أن ما يقوم به “دراويش أردوغان” على حد وصفه، يشبه ما يقوم به أنصار السيسي في مصر، وأن المقولات التي ينطلق منها هؤلاء “الدراويش” هي نفس المقولات التي يرددها أنصار النظام، وأنهم لا ينقصهم سوى استخدام نفس مصطلحات المذيع أحمد موسى، المؤيد للسيسي. كما علق في مناسبة أخرى قائلا إن “الظالمين يضربون الظالمين”.
تشبيه أردوغان بالسيسي
وبعد التأكد من فشل محاولة الانقلاب، واتخاذ السلطات التركية قرارات توقيف وإبعاد عن الوظائف بحق الآلاف من المشتبه في تورطهم في محاولة الانقلاب، فقد انتقل الجدل بين النخب المصرية إلى مستوى آخر، وهو تشبيه ما يقوم به أردوغان بما يقوم به السيسي في مصر. وحاول الكثيرون البرهنة على “أخلاقية” موقفهم بطرح سؤال: ماذا لو حدث انقلاب على السيسي؟ وهل سيتخذ معارضو الانقلاب في تركيا من المصريين نفس الموقف في هذه الحالة؟ أم سيؤيدون الانقلاب على السيسي لأنه خصمهم؟
نجد هذا الموقف متمثلا فيما قاله الكاتب “علاء الأسواني” الذي اعتبر أن ما يقوم به أردوغان يماثل ما يفعله السيسي مع الإخوان في مصر، معتبرا أن الإسلاميين والعسكريين “وجهان لفاشية واحدة”.
يثير هذا الجدل أسئلة حول المستوى المنحدر -وفي أحيان كثيرة المنحط- ذلك الذي وصلت إليه النخبة المدنية المصرية، الذي وصل إلى تشبيه رئيس منتخب شرعي يكافح محاولة انقلاب، برئيس آخر وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري بالدبابات ضد المؤسسات المنتخبة، واعتقل عشرات الآلاف من أبناء شعبه وقتل آلافا أخرى. كما وصل إلى تجاهل حقيقة بسيطة وبديهية للغاية، وهو أن أردوغان جاء إلى الحكم عبر صناديق الانتخاب!
والحقيقة أن تلك النخب لو كانت صادقة مع نفسها فعلا، فإنها لم تكن لتشبه أردوغان بالسيسي على الإطلاق، بل كان من المفترض أن تشبه أردوغان بمرسي والإخوان، ذلك أن مرسي والإخوان كانوا يحكمون مصر عبر انتخابات ديمقراطية ونزيهة، حتى جاء السيسي وأقصاهم عن المشهد بالدبابات، ولذلك فإن مرسي والإخوان هم في وضع مشابه تماما لموقف أردوغان وحزب العدالة والتنمية في تركيا، مع الفارق أن ما نجح فيه الانقلابيون في مصر فشلوا في تحقيقه في تركيا، ومع الفارق في نجاح أردوغان والعدالة والتنمية، مقابل فشل مرسي والإخوان لأسباب عديدة.
أما الآخرون الذين تساءلوا عن الموقف في حال حدوث انقلاب على السيسي المنقلب أصلا، فقد كان أولى بهم أن يتساءلوا مثلا: ماذا لو كان هناك رئيس آخر غير مرسي وحاولت جماعة الإخوان الانقلاب عليه عبر اختراق أجهزة الدولة والجيش والقضاء؟ عندها فعلا سيكون الرد بمثابة اختبار لاتساق معارضي انقلاب تركيا مع أنفسهم.
نعود إلى حملة الاعتقالات في تركيا، والتي كانت مقتصرة في البداية على الجيش والشرطة، إذ انطلق البعض في انتقاد كبير لتلك الحملة واصفا إياها ب”الانتقام” زاعمين أن أردوغان إنما ينتقم من “معارضيه” أو “خصومه” متناسين أو متجاهلين حقيقة أن خصوم أردوغان ومعارضيه السياسيين وقفوا معه ضد الانقلاب، وأعلنوا رفضهم له، وساندوا الإجراءات المتخذة بحق المتهمين بالضلوع في التخطيط للمحاولة -مع الإقرار بأهمية عدم المبالغة في الإجراءات العقابية والوقائية حتى لا تطال أبرياء- كما أن العلاقة بين أردوغان وخصومه أصبحت على أفضل ما يكون بعد هذا الموقف الموحد الذي اتخذته الأحزاب السياسية.
