فشل المحاولة الانقلابية في تركيا والتي وقعت في الخامس عشر من تموز 2016 لا يعني أبداً أن الأمر انتهى عند هذا الحد، وأن الانقلابيين ومن يقفون وراءهم قد هزموا تماماً. إن حيثيات محاولة الانقلاب والظروف التي تحيط بتركيا، والمعركة المحتدمة في الشرق الأوسط تشير بما لا يدع مجالاً للشك بأن محاولة الانقلاب ليست إلا جولة من جولات الصراع، وأن الانقلابيين ومن يقفون وراءهم لا بدَّ وأنهم يحضرون العدة للجولة القادمة، وكما قال الرئيس في إحدى مقابلاته التلفزيونية بعد محاولة الانقلاب: “هم عندهم خططهم (أي الانقلابيون)، وكذلك نحن عندنا خططنا.” إذن ما هي الخطوة القادمة للانقلابيين؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا التساؤل الكبير، أو التنبؤ بشكل دقيق بالخطوة القادمة للانقلابيين، ولكن في هذا المقال أحاول تسليط الضوء ربما على أخطر تلك الخطوات التي قد يقدم عليها هؤلاء الانقلابيون ألا وهي اغتيار الرئيس أردوغان.
إن من أبرز المشاهد في ليلة الانقلاب وأكثرها حساماً تلك الرسالة المباشرة التي خرج بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر تطبيق “فيس تايم” على قناة CNN TURK يدعو فيها شعبه للنزول إلى الميادين للتصدي للانقلاب. تكمن أهمية هذه الرسالة – بالاضافة إلى مضمونها وتوقيتها- في إثباتها أن الرئيس مازال على قيد الحياة، وأنه مازال حراً طليقاً. إن العقدة المفصلية في الانقلابات والتي تضع حداً فاصلاً بين نجاحها وفشلها هي قدرة الانقلابيين على القبض على رئيس الدولة وإعدامه أو زجه في السجن أو نفيه خارج البلاد.
إذن يكمن جزء كبير من فشل الانقلاب بنجاة الرئيس أردوغان، وتحركه السريع والذكي والخاطف في الظهور للعلن، وتحريك الشعب وتحفيزه للمواجهة، وهو بذلك قد اكتسب مزيداً من الشعبية، وبرز كزعيم محنك وجريء ومنتصر. وعلى الرغم من أن نهضة تركيا الحديثة تعود في جزء كبير منها للمشروع الذي حمله أردوغان ونفذه من خلال برامج حزب العدالة والتنمية، فلا شك بأن انتصاره بالجولة الأخيرة على الانقلابيين سوف يزيد من حضوره السياسي والشعبي، ويجعل منه ربما أقوى رئيس للجمهورية التركية منذ رحيل مؤسسها كمال أتاتورك.
إذن، فمحوارية شخصية الرئيس أصبحت عقدة الصراع، وهو بذلك يشكل الهدف الرئيس للانقلابيين حيث يمثل بوابه الحصن التي إن كُسرت أصبح احتلال الحصن مسألة وقت. وإذا كان الانقلابيون قد فشلوا في اغتياله أثناء محاولة الانقلاب فهذا لا يمنع أن يكون اغتيال الرئيس الخطوة القادمة للانقلابيين سواء من خلال استهدافه المباشر عبر عملية مسلحة أو من خلال زرع السم.
لا يمكن استبعاد فرضية اغتيال الرئيس في ظل الحالة الأمنية الرخوة، وانتشار ثقافة العنف والعنف المضاد التي تسود المنطقة ككل، هذا بالاضافة إلى أن اعدام أو اغتيال الرؤساء ليست سابقة في التاريخ التركي الحديث، حيث شهد تاريخ الجمهورية إعدام الرئيس عندنان مندريس في سبتمبر عام 1961 على إثر الانقلاب العسكري الأول الذي قاده جمال جورسيل، بينما تم اغتيال الرئيس تورغت أوزال في 17، نيسان عام 1993 وذلك حسبما كشفت عنه التقارير الصادرة عن لجنة التحقيق الخاصة بملابسات موت أوزال والتي أمر بإنشائها الرئيس السابق عبد الله غل حيث توصلت إلى أن الرئيس أوزال قتل مسموماً. وعلى إثر هذه التحقيقات تم اعتقال الجنرال السابق لاوند أرسوز بتهمه اغتياله، بالاضافة إلى تهم أخرى تتعلق بالاشتراك بمحاولة الانقلاب على حكومة العدالة والتنمية إلا أن القضاء التركي عاد وبرأ أرسوز من هاتين التهمتين وذلك في نوفمبر من عام 2014. وبالرغم من أن الشكوك في ملابسات وفاة أوزال مازالت قائمة فإن الظروف السياسية التي توفي أثنائها – والتي تمثلت بانفتاحه الكبير على المسألة الكردية؛ واقترابه من توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار مع أوجلان (الذي كان يقيم وقتها في دمشق)، بالاضافة إلى محاولة اغتياله الفاشلة عام 1988 والتي وقعت أثناء إلقائه خطاباً في مؤتمر حزبه (حزب الوطن الأم) – تدعم فرضية موته اغتيالاً.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن كلاً من الرئيسين مندريس وأوزال قد شكلا النموذج التحديثي للعلمانية التركية من خلال التخفيف من حدة المبادئ الكمالية، والانفتاح أكثر على النموذج الليبرالي المتمثل بالخصخصة الاقتصادية والتسامح الفكري والديني وهو الأمر الذي شكل التحدي الأبرز لسلطة العسكر؛ وإذا علمنا أن هذا المسار هو ذاته الذي يشكل أردوغان التتويج الحداثي له، فإن استبعاد فرضية لجوء الانقلابيين إلى اغتيال الرئيس أردوغان احتراز لا مكانه له.
إن أفضل ما يمكن أن تقوم به الحكومة التركية حالياً هو التعامل مع الأمر الواقع وفق مبدأ السيناريو المفتوح. كل شيء وارد، وأكثر ما يمكن أن نتعلمه من المتغيرات التي تجري حالياً في منطقتنا هو أن درجة اليقين منخفضة جدا، وهذا ما يعني أن الشك بكل شيء هو سيد الموقف، وهو الطريق الأقرب نحو الصواب.