من المفارقات أن “الخبراء” و”المحللين” الذين تنبأوا فرحين بأن يطاح بحزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية الأخيرة، وخاب أملهم بعد الإعلان عن فوزه الساحق، ما لبثوا هم نفسهم أن ارتكبوا خطأ أعظم وأفدح هذه المرة مع التمرد الفاشل.
فبدل أن يعبر هؤلاء عن موقف مبدئي واضح ضد الانقلابات العسكرية ودعما للديمقراطية والإرادة الشعبية، اختاروا الانحياز إلى جانب الانقلابيين وهم يقصفون البرلمان التركي بطائرات الإف 16 ويطلقون الرصاص على المتظاهرين السلميين ويسحقون أجسادهم بدباباتهم بدم بارد.
سعوا منتشين إلى تبرير مخطط الانقلاب على الحكومة المنتخبة ديمقراطيا بينما كان لا يزال قيد التنفيذ، موجهين كل سهامهم تجاه الرئيس المنتخب، بدلا من تصويبها نحو الضباط والجنود الذين تآمروا للإطاحة به.
وعندما حلت “الكارثة” ودُحِر الانقلابيون، رغم ما توفر لديهم من أسباب النجاح، تبدلت نبرة الحديث، ليس باتجاه إدانة الانقلاب، بل نحو إدانة رد الحكومة التركية عليه.. انطلقت البكائيات على الديمقراطية ومصيرها المظلم في ظل الحكم “السلطوي” “للسلطان العثماني الجديد” والتحذيرات المحمومة من انزلاق محتم نحو القمع والاستبداد الأسود!
بل ذهب أحد كتاب الأعمدة في صحيفة الصنداي تايمز البريطانية إلى أبعد من ذلك، حين أنّب الانقلابيين بمرارة– بعد إطلاق شتى الأوصاف النبيلة عليهم من “حماة العلمانية” و”قوى التقدم” و”دعاة الحداثة” – على قيامهم بالمحاولة الانقلابية في شهر يوليو (تموز) بينما “الجميع في حالة من الخدر بسبب حرارة الصيف”، وبعد شهر رمضان حيث يكون للمتدينين طاقة روحية عالية بعد “أن حرموا أنفسهم من الطعام والشراب أياما طوالا”، مشيراً عليهم بأن شهر سبتمبر (أيلول) كان يمكن أن يفيء عليهم بالنتائج المرجوة!
ولم تقصّر وسائل الإعلام اليسارية أيضا في عزف سيمفونية تبرئة الانقلابيين وشيطنة أردوغان، إذ نشرت صحيفة الغارديان الليبرالية ذات الميول اليسارية بعد سويعات من انطلاق المحاولة الانقلابية مقالا لخص بشكل فج إرادة قلب الحقائق التي تحرك آلة التضليل الغربية، يحمل هذا العنوان المضحك المبكي: “تركيا كانت تتعرض لانقلاب بطيء على يد أردوغان -وليس على أيدي العسكر”!
ولم يكن موقف الحكومات الغربية أكثر مبدئية. لاذت بادئ ذي بدء بالمخاتلة والسفسطة الدبلوماسية، متجنبة التنديد بالانقلاب منادية بـ”التزام الحذر” و”ضبط النفس” وغيرها من العبارات التي لم تتلاش إلا بعد انقلاب الكفة ضد الانقلابيين ورجحانها لصالح الشعب وممثليه المنتخبين. حينها غدت التصريحات الرسمية عبارة عن بيانات قاتمة كئيبة تفتتح بتأكيدات مقتضبة فاترة على دعم الديمقراطية والشرعية الانتخابية، تعقبها سريعا مناحات مطولة على مصير الانقلابيين وحقوقهم المهددة.
من الواضح أن الرئيس التركي قد غدا اليوم موضوع شيطنة ممنهجة من قبل آلة الإعلام الغربية وبعض إمارات النفط الفاسدة التي تتفنن في تصويره كطاغية متجبر يدوس على حقوق شعبه ويستبد به.
السؤال هو: إذا كان هؤلاء يعتبرون أن من حقهم شيطنة الرئيس التركي وشن المؤامرات ضد نظامه ودعم الانقلابات لإسقاطه والفتك به وحتى اغتياله، أليس من حقه، وفق منطق الصراع، أن يدافع عن نفسه وعن إرادة الملايين من ناخبيه؟
أليس هذا مشروعا، ليس بمنطق السياسة فقط، بل بمنطق غريزة الحياة والموت؟
أنا لا أبرر أي انتهاك محتمل لحقوق الإنسان. لكن الواقع هو أن ما يجري اليوم في تركيا يندرج ضمن دائرة الدفاع عن النفس لإحباط أي محاولة انقلابية قادمة ضد إرادة الشعب.
