يتفق الكثير من المؤرخين على أن الفترة التي تأسس فيها تنظيم القاعدة أو قاعدة الجهاد كتنظيم فعلي كانت ما بين أواخر 1988 وأوائل 1990، حين دعا وقتها هذا التنظيم المسلمين إلى ما وصفه بالجهاد العالمي ضد المحتلين، وإنهاء النفوذ الأجنبي في البلدان الإسلامية، إلى أن وصل به الأمر إلى إعلان دعوته لإنشاء خلافة إسلامية جديدة، تكون قادرة على مواجهة ما يراه هذا التنظيم على أنه تحالف مسيحي – يهودي يتآمر لتدمير الإسلام.
هاجم تنظيم القاعدة أهدافًا مدنية وعسكرية في مختلف دول العالم، صُنف على إثرها كمنظمة إرهابية من قبل مجلس الأمن الدولي، وصف السلوك الإداري لتنظيم القاعدة بأنه “مركزي في القرار ولا مركزي في التنفيذ”، لكن بعد 11 سبتمبر 2001 (يوم ضربة برجي التجارة في نيويورك) والحرب على الإرهاب، أصبحت قيادة تنظيم القاعدة معزولة جغرافيًا، مما أدى إلى ظهور قيادات إقليمية، تعمل على شكل كتل بشرية ومجموعات غير مرتبطة تتحرك تحت اسم القاعدة.
ابتداءً من عام 2014، وتحت قيادة أبو بكر البغدادي، تَشَكّل تنظيم داعش من بقايا تنظيم القاعدة في العراق، التنظيم الذي أسسه وبناه أبو مصعب الزرقاوي في عام 2004، عندما كان الأخير مشاركًا في العمليات العسكرية ضد القوات التي تقودها الولايات المتحدة والحكومات العراقية المتعاقبة في أعقاب غزو العراق عام 2003، لكن حراكًا في المجتمع السني، تمثل الصحوات واحدة من إرهاصاته ونتاجاته، قضى على مشروع الزرقاوي وجماعته في العراق، آنذاك.
اليوم، صار تنظيم داعش مغناطيسًا يجذب كل الكتل البشرية المتطرفة في العالم والتي تؤمن بمشروع الخلافة، بالتحرك والتوجه إلى العراق وسوريا.
ففي العراق، أدى اتساع الفجوة وأزمة الثقة بين الحكومة العراقية من جهة والمواطنين في المحافظات ذات الأغلبية السنية من جهة أخرى إلى انتشار التنظيم بشكل ملحوظ في تلك المحافظات، أضف إليها سياسات التمييز والإقصاء والتهميش السياسي ضد السنة العراقيين العرب، والتي أدت إلى تفشي المظالم المعقّدة فيها، فاستغل التنظيم حالة السخط، فعمل على اختراق مدن تلك المحافظات واحتلالها الواحدة تلو الأخرى.
أما في سوريا فقد كان له وجود كبير في المحافظات السورية ابتداءً من محافظة الرقة ثم بشكل أقل في إدلب ودير الزور وحلب، وذلك بعد الدخول في الحرب الأهلية السورية، والتي تلت الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد.
لا تختلف أساليب داعش عن أساليب تنظيم القاعدة، في إقامة دولة الخلافة الإسلامية المزعومة، فكفرت داعش العلماء وقتلت كل من يُخالف آراءها وتفسيراتها الشاذة للدين، وحاربت كل من يعارضها في طريقة الحكم من المدنيين والعسكريين.
يطرح المشهد في محصلته، من القاعدة إلى داعش، واقعًا يقول لنا: إن كل مشاريع هذه الكتلة البشرية المتحركة هي مشاريع عبثية، فلسفة منظريهم عدمية، نظرة شبابهم للحياة ثورية، طلّقوا الفكر والسياسة، فهم لا ينتظرون من الحياة شيئًا سوى الموت، والموت بالنسبة لهم هروب من المواجهة، أما بالنسبة لنا فقد واجهنا واقع فشلنا جميعًا بالمكابرة والإنكار، بدل الاعتراف بالفشل وتبعاته.
مشكلتنا الكبرى مع هذه الكتلة البشرية المتحركة والمتطرفة أن لها قدرة عجيبة على خلط أوراق قضايانا العادلة، واستغلالها بأبشع صور التطرف والارهاب، بحيث تنقل تطرفها هذا من مكان إلى آخر، من البوسنة إلى الشيشان إلى أفغانستان إلى العراق إلى سوريا إلى ليبيا إلى أي مكان، وللأسف هي تتقن تحديد المكان واختياره!
وتذكّر معي.. أنني ذكرت “قضايانا العادلة”.
لكن في ظل غياب استراتيجية عالمية واضحة لمحاربة داعش، وفي ظل استغلال الأطراف السلطوية سواء في العراق أو سوريا لهذه الحرب، لفرض رؤيتها العقائدية هذا من جهة، وتصفية الخصوم السياسيين والمعارضين من جهة أخرى.
ولهذه الأسباب مجتمعة فإن الحل لا يأتي أبدًا عن طريق استخدام القوة كأسلوب وحيد للمواجهة، بل عبر أيديولوجية كونية جديدة، نعم أيديولوجيا.
أيديولوجيا ترفض النزعة التسلطية الحاكمة في العلاقات المحلية والدولية، وتحرر العقل من العنجهيات المذهبية والعنصرية والشوفينيات العرقية، وتربط الإنسان بالآخر، بغض النظر عن دينه أو قوميته.
أيديولوجيا تتفهم أعراض الاضطراب والقلق لدى هذه الجماعات المتطرفة والكتل الإرهابية المتنقلة، وتعالج أمراض الخوف والشك التي تعانيها، ليس هي فحسب، بل نفوس آلاف الشباب من العالم الإسلامي.
أيديولوجيا تحمل قيم سياسية وفكرية وأخلاقية، انفتاحية تسامحية عقلانية، تشرع الأبواب نحو تقبل الآخر، وتؤمن بالحوار السلمي، يطمئن لها الجميع، مع ضرورة الإقرار بحق الاختلاف معها.