فيما رفض الحقوقي “جمال عيد” ما سماها “حملة الاعتقالات الواسعة في تركيا والتنكيل بالقضاة والصحفيين والابتعاد عن سيادة القانون” مؤكدا أن ذلك يحول أردوغان إلى “ديكتاتور”. ينطلق “عيد” في انتقاداته تلك إلى أن الأرقام المعلن عن توقيفها تبدو كبيرة، إذ أنها بالآلاف، رغم أن ذلك يبدو أمرا طبيعيا عندما نتحدث عن محاولة انقلاب لابد أن يشارك فيها آلاف الأشخاص من مختلف مؤسسات الدولة. رغم ذلك أيضا فإنه من المرجح –بل ومن المؤكد- أن تتسبب تلك الحملة من الاعتقالات والإيقافات في إيقاع الظلم ببعضهم وتضررهم بدون وجه حق، لكن في النهاية، لا أحد يعلم نسبة هؤلاء، ولا توجد لدى الأستاذ جمال عيد، ولا لدى كاتب هذه السطور، ولا لدى أي شخص القائمة النهائية للمتورطين الحقيقيين في الانقلاب، وبالتالي لا يوجد معيار للحكم على تلك الحملة وما إذا كانت ظالمة أو عادلة، إلا عبر فحص ملفات هؤلاء الأشخاص والتحقيق فيها، وهو ما يحدث حاليا من قبل الجهات المعنية في تركيا، وهي التي ستقرر الإفراج عمن لا ذنب لهم أو إعادتهم إلى عملهم مرة أخرى، إذ أن كل تلك القرارات مؤقتة وتتصل بتدابير احترازية لمنع محاولات انقلاب أخرى. وبالفعل تقرر الإفراج عن 1200 جندي من المشاركين في الانقلاب بعد التأكد من أنه قد تم خداعهم من قبل قادتهم وأنهم لم يكونوا يعلمون حقيقة تحركاتهم العسكرية، ويحدث هذا بعد أسبوع واحد فقط من محاولة الانقلاب.
الانحياز للعسكر
بمراجعة بسيطة لجانب من مواقف النخبة المدنية تجاه ما حدث في مصر قبل 3 أعوام، يكشف لنا عن السبب الذي جعل تلك النخب تقوم بتمييع الموقف إلى هذا الحد حاليا. إذ أن جانبا كبيرا منهم لم يميعوا الموقف آنذاك مثلما فعلوا في تركيا، بل انحازوا بشكل واضح وصريح إلى جانب العسكر في انقلابهم ضد الديمقراطية. وتجاهلوا تسمية ما حدث بأنه انقلاب لوقت طويل، وبعضهم مازال مصرا حتى الآن على الإنكار، والتصميم على تسمية ما حدث بأنه “موجة ثورية”.
لنأخذ أمثلة ممن سبق أن عرضنا مواقفهم سابقا، فقد ساند الكاتب علاء الأسواني الانقلاب بكل قوة في بدايته، وكتب طويلا في مدح تلك الفاشية العسكرية التي يهاجمها الآن، واصفا السيسي بأنه “بطل قومي” ومشبها إياه بالجنرال الأمريكي دوايت أيزنهاور، ومعتبرا أن الشرطة المصرية تلعب “دوراً عظيماً في مواجهة العنف والإرهاب”، وإن هذه الحرب تعني أنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وليس من حقنا انتقاد أي تصرفات من الدولة حتى لو كانت فردية” على حد قوله. كما كتب محرضا على فض اعتصام رابعة بالقوة، متهما كل من يتسبب في تأخير الفض ب”إهدار ما أنجزته ثورة 30 يونيو” والآن يأتي ليتباكى على الحريات الضائعة في مصر وتركيا.
أما الكاتب هاني شكر الله، فقد خالف ما ادعاه سابقا حول الاختيار بين الكوليرا والطاعون، وانحاز إلى أحدهما عندما أيد الانقلاب العسكري في مصر، وكتب مبررا للانقلاب وجرائمه، ومقدما النصائح تلو الأخرى للسلطات الانقلابية لمواجهة الضغوط الدولية التي اعتبرت ما حدث انقلاب غير شرعي.
الكاتب تامر أبو عرب، الذي وصف حملة الاعتقالات التي أعقبت محاولة الانقلاب في تركيا ب”الهجمية والانتقام من المشاركين في محاولة الانقلاب” كان ممتنا للغاية لانقلاب السيسي قبل 3 أعوام، وكان مؤيدا لفض اعتصام رابعة بالقوة، ووصل به “الامتنان” للسيسي لدرجة أنه كتب مقالا بعنوان “يا سيسي كمل جميلك” يقول فيه “عن نفسي لا أتوقع أن يترشح الفريق عبد الفتاح السيسي للرئاسة أو حتى يسمح لشخصية عسكرية بالترشح، لأن خطوة مثل تلك قد تنسف كل الجهود التي بذلتها الدولة المصرية للتأكيد أن ما حدث في 3 يوليو لم يكن انقلابًا عسكريًا، لكن يبقى الفريق مطالبًا بوقف هذه الترهات بالإعلان صراحة في أحد خطاباته أنه لن يترشح للرئاسة تحت أي ظرف، وعدم الاكتفاء بتصريحات المقربين منه بأنه لا يفكر في الترشح” وأقر أبو عرب بصورة صريحة بانحيازه إلى الانقلاب عندما كتب يؤكد أنه سيختار “الاستبداد” زاعما أن مناهضة الانقلاب ستؤدي إلى “الاحتلال” وبالتالي اعتبر أبو عرب أن اختياره للاستبداد هو اختيار أخلاقي مبرر. لكن أبو عرب على ما يبدو قد اكتفى من الانحياز إلى طرف عندما تعلق الأمر بتركيا.
