تتوارد الأنباء عن قرب إعلان جبهة النصرة فك ارتباطها بتنظيم القاعدة، حيث تزايدت الأخبار الواردة عن عزم الآلة الإعلامية للنصرة نشر كلمة لزعيمها أبي محمد الجولاني، في أقرب وقت يعلن فيها فك ارتباطه بالتنظيم الأم الذي يقاتل باسمه في سوريا.
لم تخرج أي مصادر رسمية حتى الآن من جبهة النصرة تؤكد هذه الخطوة، لكن مصادر عدة أبرزها شخصيات مقربة من قيادات الفصائل الإسلامية التي تقاتل في الساحة السورية، ونشطاء إعلاميين مقربين من الجبهة، أكدت اقتراب الجبهة من هذه الخطوة بالفعل بعد تردد كبير.
تمهيد شرعي
وقد لوحظ أن ثمة تمهيدات شرعية لهذه الخطوة التي ستثير الجدل داخل الأوساط الجهادية، بعدما نشر أبو محمد المقدسي منظر السلفية الجهادية الأردني الشهير، تغريدات قبل فيها ما رفضه سابقًا، فيما يخص فك ارتباط جبهة النصرة بالقاعدة، وهو الأمر الذي اعتبره “ليس ردة” بحسب أوصافه.
واعتبر المقدسي في تغريداته التي حذفت فيما بعد، أنه “لا مشكلة شرعية في ذلك”، مشيرًا إلى ما أورده في أحد كتبه من “ضرورة عدم التمسك بمسميات قد تستعمل لتأليب الأعداء على المجاهدين، أو إجهاض جهادهم، واستغلالها للحشد ضدهم”.
لافتًا إلى أن “أسماء كالقاعدة هي أسماء غير منزلة من السماء، وهي تتبع التكتيك الأنسب للمجاهدين”، على حد قوله.
وأضاف المقدسي: “كذلك مسمى (جبهة النصرة) أو غيره إن صار عائقًا أو سببًا لاستهداف أهله؛ فتغييره أو التنازل عنه ليس تنازلًا عن القرآن، وفك الارتباط ليس ردة عند الحاجة”.
ما هو مؤكد حتى الآن أن ثمة مشاورات بدأها مجلس شورى جبهة النصرة منذ أشهر، بشأن فك الارتباط بالتنظيم الأم “تنظيم القاعدة”، أما المعلومات الأولية غير المؤكدة تقول إن قرار الخروج من عباءة “القاعدة” اقترب، وهو ما يعني أن نتائج مباحثات مجلس شورى التنظيم قد اقتربت من الخروج للعلن.
جدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث الرأي العام فيها عن اقتراب انفصال النصرة عن القاعدة، حيث أوردت وكالة رويترز سابقًا معلومات تفيد التقاء زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني عدة مرات بمسؤولين استخباراتيين في قطر ودول خليجية أخرى بهدف أخذ الدعم منهم بعد الانفصال عن تنظيم القاعدة، وهو أمر نفاه التنظيم في حينها.
ورغم نفي جبهة النصرة عقد أي لقاء مع جهات خليجية حينها، إلا أنه لم تتطرق الجبهة لحديث رويترز عن قرب فك الارتباط بين جبهة النصرة وتنظيم القاعدة، مما يعزز التساؤلات بشأن صحة تلك الأنباء.
ولطالما كان فك ارتباط جبهة النصرة بتنظيم القاعدة، مطلبًا شعبيًا في سوريا منذ أكثر من عامين، قبل أن يصبح مطلبًا سياسيًا وعسكريًا نادى به الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في غير موقف، كما صدحت به الفصائل السورية المختلفة.
وسبق أن أوضح زعيم التنظيم أبي محمد الجولاني في لقاء تلفزيوني أنه عندما يتم تشكيل مجلس شورى واحد يضم ممثلي الفصائل كافة والاندماج بجيش واحد وتحت راية واحدة سيتم فك الارتباط عن القاعدة تلقائيًا، وهو الأمر الذي فهم كتمهيد لقرار الانفصال.
إلحاح استراتيجي وسيناريوهات متوقعة
هذه الخطوة الآن تمثل الإلحاح الاستراتيجي لجبهة النصرة بعدما تعرضت الجبهة في الآونة الأخيرة لانتقادات واسعة ومطالبات بإعلان فك الارتباط عن تنظيم القاعدة، باعتبار أنه صار وسيلة لاستهداف الثورة السورية والفصائل المقاتلة من قبل الغرب وروسيا تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”.
