بينما أنا مستغرقٌ بمتابعة آخر أخبار ومستجدات محاولة الانقلاب الفاشلة، التي شهدتها الجمهوريّة التركيّة منذ حوالي الأسبوع، والتي شغلت شاشات المحطّات التلفزيونيّة وصفحات الشبكة العنكبوتيّة بتقلّباتها الدراميّة المثيرة وتطوّراتها المتسارعة الخطيرة، تبادرت إلى ذهني بضعة لقطاتٍ من لحظات الجنون والدراما الكرويّة، التي لطالما عوّدت كرة القدم متابعيها ومحبّيها على تقديمها لهم، على أطباقٍ من المتعة المحضة الممزوجة بالإثارة الخالصة، والتي قد تنتهي بدموعٍ حارّةٍ يسكبها لاعبو الفريق الخاسر، ما تلبث أن تجففها مصافحةٌ مشجّعةٌ أو عناقٌ ودّيٌّ ومواساةٌ صادقةٌ من قبل لاعبي الفريق الفائز، تعيد الأمر إلى نصابه، الذي لا يعدو كونه تنافسًا رياضيًّا، بعيدًا عن صراعات السياسة الدمويّة وأحقادها الدفينة.
ذلك الجنون الكرويّ الذي تقدّمه قطعة الجلد المدوّرة لأحبائها، هو ما دعا لتسميتها بالساحرة المستديرة، فهي تسحر الألباب بمفاجآتها العجيبة وتقلّباتها المدهشة وأحكامها غير المنطقيّة في كثير من الأحيان، والتي نراها جليّة من خلال استعراض أبرز الانقلابات الكرويّة! وما أدراك ما الانقلابات الكرويّة؟ إنّها بالضبط لحظات الجنون والدراما التي نتحدّث عنها، والتي غيّرت خلال دقائق أو هنيهاتٍ تاريخًا كرويًّا لبلدٍ كامل!
إليكم أشهر 10 ملاحم عودةٍ كرويّة (Comebacks) في تاريخ البطولات الكبرى، تمكّنت خلالها الفرق المتأخّرة في النتيجة من إحداث انقلاباتٍ ناجحةٍ أطاحت بخصومها وقلبت الطاولة عليهم، لتحفر اسمها في التاريخ الكرويّ تحت اسم: أبطالٌ لا يعرفون المستحيل:
1- نهائي كأس العالم 1954 بين ألمانيا الغربية و المجر: 3-2
أحرز ذهبيّة أولمبياد هلسنكي عام 1952، ولم يخسر منذ 49 مباراةً على مدى 4 سنوات، واكتسح بطل العالم السابق الأورغواي ووصيفه البرازيل بنتيجة 4-2 في الدورين السابقين لمونديال سويسرا 1954، إضافةً لفوزه على ألمانيا ذاتها في الدّور الأوّل بنتيجة 8-3!
إنّه منتخب المجر، الذي كان أفضل منتخبٍ على وجه الأرض في تلك الحقبة، وقد بلغ نهائي كأس العالم للمرّة الأولى في تاريخه، ليواجه المنتخب الألماني في المباراة التي استضافتها بيرن السويسريّة، والتي دشّنها نجوم المجر بهدفين في غضون 8 دقائق، ظنّ الجميع على إثرهما أنّ رفاق بوشكاش وكوشيش في طريقٍ ممهدةٍ لتكرار انتصار الدّور الأوّل، ولكنّ الماكنات الألمانيّة كان لها رأيٌ آخر، حين انتفضت وأحدثت انقلابًا أسفر عن هدفين قبل نهاية الشوط الأوّل، ليدخل الهنغاريّون الشوط الثاني بضغطٍ رهيبٍ بغية حسم الأمور، ولكنّ المفاجأة حصلت والانقلاب أفلح، عندما سجّل هيلموت ران هدف الألمان الثالث قبيل النهاية ب6 دقائق، ليحرم المنتخب الأفضل حينها من تتويجٍ بدا دانيًا، ويطرّز بدوره أوّل نجمةٍ عالميٍّة على قميص منتخب المانشافت، فيما يُعرف بمعجزة بيرن.
