العديد من المحطات الهامة والخطيرة مرت بها السياسة الخارجية السعودية حيال الأزمة السورية، حيث ألقت التطورات الإقليمية والدولية بظلالها على المشهد السياسي بصورة عامة، فأحدثت انقلابا في موازين القوى على الأرض ، وبات خيار رحيل الأسد ليس الخيار الوحيد كما كانت تتمنى الرياض.
وبعد فشل السعودية في تمرير مشروعها الخاص بـ ” سوريا ما بعد بشار ” في ظل المكاسب التي يحققها الجيش النظامي السوري على أرض المعركة نتيجة الدعم الروسي – الإيراني المتواصل، لم تجد الرياض بد من استقطاب الدب الروسي لصفها، من خلال صفقة تبادلية بين الطرفين، تتعهد من خلالها المملكة بتوفير النفط والغاز لموسكو في مقابل التخلي عن الأسد..فهل تقبل موسكو العرض السعودي، وهل تنجح صفقة ” النفط مقابل الأسد” ؟
الرياض والأزمة السورية
كانت المملكة العربية السعودية من أوائل الدول التي أعلنت عن موقفها من الأزمة السورية بصورة واضحة، فمنذ الوهلة الأولى لاشتعال فتيل الثورة، انحازت الرياض لصف المعارضة الثورية وطالبت بضرورة احترام الإرادة الشعبية، وكان خيار تنحي بشار الأسد وإزاحته عن كرسي الحكم مطلبا لا رجعة فيه.
وخلال الأشهر الأولى للأزمة، تجلى أول رد فعل سعودي رسمي حيالها، حيث طالب العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز بالتوقف عن إراقة الدماء في سوريا مستدعيا السفير السعودي من دمشق، وكان هذا هو أول رد فعل عربي رسمي علي الأزمة السورية، وجدير بالذكر أن هذا الموقف لم يأتي منعزلا ولا منفردا عن مجلس التعاون الخليجي وقد جاء بعد عدة اتصالات غير معلنة جرت بين الرياض ودمشق لم تقتنع خلالها الرياض بحجج النظام السوري إزاء الاستمرار في قمع الاحتجاجات الشعبية، ولعل سحب السفير السعودي من دمشق يعتبر تحركا دبلوماسيا قويا للتعبير عن تغير فعلي في الموقف السعودي تجاه دمشق.
لم يكن تحرك الرياض تجاه الأزمة السورية، والمطالبة بالإطاحة بنظام بشار الأسد، انتصارا منها للمعارضة، أو إيمانا بحق الشعب السوري في فرض كلمته واختيار مستقبله، قدر ما هو دفاعا عن مصالح المملكة في الداخل السوري، لاسيما بعد السيطرة الكاملة لإيران على صناعة القرار في دمشق، وهو ما دفع آل سعود للمضي قدما نحو عرقلة التواجد الفارسي في سوريا من خلال دعم مساعي الإطاحة برجل طهران الأول في المنطقة.
احتضان السعودية لفصائل المعارضة السورية
والمتتبع لموقف السعودية من الأزمة السورية منذ اندلاعها 2011 يجد أن هناك عدة محطات هامة وخطيرة شكلت الخريطة العامة لهذا الموقف، مابين التصعيد والتهدئة والمهادنة والصدام، لاسيما في ظل عدد من التطورات والتغيرات الإقليمية التي فرضت نفسها على الساحة السياسية الشرق أوسطية، وكان لها أبلغ الأثر في ملامح التحالفات السياسية والعسكرية في المنطقة.
أ-الموقف الثابت
استهلت بلاد الحرمين موقفها من الأزمة السورية بثبات وقوة غير مسبوقة، مقارنة بغيرها من دول المنطقة، فكانت الدولة العربية والإقليمية الأولى التي طالبت منذ البداية برحيل بشار الأسد، وضرورة التخلص من نظام حكمه بأي ثمن، كما أنها الدولة العربية الوحيدة التي احتضنت المعارضة السورية وتبنتها علانية، بجانب الشريك التركي.
