ترجمة وتحرير نون بوست*
منذ ثورة ٢٥ يناير، عادت المؤسسة العسكرية إلى واجهة المشهد السياسي. فبين فبراير ٢٠١١ وديسمبر ٢٠١٣، ٣٤ شهرا حكمت المؤسسة العسكرية ٢٢ منهم. مرة في شكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومرة أخرى عبر رئيس مُعين بشكل مباشر، حتى في الفترة التي حكم خلالها مرسي، كان الجيش أحد صناع القرار الأساسيين في مصر.
الفترات التي تعقب الانقلابات العسكرية دائما ما تشهد حالة من القمع الوحشي، مصر لم تكن استثناء، لكن البيئة التي أعقبت الانقلاب العسكري في مصر، بلغت فيها درجات القمع وسفك الدماء درجات غير مسبوقة في تاريخها الحديث.
أعداد القتلى الذين قضوا على أيدي قوات الأمن في أقل من ٧ ساعات يوم ١٤ أغسطس في فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة تجاوزت أعداد ضحايا معمر القذافي في اليومين التي استغرقتهما مذبحة سجن أبو سليم في يونيو ١٩٩٦، وفاقت مذبحة نابليون ضمن عملية اقتحام الأزهر مع بداية الحملة الفرنسية في ١٧٩٩. مجزرة سيارة ترحيلات سجن أبو زعبل التي راح ضحيتها ٣٨ شخصا فاقت في بشاعتها مجزرة سجن طره التي ارتكبها النظام الناصري في ١٩٥٧.
القمع ليس مجانيا، وجنرالات الجيش يعرفون ذلك، لا سيما بعدما رأوا نهاية معمر القذافي، أو حتى عمر البشير الذي وُضع اسمه على القوائم السوداء. إذا كان الجيش في الفترة الماضية يحكم أو يؤثر في السلطة، فلماذا قرر الجيش أن ينقلب وأن يتبع انقلابه بذلك القدر من القمع؟ المشهد السياسي يحمل بعض التفسيرات.
الفاعلون العقلانيون .. حقا؟
نعم، بإمكان القتل الجماعي أن يكون عقلانيا. دراسات الإرهاب وعلم نفس المجرمين يعكسان تلك الفرضية. الإرهابيين في معظم الأحوال ليسوا “مجانين” بل على العكس، قد يكونون طبيعيين بشكل مدهش. لكن التفسيرات العقلانية للعنف السياسي الذي ترتكبه الدولة أو يرتكبه أفراد آخرون دوما موجود. بعد أن ننحي الأخلاق جانبا، تبقى فوائد القمع مناسبة لفاتورته بالنسبة لحسابات الجنرالات. لو أن مجموعة منهم استطاعت بالفعل أن توقف العمل بالدستور، وأن تحل البرلمان القائم، وأن تقبض الرئيس المنتخب، وأن تقتل، تجرح وتعتقل الآلاف الذين عارضوا تلك الإجراءات، وأن تفلت بأفعالها تلك بعد كل ذلك، ما الذي يدفعها للتنازل؟؟
لكن الجيش لم يكن خاسرا بأي حال من الأحوال في الفترة بين ٢٠١١ و ٢٠١٣، إنهم لم يحصلوا فقط على العديد من الميزات في عهد الرئيس مرسي، لكنهم أيضا حصلوا عليها بشكل قانوني ودستوري. في دستور ٢٠١٢ وافق أكثر من ٦٤٪ من المصريين على دستور لا يسمح لوزير الدفاع أن يكون مدنيا، وأن يتشكل مجلس الدفاع الوطني من أغلبية ذات خلفية عسكرية، هذا يعطي الحق فعليا للعسكر حق الاعتراض على أي من قضايا الأمن القومي أو القضايا الخارجية الحساسة. ويسمح الدستور أيضا بمحاكمة المدنيين عسكريا “.
“مرسي لم يضرنا بالفعل، أعني أن الأشياء التي نحن “الضباط” نهتم بها مثل الرواتب، المميزات، والمعاشات كانت جيدة للغاية” يقول ضابط في الجيش ذوي الرتب المتوسطة قبل ثلاثة أشهر من انقلاب يوليو. بالنظر إلى المميزات، والتكاليف الدموية التي أعقبت الانقلاب، يبدو أن نموذج “الفاعل العقلاني” لا يساعد على تفسير الانقلاب، إلا إذا كان هناك سوء حسابات وسوء تقدير لحجم ونطاق ومثابرة وردود أفعال مناهضي الانقلاب.
“نحن نفعلها كذلك”
تفسير آخر لسلوك الداخلية والجيش في مصر وقراراتهما يمكن فهمه من قواعد المؤسستين. فكل مؤسسة منهما لديها مجموعة من “الإجراءات القياسية للتشغيل” أو قواعد العمل الموحدة، التي تشمل القواعد الرسمية وغير الرسمية التي تحدد الفعل ورد الفعل. في حالة مواجهة الاحتجاجات على الوضع القائم، يجب البدء في العمل على نشر التخويف والقمع، هذه كانت الإجراءات القياسية في السياسة المصرية في العقود الستة الأخيرة في مصر.
طرحت ثورة يناير تحديا خطيرا لهذا النموذج، ليس فقط تحديا ظاهرا للمؤسسات، مثل الوقوف أمام قوات الأمن المركزي والشرطة العسكرية، ولكن أيضا من حيث المساءلة القانونية.