2- نهائي كأس العالم 1950 بين الأورغواي والبرازيل: 2-1
البرازيل تلعب على أرضها وأمام 200 ألفٍ من أنصارها، الذين احتشدوا في استاد ماراكانا الشهير بريو دي جانيرو، والخصم منتخب الأورغواي الذي اكتسحته البرازيل في آخر مواجهتين بينهما بنتيجة 6-1 و7-1.
كلّ الظروف بدت مواتيةً لأبناء السامبا لتحقيق لقبهم العالميّ الأوّل، وخاصّةً مع افتتاح فرياكا التسجيل للسيليساو مطلع الشوط الثاني، ولكنّ أبناء الجارة الصغرى الأورغواي لم يكونوا بالسّهولة التي توقّعها البرازيليين، فقد عادوا في النتيجة بهدفٍ سكيافينو، قبل أن يقلبوا الطاولة على البرازيليين بهدفٍ قاتلٍ سجّله غيغيا قبل النهاية ب11 دقيقة، لتمضي الدقائق بسرعةٍ، ويحدث ما لم يتوّقعه الجميع، وتتوّج الأورغواي بلقبها العالميّ الثاني، وسط حسرة البرازيليين التي وصلت إلى حدّ وصفهم تلك الخسارة بمأساة الماراكانا أو ما يُعرف ب(ماراكانازو)!
3- نهائي دوري أبطال أوروبّا 2005 بين ليفربول وأ.س ميلان: 3-3
إذا كانت خسارة المجر أمام ألمانيا عام 1954 حملت لقب معجزة بيرن، فإن هذه الموقعة حملت لقب معجزة اسطنبول!
ا.س ميلان الإيطالي أمام ليفربول الإنجليزي في ملعب أتاتورك باسطنبول، والبداية كانت صاعقةً للإيطاليين بهدفٍ لأسطورتهم باولو مالديني، أتبعه هدفين لهدّافهم الخطير هيرنان كريسبو، لينتهي الشوط الأوّل بتقدّمٍ مستحقٍّ للميلان بثلاثيّةٍ بيضاء، بدأ أنصاره وبعض لاعبيه البدلاء على إثرها بالاحتفال بلقبٍ بدا وشيكًا، ولكن ماذا حصل في الشوط الثاني؟
ليفربول يدخل مهاجمًا وسط استهتارٍ كبيرٍ من مدافعي الميلان الذين ظنّوا بأن المباراة حُسمت، فإذا بهم يُصفعون بتلقّي 3 أهدافٍ من خصمهم في غضون 6 دقائق! عبر كلٍّ من جيرارد وسميتشر وألونسو، لتشير النتيجة عند الدقيقة 60 إلى التعادل 3-3، وتعود المباراة إلى نقطة البداية، وبعد أن استنزف لاعبو الفريقين جلّ طاقاتهم، وصلوا إلى ركلات الترجيح، التي كافأت أبناء المدرّب رافا بينيتيز على انقلابهم الثوريّ، وأعلنت فوزهم باللقب!
4- نهائي دوري أبطال أوروبّا 1999 بين مانشستر يونايتد وبايرن ميونيخ: 2-1
حين تلعب أجزاء الثانية دورًا في تغيير دفّة التاريخ، فاعلم بأنّ كرة القدم غدّارة!