ألا يدرك داعمو الانقلاب ومسوقوه أن إمعانهم في شن الدسائس والتحريض سيكون مدمرا للجميع ولن تستفيد منه إلا قوى الإرهاب والتطرف والفوضى في منطقتنا المنكوبة هذه؟!
الغريب أن شيطنة أردوغان في الغرب تتم من جوقة متنوعة من اليمين واليسار والحكومات والمعارضات، رسميين وغير رسميين، بحجة استبداد الرئيس التركي وتسلطه، رغم أن هؤلاء يدركون أنه من بين الحكام القلائل النادرين جدا في المنطقة ممن اختارتهم شعوبهم في انتخابات حرة ونزيهة لم يشكَّك في نتائجها أحد، ولم يأت على ظهر دبابة أو يغتصب السلطة بالقوة.
طبعا، حلفاء الغرب، الذي يتراوحون بين طغاة مغلَّظين وعساكر متعطشين للدماء، معفيون من انتقادات القوى الغربية هذه، في مأمن من مخططاتها ومؤامراتها، بل قد يعتمد عليهم في القيام بببعض الأعمال القذرة، تماما كما فعل نفر من أصدقائهم أثرياء النفط في مصر ويفعلون في ليبيا وغيرها من أقطار المنطقة.
لقد وقع تقاطع في بداية حكم العدالة والتنمية بين أردوغان والدول الأوروبية حول مشروع إضعاف الجيش التركي تحت عنوان “تطبيق شروط التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي”. أراد الغرب أن يصنع يلتسن جديدا يفكك مؤسسة الجيش التركية ويسلم الغرب مفاتيح البلاد.
أما أردوغان فأراد إخراج الجيش من السياسة لاستعادة إرادة الشعب وسلطته على القرار الوطني بعد سلسلة من الانقلابات الدامية وصمت تاريخ تركيا المعاصر. هذا ما يفسر التضارب بين مصالح الطرفين في الصراع الحالي.
ببساطة، المعادلة بالنسبة للقوى الغربية هي كما يلي: إما أن تفرز الديمقراطية من نريد، أي من ينفذون ما نطلبه خدمة لمصالحنا، وتقصي من لا نريد خدمة لمصالحنا -وهذا هو السيناريو الأمثل بالنسبة لنا-، أو أن نلجأ لاحتياطيينا من العساكر والانقلابيين حول المنطقة ليقوموا بالمطلوب عبر تدخلات “جراحية ناجعة”.
حينها تتحرك جوقة الإعتذاريين سريعا لتجميل المشهد القبيح وتزويقه بتحليلات تقلب الحقائق رأسا على عقب وتعليقات تحيل الانقلابيين “حماة للحداثة” و”قوى تمدن”، والزعماء المنتخبين ديمقراطيا “دكتاتوريين” أجلافا متسلطين.
أما الشعب الذي تجرأ على الخروج إلى الشوارع دفاعا عن إرادته الانتخابية، فسيوسم بالتعصب والتطرف والهوس الديني، أو في حالة تركيا، “برعاع أردوغان الإسلاميين”، كما وصفت إحدى الصحف البريطانية (The Spectator) المتظاهرين الأتراك ضد الانقلاب (Erdogan’s Islamist mobs).
الحقيقة هي أن الغرب لا يعبأ لا بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان. هذه المبادئ لا تعني له شيئا حينما يتعلق الأمر بأصدقائه وحلفائه، ولا تغدو ذات قيمة إلا حين تتحول إلى عصا يلوّح بها في وجوه خصومه ويضرب بها أعداءه.
أردوغان لا يشوه ويشيطن اليوم لأنه غير ديمقراطي أو متسلط، بل لأنه ليس حاكما أليفا طيّعا للإملاءات الخارجية كما ينبغي، يتحرك ضمن الخطوط والمربعات المرسومة له ويتقيد بالحدود والضوابط التي يضعها الغرب لهذه المنطقة.
السؤال والتحدي الحقيقي الذي يطرح على القوى الغربية هو: هل لديها القدرة على تقبل وإقامة علاقة متوازنة مع زعيم يعبر عن إرادة شعبه ويدافع عن مصالح بلاده، والتي قد لا تتطابق بالضرورة مع رغباتها ومصالحها هي؟