تأتي تلك المواقف لتؤكد أن هؤلاء في الحقيقة ليسوا محايدين كما يدعون، بل هم منحازين بشكل واضح وفج إلى جانب على حساب آخر، لكنهم يغطون ذلك الانحياز برطانة لغوية تساوي بين الضحية والجلاد لتبرير مواقفهم المخزية.
فرحة الإسلاميين
كان من المتوقع أن يتنفس الإسلاميون الصعداء بعد فشل محاولة الانقلاب، لكن بعض من النخب المدنية المصرية لم يعجبه ذلك، ووجدنا عددا من هؤلاء يقوم بالهجوم على رد فعل الإخوان والإسلاميين، اشترك فيه “جمال عيد” الذي وصف فرحتهم بفشل الانقلاب بأنها “تحريض على الدم والغل والانتقام، وليس المحاكمات العادلة والتحقيقات النزيهة” معتبرا أن ذلك “يدفع بالكثيرين لأحضان العسكر، خوفا من دمويين متربصين ومنتظرين ومتعطشين لسفك الدماء” وهي اتهامات جزافية أكثر منها حقيقية، فمن الطبيعي أن يفرح الإخوان والإسلاميون بفشل الانقلاب، لأنه كان تهديدا وجوديا لهم، فتركيا واحدة من آخر المعاقل التي استضافتهم وأسرهم وحمتهم من بطش العسكر في مصر، كما أن أولى القرارات المتوقعة للانقلاب حال نجاحه كانت ستكون بلا شك إما التنكيل بهم أو ترحيلهم إلى بلادهم ليواجهوا مصيرا أسود هناك، ولذلك تبقى ردود الأفعال مفهومة حتى وإن شابتها بعض المبالغة. إضافة إلى أن هذا التعليق يتجاهل تعليقات أخرى لا تقل تواجدا لم تذهب إلى أي تحريض. كما أن مؤيدي العسكر لا يحتاجون إلى تعليقات من الإسلاميين ليصطفوا مع العسكر لأنهم اصطفوا معه بالفعل، ولن يذهبوا إليه بعد 3 سنوات من القمع إلا لو كانوا مؤيدين له منذ البداية.
وفي النهاية لن يستمع أردوغان أو غيره من المسؤولين الأتراك إلى ذلك الجدل بين المصريين، وبالتالي لن يؤثر كثيرا تأييد أو معارضة المصريين على فيسبوك لما يحدث في تركيا، عكس ما قامت به النخبة المدنية من تأييد للعسكر في مصر، عندما كان تأييدهم مؤثرا وخلق غطاء سياسي لانقلاب السيسي، وهو ما افتقده عسكر تركيا، ما أدى إلى تعرية الانقلاب سريعا وسقوطه خلال ساعات، وهذا فارق آخر مهم يتغافل كثيرون عنه.
المصير
أما المستوى الأغرب والأعجب من المواقف، فهو ذلك الذي اتخذه جانب ثالث من النخبة المدنية، وعبر عنه “أحمد سميح” مدير مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف، الذي دعا متابعيه إلى تأمل فرحة أنصار جماعة الإخوان في مصر بفشل انقلاب تركيا ودعمهم لما يقوم به أردوغان فيما سماه التنكيل بآلاف المدنيين في تركيا” مؤكدا أن ذلك كان سيصبح مصير النخبة المدنية التي دعت إلى مظاهرات 30 يونيو في حال فشل الانقلاب الذي قاده السيسي. ويأتي وجه الغرابة، ليس في كون الانتهاكات المرتكبة في عهد الانقلاب أسوأ بآلاف المرات من أي انتهاكات حدثت قبل ذلك، سواء في عهد مرسي أو المجلس العسكري و حتى المخلوع مبارك، بل في أن سميح نفسه تعرض لمصادرة أمواله وأموال المركز الحقوقي الذي يديره، والذي تعرض للإغلاق أيضا، كما اضطر سميح إلى مغادرة مصر والبقاء خارجها منذ فبراير/ شباط الماضي حتى الآن. كل ذلك رغم أنه مازال مؤيدا بشدة للانقلاب على مرسي ومازال غير نادم حتى الآن على مشاركته في ذلك، بل ويعتبر أن ما تعرض له في عهد السيسي أفضل من استمرار حكم مرسي، واصفا ذلك بأنه “على قلبه زي العسل”.
الشعب
تعمدت النخبة المدنية المصرية تجاهل العملية الديمقراطية التي جاءت بأردوغان رئيسا، مثلما أيدت الانقلاب الذي جاء بالسيسي رئيسا وتغاضت عن وصفه بالانقلاب، ولذلك فإن أردوغان والسيسي متشابهان، فقط إذا تجاهلنا عاملا بسيطا جدا: الشعب! الذي هو مصدر الشرعية، وهو الذي أراد أردوغان ولم يرد السيسي، ولذلك فقد احتقر هؤلاء الشعب في الحالتين وانقلبوا على إرادته مرتين: الأولى انقلاب فعلي ساهموا فيه في مصر، والثاني “افتراضي” تمنوا حدوثه وساندوه بمواقفهم الأخلاقية الحيادية الزائفة.