ملعب نيو كامب في برشلونة يعجّ بأصوات هتافات جماهير بايرن ميونيخ الألماني، والحكم ينظر إلى ساعته مع نهاية الوقت الأصلي للمباراة، وضربةٌ ركنيّةٌ للشياطين الحمر في الدقيقة 90 ينفذها نجمهم دافيد بيكهام، وتتقاذفها الرؤوس والأقدام قبل أن ينهيها البديل تيدي شيرينغهام في مرمى أوليفر كان، لتعود المباراة إلى نقطة الصفر، ويظنّ الجميع أن الحسم سيكون في الوقتين الإضافيين، ولكنّ لاعبي مانشستر بقيادة السير أليكس فيرغسون لم يقتنعوا بما بدا منطقيًّا، واستفادوا من الصدمة التي شلّت حراك البافاريين، وعالجوهم بضربةٍ أخرى كانت قاضيةً تمامًا، حين سجّل البديل الآخر سوسكاير هدف انتصار الشياطين الحمر وتتويجهم باللقب في الدقيقة 92 و36 ثانية!
5- نصف نهائي كأس العالم 1982 بين ألمانيا الغربيّة وفرنسا: 3-3
حتّى الأوقات الإضافيّة قد تشهد انقلابات!
هذا ما أثبتته مباراة العملاقين الأوروبيين ألمانيا وفرنسا، عندما انتهى الوقت الأصلي لمباراتهما بالتعادل بهدفٍ للكل، قبل أن يسجّل الفرنسيّون بقيادة نجمهم بلاتيني هدفين سريعين في غضون 8 دقائق من الشوط الإضافي الأوّل، ظنّ الجميع على إثرهما أن الأمور حسمت وأن تأهّل الديوك إلى المباراة النهائيّة بات أمرًا واقعًا، ولكن ماذا حصل في ربع الساعة الأخير؟
مهاجم فرنسا باتيستون منفردٌ تمامًا بالحارس الألماني شوماخر ومتّجهٌ لتسجيل هدفٍ رابعٍ يحسم كلّ شيء، فإذا بالحارس المتهوّر يندفع من مرماه ويصدم المهاجم الفرنسيّ بعنفٍ شديد، أسفر عن إصابته بحالة إغماء مع كسر اثنين من أسنانه، دون أن يحتسب الحكم أيّ خطأ، رغم توقّف اللعب أكثر من ربع ساعة!
وعلى إثر تلك الحادثة تشتّت تركيز الفرنسيين، فاستغلّ الألمان ذلك خير استغلال، فأحرزوا هدفين سريعين ضمنوا من خلالهما الوصول إلى ركلات الترجيح، التي أعلنت نجاح انقلابهم على حساب خصومهم المذهولين!
6- نصف نهائي بطولة أمم أوروبّا 1960 بين يوغسلافيا وفرنسا: 5-4
إنّها أوّل مباراةٍ في تاريخ البطولة الأوروبيّة الوليدة، وأصحاب الأرض الفرنسيّون يمنّون النفس بلقبٍ يعوّض إخفاقهم في بطولات كأس العالم السابقة، كانت الأمور تسير في مصلحة الديوك على أتمّ وجه، ساعةٌ من اللعب والتقدّم فرنسيٌّ بنتيجةٍ 4-2، فماذا حصل في ثلث المباراة الأخير؟
5 دقائق فحسب، كانت كافيةً تمامًا لعمالقة البلقان كي يقلبوا الطاولة على مضيفيهم، بتسجيلهم 3 أهدافٍ سريعةٍ حوّلت اسم طرف النهائي الأوروبيّ الأوّل من فرنسا إلى يوغسلافيا!
7- ربع نهائي كأس العالم 1966 بين البرتغال وكوريا الشّماليّة: 5-3
ربّ همّةٍ أيقظت أمّة! هذا ما أثبته الفهد البرتغالي الأسود أوزيبيو، حين حفظ لبلاده ماء وجهها وأنقذها من خروج تاريخيٍّ مهين.
الشوط الأوّل قارب على النهاية، ولوحة النتائج تشير إلى تقدّم كوريا الشماليّة على البرتغال بواقع 3-0!