الموقف السعودي المتشبث برحيل الأسد فرض نفسه بقوة كخيار وحيد لحلحلة الأزمة بعدما صاحبه تأييد دولي أممي إقليمي عززه ودعمه بصورة كبيرة، حيث وجدت الرياض نفسها محاطة بدعم الأمم المتحدة، وأمريكا، وبعض دول أوروبا، فضلا عن دعم الشريك التركي، والذي مثل لها ثقلا سياسيا وعسكريا هائلا في دعم رؤيتها لحل الأزمة.
كما أن المعارضة الثورية السورية وجدت نفسها هي الأخرى محاطة بسبل الدعم العسكري والمالي المتنوع، ساهم بشكل كبير في تأهيلها بصورة مميزة، مما ساعد في صمودها وتحديها لقوات الجيش ألأسدي النظامية، وكبدته خسائر عديدة، كما حققت انتصارات ميدانية متعددة في شتى المواقع، وكانت على مقربة من تغيير المشهد السوري برمته، لولا الدعم الإيراني والروسي للأسد ونظامه.
وفي هذه المرحلة فرضت الرياض كلمتها، معلنة عدم تراجعها عن موقفها الرافض لبقاء الأسد ضمن معادلة الخروج من المأزق، حيث بات الحل الوحيد المطروح على موائد الحوار الإقليمي والدولي لمناقشة هذه الأزمة، هو الحديث عن سوريا ما بعد الأسد..وأستمر الموقف السعودي بثباته وقوته إلى أن تدخل الدب الروسي بكل قوته ليكون لاعبا أساسيا في ملعب الأزمة.
المشاورات الدولية لحلحلة الأزمة السورية
ب-الموقف المتردد
كان للدخول الروسي في المعادلة السورية أثر كبير في إعادة رسم ملامح المشهد من جديد، فبعدما تفردت السعودية المدعومة من أمريكا وأوروبا وتركيا بالقرار في مواجهة إيران وحدها، إذ بالدب الروسي يلقي بكلمته التي دعمت موقف بشار الأسد بصورة هائلة.
كان دخول موسكو حلبة الصراع مفاجأة غير متوقعة للكثيرين، خاصة وأن العلاقات الروسية السورية لم تكن على المستوى الذي يؤهل لإقحام موسكو نفسها في آتون حرب غير محسوبة النتائج، لكن كان للموقف الإيراني مفعول السحر في إقناع روسيا في أن تعود للساحة الدولية بموقف يحيى بداخلها أمجاد الإتحاد السوفيتي سابقا.
الشراكة الإيرانية الروسية والمصالح المتبادلة بين الطرفين لعبت دورا محوريا في تبني موسكو موقف طهران من الأسد، حيث تبادل بوتين بشار العديد من الزيارات، وتناقشا في كيفية استعادة الجيش النظامي لما فقده من أراضي على أيدي المعارضة المسلحة، وهو ما دفع موسكو لتزويد دمشق بقواعد صواريخ عالية الكفاءة، فضلا عن ضخ كميات هائلة من الأسلحة المتطورة ساهمت في تعزيز الموقف الميداني لجيش بشار.
كما أن الموقف المتأزم في اليمن والمستنزف لأموال السعوديين، فضلا عن الأزمة التي تعرضت لها دول الخليج بسبب تراجع أسعار النفط، إضافة إلى تكبد دول أوروبا للعديد من الخسائر المادية والبشرية بسبب العمليات الإرهابية التي تعرضت لها مؤخرا ساهم بشكل كبير في إضعاف الموقف السعودي في سوريا، ومن ثم لم يعد الخيار الذي تبنته الرياض بإخراج الأسد من معادلة حل الأزمة السورية هو الخيار الوحيد كما كان في السابق.