“ما حدث مع الشرطة المصرية خلال العامين الماضيين ولد بيئة جديدة. ضابط الشرطة سيكون معكم (الكلام موجه لضباط الجيش) حتى نقطة معينة. قد يضرب بالنار، قد يستخدم القنابل، والغاز والبنادق. لكن إذا مات أحد فإنه كان يُحاكم من قبل، هذه المحاكمة يجب ألا تحدث مرة أخرى، والمتظاهرون يعلمون ذلك” هذا ما يقوله عبدالفتاح السيسي في شريط فيديو مسرب.
هذا التصريح يعكس “البيئة الجديدة” حيث لا يمكن للقواعد القديمة أن تُنفذ في ظل المساءلة المحتملة، لكنه يعكس أيضا حقيقة أنه منذ إزالة مبارك وحتى عودة الجيش في يوليو، لم تشهد تلك الإجراءات والقواعد القديمة أي تغييرات أو مراجعات. يمكن للمنظمات أن تكون أسيرة لقواعدها الداخلية، عندما سُئل ضابط عن ضرورة قتل أكثر من ٥٠ متظاهر يوم ٦ أكتوبر الماضي قال “انظر، هذا هو ما اعتدنا أن نفعله لعقدين من الزمان، لقد فعلنا كما يقول الكتاب، إنه كتاب سيء، لكن لا توجد فرصة لاستبداله”
تفسير ثالث لما يحدث له علاقة بالانقسامات بين المؤسسات الأمنية والعسكرية. هذا هو ما يحدث عادة بعد الانقلابات. الانقسام بين اثنين من التحالفات الذين نفذوا الانقلاب، أحدهما الذي يدعو للقضاء على الرئيس المعزول، والآخر يدعو إلى دمج محدود وقمع مُتَحكم فيه للمعزول. المدمرون مقابل المحاورون، هذه هي الملحمة الكلاسيكية في تاريخ عسكر أمريكا الجنوبية. هذا حدث أيضا في أماكن أخرى، في يونان عقب الانقلاب ١٩٦٧، في تركيا ١٩٨٠، في السودان ١٩٨٩ وفي الجزائر ١٩٩٢ بل وحدثت في مصر عقب انقلاب ١٩٥٢. أحد فصائل المجلس العسكري أو تحالفات الانقلاب يريد العودة إلى الديمقراطية البرلمانية والشرعية الدستورية، حتى لو عادت الأحزاب الموالية للوضع الراهن (قبل الانقلاب) للسلطة عبر الانتخابات، وفصيل آخر (المنتصر غالبا)، يريد الحكم العسكري دون رادع وبدون شروط مسبقة مع قمع كل منافسيه المحتملين.
في أغسطس، قال دبلوماسي غربي متحدثا عن محمد فريد التهامي، رئيس المخابرات العامة الذي عينه الانقلاب “لقد كان أكثرهم تشددا، وأبعدهم عن الإصلاح، لقد كان يتحدث كما لو أن الثورة لم تقم، كان يتحدث كما لو أن خطأ المشير طنطاوي ومبارك والمجلس العسكري أنهم “تساهلوا” مع المحتجين” الدرس الذي تعلمه من مبارك والعسكر: أن تضرب أقوى.
وعلى الجانب “المحاور” يخرج محمد البرادعي، السياسي المدني، الذي شارك في التآمر مع المجلس العسكري لإخراج الانقلاب، ونادى بعد ذلك لإنهاء القمع الذي أعقب المذبحة الثانية ضد النشطاء المناهضين للانقلاب يوم ٢٧ يوليو
من المهم أن نذكر أن المدنيين كانوا “مدمرين” بالتساوي مع العسكريين، بما فيهم الدعاة، الصحفيين، السياسيين، رجال الأعمال والنشطاء الشباب.
عقدة التفوق
هناك بطبيعة الحال، تفسير نفسي غير عقلاني للانقلاب. فمنذ انقلاب ١٩٥٢ تم بناء “عقدة التفوق” بثبات داخل الجيش، الجنرال جمال حماد، كاتب البيان الأول لانقلاب يوليو، يذكر أن “النخبة الجديدة من الضباط، أصبحوا مجانين بالسلطة، بمجرد أن أدركوا أن كلماتهم أصبحت قوانين .. لقد أدركوا أنهم سادة مصر الجدد”
كان وجود مدني يعلن عن نفسه بأنه “القائد الأعلى للقوات المسلحة” غير مقبول بالنسبة للعديد من القادة العسكريين، ليس فقط بسبب “مدنيته”، التي تجعله أقل شأنا من العسكريين، لكن أيضا لكونه “إخوان”، حيث يُصنف على أنه فئة أدنى داخل المدنيين. “عندما يكرر مرسي أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، أتمنى لو أستطيع أن أضربه بأي شيء” يقول ضابط في إبريل الماضي.
الرقابة المدنية، حتى لو كانت من خلال مؤسسات ضعيفة، كانت من الإشكاليات من الناحية النفسية. وقد انعكس ذلك في تعليقات الجنرال السيسي في اجتماعه المسرب، “لم نر نهاية الأمر بعد، هناك برلمان قادم، سيسألون أسئلة، وأنا لا أتساءل ما الذي سنفعله حيال ذلك، علينا أن نستعد لمواجهة ذلك بدون أن يؤثر سلبا علينا”
مقال للدكتور عمر عاشور، المدرس بجامعة إكستير البريطانية، نُشر في الجزيرة الإنجليزية