فإذا بالفهد الأسود يستيقظ، ويثب على فريسته محدثّا أعظم انقلابٍ في تاريخ كؤوس العالم، بتسجيله 4 أهدافٍ خلال أقلّ من نصف ساعة، قضى بها على حلم الشمشون الكوري، بإكمال مفاجأته التي أطاحت بالعملاق الإيطالي في الدّور الأوّل.
8- ربع نهائي كأس العالم 1954 بين النّمسا وسويسرا: 7-5
إنّها تمطر أهدافًا! هذا ما ردّدته جماهير ملعب لوزان بسويسرا وهي تشاهد مهرجان الأهداف الأكبر في تاريخ كؤوس العالم.
أصحاب الضيافة دخلوا المباراة بقوّة، وتقدّموا بثلاثيّةٍ نظيفةٍ بعد مرور نصف ساعة، قبل أن يستيقظ جيرانهم النمساويون ويبادلونهم الأهداف، لينتهي الشوط الأوّل بتقدّمٍ مريحٍ لأصحاب الأرض بنتيجة 4-2.
وفي الشوط الثاني تابع أحفاد بيتهوفن وموتزارت عزفهم، الذي أصبح منفردًا بعد تعطّل الساعات السويسريّة، فزرعوا في مرمى مضيفيهم 5 أهدافٍ خلال شوطٍ واحد، قلبت الأمور رأسًا على عقب، وأهدت التأهّل لأبناء أوستريا.
9- ربع نهائي كأس العالم 1970 بين ألمانيا الغربيّة وإنجلترا: 3-2
انتقام الماكنات! كان العنوان الأبرز لمواجهة الألمان والإنجليز في ربع نهائي مونديال المكسيك.
أبطال العالم الإنجليز، الذين أحرزوا لقبهم العالميّ اليتيم على حساب الألمان ذاتهم قبل 4 سنوات، كانوا في موقفٍ ممتازٍ لتكرار إنجازهم، فالنتيجة تشير إلى تقدّمهم بهدفين نظيفين مع انتصاف الشوط الثاني، ونجومهم بقيادة بوبي تشارلتون يصولون ويجولون في الملعب، على حساب تواضع مستوى الألمان.
وفجأةً! استيقظ الثأر القديم، وتذكّر لاعبو المانشافت بقيادة قيصرهم فرانس بيكنباور بأنّ المستحيل ليس ألمانيًّا، فسجّلوا هدفين عدّلوا من خلالهما الكفّة، قبل أن يُجهز الهدّاف غيرد موللر على خصومه بهدفٍ ثالثٍ في الوقت الممدّد، قاد من خلاله المانشافت لانتصارٍ ثأري، محا آثار هزيمة نهائي 1966.
10- ربع نهائي دوري أبطال أوروبّا 2004 بين ديبورتيفو لاكورونيا وأ.س ميلان: 5-4
ألا يكفي فوز نجوم الميلان على أرضهم بنتيجة 4-1 لضمان التأهّل إلى نصف النهائي؟
الجواب هو: لا، إذا كان المنافس من نوعيّة ديبورتيفو لاكورونيا!
ذلك الفريق الإسباني الذي صعد نجمه فجأةً مطلع الألفيّة، وأصبح رقمًا صعبًا في المنافسات المحليّة والأوروبيّة، لم يكن أشدّ المتفائلين به وأشد المتشائمين بالميلان، يجرؤ على توقّع انقلابه الجريء! ولكنّ الانقلاب حصل، والرباعيّة الإيطاليّة تمّ تعويضها في الريازور، وشجاعة نجوم الديبور بقيادة فاليرون ولوكيه وفران، تغلّبت على خبرة وشهرة نجوم الميلان، لتنتهي مباراة الإياب في إسبانيا بنتيجة 4-0 لأصحاب الأرض، وتشير لوحة النتيجة النهائيّة إلى تفوّق لاكورونيا بواقع 5-4 في مجموع المباراتين، بعد واحدةٍ من أشهر ثورات الانقلاب في دوري أبطال أوروبا.