الجيش السوري يستعيد فرض سيطرته بعد الدعم الروسي – الإيراني
ج-الموقف الضعيف
فرضت العديد من التطورات الإقليمية نفسها على المشهد بصورة أعادت ترتيب الأولويات لدى الدول الفاعلة في الأزمة، وفقد خيار الإطاحة بالأسد بريقه رويدا رويدا، حتى عاد محل شك من قبل صناع القرار في واشنطن وأنقره وهو ما أنعكس على الموقف في الرياض.
محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرضت لها تركيا على أيدي بعض ضباط الجيش وما ألقته من ظلال قاتمة على المشهد السياسي الداخلي التركي، لاشك وأن سيكون لها أثر بالغ الأهمية في الموقف التركي من الأزمة السورية، لاسيما بعد التقارب القوي والملحوظ بين أنقره وموسكو، لاسيما عقب اعتذار الرئيس التركي عن سقوط الطائرة الروسية على الحدود السورية، وهو ما أقلق الرياض بصورة كبيرة، إضافة إلى فتح قنوات اتصال فعالة بين تركيا وإيران، مما جعل الغالبية العظمى من خيوط اللعبة في أيدي روسيا وتركيا وإيران، بما يعني ضعف الحضور السعودي في المشهد السوري بصورة كبيرة.
كما أن ما تتعرض له الدول الأوروبية الحليفة للسعودية في موقفها من الأزمة السورية من عمليات إرهابية، لابد وأنه سيكون له أثر كبير أيضا، حيث ذاقت هذه الدول لاسيما بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ويلات العمليات الإرهابية الداعشية، وهو ما نجحت موسكو وطهران في تسويقه للعالم من أن الأسد ونظامه يحاربون هذا التنظيم الإرهابي، وأن تواجدهم ودعمهم لهذا النظام إنما بهدف القضاء على الإرهاب، مما هدأ رويدا من نبرة الصوت الأوروبي المطالب برحيل الأسد في الوقت الراهن، وأمام كل هذه التطورات المتلاحقة ما كان أمام الرياض سوى البحث عن إستراتيجية جديدة، تسحب من خلالها بساط الدعم الروسي من تحت أقدام الأسد ونظامه..
التقارب التركي – الروسي وتأثيره على الموقف السعودي من الأزمة
النفط مقابل الأسد
بعد فشل الجهود الدبلوماسية السعودية في تمرير موقفها من الأزمة السورية، وفرض موسكو وطهران لكلمتهما على أرض الواقع، وجدت الرياض نفسها مرغمة على فتح قنوات التواصل مع الدب الروسي، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لاسيما وأن القائمين على صنع القرار في الديوان الملكي على قناعة تامة بأن روسيا هي ” رمانة الميزان ” في الأزمة السورية، وليس طهران، كما أن التحركات الروسية ليست دفاعا عن شخص بشار قدر ما هي دفاعا عن مصالحها في المنطقة، ومن ثم كان العزف على وتر المصالح الروسية هو سلاح الرياض الجديد لكسب الدعم الروسي.
“إننا مستعدون لإعطاء حصة لروسيا في الشرق الأوسط ستحول روسيا إلى قوة أكبر بكثير بالمقارنة مع الاتحاد السوفيتي”..بهذه الكلمات أستهل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حديثه لصحيفة ” بوليتيكو” الأمريكية خلال زيارته الأخيرة لبروكسيل.
الجبير أضاف في حواره أيضا : “إننا نختلف (مع الروس) بشأن سوريا، لكن خلافنا يتعلق بالدرجة الأولى ليس بنتيجة اللعبة بل بالطريق التي تؤدي إليها”، مشيرا أن أيام الأسد معدودة، وقال متوجها إلى الروس: “إقبلوا الصفقة ريثما يمكنكم ذلك”.
جاءت كلمات الوزير السعودي بشأن رغبة بلاده في إتمام صفقة مع الجانب الروسي لتؤكد بما لا يدع مجالا للشك ضعف الموقف السعودي، والقلق من مآلات المستقبل السوري في ظل التطورات الإقليمية المتلاحقة والتي لا تصب في صالح الرياض نهائيا.
