عُرف أهل الفلوجة بالكرم وحسن الضيافة، فلا يكاد شخص يزور الفلوجة إلا ويلمس الكرم من أهلها، ومثلها في ذلك بقية مدن الأنبار، فحتى وإن لم يكونوا يعرفوه سيعرضون عليه بإلحاح مبيتاً يقضي ليلته فيه ووجبات طعام متكاملة إضافة إلى شخص يسمى “معزِّب” كما يدعونه، يقوم “المعزِّب” بخدمة الزائر والقيام بكل ما يحتاجه الزائر، لكن يبدو أن كل هذا الكرم لم يكن سبباً مقنعاً لكي يرد العراقيون كرم وضيافة الفلوجة كما يجب.
زرت الأسبوع الماضي رفقة فريق “شباب الخير” البغداديّ مخيّمات منطقة الحبانية. الحبانية التي كانت وجهة العشاق والمتزوجين حديثاُ والعوائل العراقية الراغبة بقضاء أوقات جميلة وفريدة، حيث السياحة والاستجمام، فالحبانية فيها بحيرة جميلة يطل عليها منتجع فيه كل أنواع الراحة، تبدو الحبانية اليوم وقد غادرت أيام سعادتها وصارت مليئة بالنازحين القادمين من الفلوجة، الذين نزحوا بسبب ظلم البغاة وقصف الغلاة العشوائي وإعراض القريب والبعيد، نزح الفلوجيون إلى محيط منتجع الحبانية دون أن تسمح لهم القوات الحكومية بدخول المنتجع وملئ الفنادق والشاليهات الفارغة أساساً بسبب إعراض الناس عن القدوم لتردي الوضع الأمني.
فور الوصول هناك، تجد أن المنظمات الإغاثية قد نصبت ما يقرب من خمسة مخيمات جوار منطقة الحبانية، تعاني كلها من أزمات حادة ونقص في الاحتياجات الأساسية، من علاج ومياه صالحة للشرب وغيرها، ومما يزيد الأمر سوءا درجات الحرارة العالية التي يشكو منها سكان البيوت والمدن، فكيف بسكان الخيام البلاستيك التي تلتهب ناراً في ساعات النهار الطويلة، حين تتجوّل في المخيم ترى أن سكان المخيم من الذين هربوا مؤخّرا على إثر المعارك الأخيرة التي انتهت بسيطرة الجيش العراقي والحشد الشعبي والعشائري عليها.
حين تدخل المنطقة تكتشف أن المخيم الواقع عند بوابة منتجع الحبانية هو الأسوأ بين المخيمات من ناحية الخدمات والتنظيم. فالمسؤول عن تنظيم المخيم لا يكاد يرى فيه، المياه التي تستخدم في الطبخ والاستحمام وللشرب هي مياه بحيرة الحبانية الآسنة وغير النظيفة، وذلك بسبب إغلاق سدود البحيرة منذ زمن، أما الخبز فتتم صناعته بأيدي نسوة المخيم بطرق بدائية، حيث يحرقون ما تيسّر لهم من مواد قابلة للحرق كالبلاستيك، رغم مضاره الصحية عند الاحتراق، لكن لا يمكن قول هذا لهن، فما الذي تملكه النساء حين يسمعن بكاء صوت طفل جائع أو مريض خائر المعدة!
حين جئنا لزيارة المخيم، جاء معنا طبيب ليرى المرضى ويقدّم لهم فحصاً وعلاجا بما تيسّر لنا جمعه من أدوية، باشرنا بعمل عيادة طبية متنقّلة في المخيم، دخلنا خيمة بعد خيمة حتى انتهينا من الكشف على كل سكان المخيم، رأينا مشاهد مؤلمة للغاية، هناك حالات لا يمكن أن تعالج عبر عيادة متنقلة، فهي مستعصية وتستلزم علاجاً متكاملاً في المستشفى، ومن بين من شاهدناهم رجل مستلقٍ على الأرض شاخص بصره لا يتحرّك أو ينطق بكلمة، يرمقنا بنظرات غريبة وبعين جاحظة، حين سألنا عنه تبيّن أنه وصل لهذا الحال بعد تعرّضه لصدمة نفسية أثناء الحرب.
كانت هناك امرأة سبعينية مصابة بمرضيْ القلب وضغط الدم، لم نستطع أن نقدم لها مساعدة أكثر من إعطائها حبوباً للقلب والضغط، ورأينا شخصاً مصاباً برصاصة قرب قلبه ما تزال تؤجّج عليه الآلام، فقد أصيب بها حتى كان يحاول الهروب من سطوة الغلاة وقصف البغاة، فتعرّض للرصاصة قبل أن تتكلّل محاولته بالنجاح، وبينما كان جزء من العلاج أن يعيش في جو حرارته معتدلة يسكن هو خيمة بلاستيكية حرارتها لاهبة،.
كانت الأمراض التي رأيناها شائعة بين سكان المخيم هي أمراض الكلى والحساسيات الجلدية بسبب المياه الآسنة وغير النظيفة التي يشربوها ويستحمون بها، فقد رأينا طفلة قد تشوّهت بشرة يديها بسبب المياه.
كنت أتجوّل في المخيم وأتحدث إلى الرجال والنساء وأسألهم عن حالهم، كانوا يتحدثون بعزّة نفس عالية وعتب كبير على من تولى مسؤولية أمنهم وطعامهم وصحتهم، ذكروا أن أيّ مسؤول لم يقم بزيارتهم، وإن كان يزورهم فمن أجل التصوير والمباهاة وتوزيع المعونات أمام عدسات الكاميرا، وكذلك عتب على الناس الذين تركوهم في العراء تحت رحمة المنظمات الإنسانية وسرّاق السياسة ومعبر الموت “بزيبز”.
قدّمنا لهم حين زرنا بعض المواد الغذائية والمياه إضافة للعيادة المتنقلة، كان حالهم سيئاً، ويبدو أنه سيأخذ وقتاً طويلا حتى يجد حلا ونهاية، فكيف ستكون نهاية هذه المخيمات وهذه المعاناة؟