كما عزف الجبير على وتر استعادة روسيا لمكانتها في المنطقة من جديد، كقوة عظمى لا تقل أبدا عن الولايات المتحدة ولا التحالف الأوروبي، متعهدا بتقديم كل سبل الدعم الاقتصادي والنفطي من اجل إحياء هذا الدور من جديد، وذلك في مقابل التخلي عن الأسد، والتوقف عن الدعم المقدم له.
وزير الخارجية السعودية أثناء زيارته الأخيرة لبروكسيل
العديد من الخبراء أشاروا إلى أن موسكو لا يهمها الأسد كشخص قدر ما اهتمامها بمصالحها في المنطقة، فتحركها نحو دعم بشار جاء بضغط إيراني تبعه تعهد بتحمل كافة نفقات هذا التحرك، ومن ثم لم تجد روسيا غضاضة في التأكيد على حضورها الإقليمي من خلال هذا الدور الجديد، في الوقت الذي لا تتحمل فيه أي أعباء مادية، إلا أن العرض السعودي ربما سيكون له بريقا جديدا، فهل تقبل موسكو عرض الجبير؟
هل تقبل موسكو؟
القبول الروسي للعرض السعودي يعني استعادة عافيتها الاقتصادية من جديد، لاسيما بعد الضغوط المتوقع ممارستها من الرياض على بقية دول الخليج لتفعيل سبل التعاون النفطي مع موسكو خاصة قطر، بما يعني توفير مصادر تمويل المشروعات الروسية المتوقفة، والارتقاء بالمستوى المعيشي لمواطنيها بما يخفف عن بوتين ونظامه حجم الانتقادات التي يتعرض لها داخليا، في مقابل خسارة إيران والحليف السوري.
ويذكر أن خفض السعودية لأسعار النفط خلال الآونة الأخيرة بتكثيف الإنتاج أحرج إيران وروسيا اقتصاديا، وتوسلت موسكو حينها لرفع السعر بتقليل الإنتاج لكن دول الخليج رفضت، وهاهي دول الخليج الآن تعيد فتح صفحة جديدة مع الدب الروسي.
كما أن القبول الروسي للعرض السعودي سيفتح آفاقا جديدة للتعاون مع أوروبا والولايات المتحدة، وينهي – تدريجيا – حالة الخصام بين الطرفين، فضلا عن استعادة روسيا لدورها الإقليمي من جديد كلاعب رئيسي في حلحلة الأزمة السورية والتي وقفت موسكو طيلة الفترة الماضية حجر عثرة أمام تسويتها سواء بعرقلة قرارات مجلس الأمن أو دعم الجيش السوري ميدانيا على أرض الواقع.
أما في حال الرفض لعرض الجبير، فستحافظ موسكو على مكانتها كقوة فاعلة في المنطقة تملك بيديها أبرز خيوط اللعبة داخل الأرض السورية، وهو ما يضعها من جديد تحت ميكروسكوب الإعلام الدولي، ويعيد أمجاد الإتحاد السوفيتي القديم، إضافة إلى الحصول على المزيد من الدعم الإيراني المتواصل
كما أن التدخل الروسي في سوريا وقف حائلا دون فتح جسر من الإمدادات القطرية للغاز المسال إلى أوروبا، والذي كان من المفترض أن يمر عبر الأراضي السورية، بما يحافظ لموسكو على تفوقها في مجال تصدير الغاز لأوروبا، وهو ما يفسر تصميم روسيا على التواجد العسكري داخل سوريا وعدم الاكتفاء بالدعم اللوجستي الخارجي.
مما سبق يتضح أن خريطة المشهد السوري لم تعد كما هي منذ بداية الأزمة، فالتطورات الإقليمية والدولية المتلاحقة ألقت بظلالها على أجواء المشهد بصورة كبيرة، وبعد فشل الرياض في فرض كلمتها من جديد هل تنجح في استقطاب الدب الروسي على حساب إيران وبشار؟ وهل تقبل موسكو إغراءات الرياض ؟