ويبدو أن الخيارات قد ضاقت أمام تنظيم جبهة النصرة، بعدما أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري عن توافق مع روسيا على استهداف الجبهة بالضربات وفصلها عما أسموها “المعارضة المعتدلة”.
فلم يعد أمام جبهة النصرة إلا خيارات محدودة في مقدمتها التوافق مجددًا مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” رغم العداوة المستفحلة بينهما، أو الاتجاه إلى مسألة فك الارتباط مع “القاعدة” وإنشاء كيان جديد، وهو الخيار الذي يحمل من الخطورة الكثير، في ظل تردد أنباء عن خلاف محتدم بين القيادات العسكرية والشرعية في التنظيم.
وخلال السنوات الماضية، حينما أثبتت “النصرة” أنها الفصيل الأقوى في ميدان القتال على الأرض أمام داعش أو النظام السوري، فالكثير اعتبر أنه يمكن للنصرة أن تكون رأس حربة القتال ضد الجيش السوري في حال انفصلت عن القاعدة.
غير أن هذا الطرح اصطدم، بأن النصرة لا ينطبق عليها وصف المعارضة “المعتدلة” لدى الغرب، وهي بالتالي، محاربة دوليًا باعتبارها “منظمة إرهابية” لا يمكن دعمها علانية بالمال والسلاح، وبحسب المعلومات المتواردة، فإن الضغوط الدولية والخليجية طوال الفترة الماضية كانت تركز على دفع النصرة للانسلاخ عن القاعدة.
والخطورة تكمن في حدوث انشقاق داخل النصرة، وتوزع مقاتليها على مختلف التنظيمات الإسلامية المسلحة في سوريا على مختلف تبايناتها، سواء كتائب “جيش الإسلام” أو حركة “أحرار الشام الإسلامية” أو “داعش”.
تتمتع جبهة النصرة بحضور إشكالي في الثورة السورية بسبب تعاظم قوتها وانتشارها على الأرض كأحد أقوى الفصائل المقاتلة، هذا الأمر الذي دفع العديد إلى تشجيعها على رمي هذا الوزر الذي حملته ببيعتها لتنظيم القاعدة.
ولكن لم يعرف حتى الآن الوجه الذي ستكون عليه النصرة بعد هذا الانفكاك – في حال حدوثه – تحت هذا الضغط، وذلك وفقًا لطبيعة النصرة كتنظيم متعاظم القوة وارتباطه بمشروع عابر للحدود، وقياسًا للظروف التي تمر بها الثورة السورية في الوقت الحالي.
وعليه فإننا بصدد عدة احتمالات لتداعيات الأمر ستؤثر في مشهد الثورة السورية بلا شك، من أهمها ربما تحول هذه الرغبة في الانفصال عن القاعدة لدى النصرة، إلى رغبة تكتيكية في مواجهة الضغط الدولي والمحلي، مع الاحتفاظ بالأيديولجية دون التنظيم، وحالة القاعدة الآنية لا تمانع في هذا كما أوضح زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في خطاب سابق أنهم سيحترمون أي قرارات تصدر عن جبهة النصرة، وهذا القرار هو الأقرب للحدوث للحفاظ على الجبهة الداخلية في النصرة ومنع عمليات التسرب إلى داعش.
كما أن ثمة ميزة أخرى ستتمتع بها النصرة بعد هذا الإعلان الذي قد يكون شكليًا، وهو إزالة الحواجز أمام عشرات التنظيمات الصغيرة للانضمام إليهم بعد فك الارتباط مع القاعدة تحت اعتبار القوة والفاعلية، لكن في نفس التوقيت سوف يفرض هذا الأمر تغييرات بنيوية على التنظيم الجهادي.
ولا شك أن الدعوات الموجهة للنصرة لفك الارتباط عن القاعدة هي محاولات لإضفاء الشرعية ونزع صفة الإرهاب عنها مقابل مكتسبات ستحصلها هذه الجهات والدول من دعمها التنظيم إذا خرج من عباءة الإرهاب المتمثل بـ “القاعدة”، بحسب العرف الدولي.
هذه الحاجة قد تظهر حالة من الازدواجية الدولية في التعامل مع تنظيم القاعدة حيث ستكون الولايات المتحدة الآن أمام دعم خليجي تركي بالأغلب للجبهة “القاعدة سابقًا”، وعلى النقيض ستخوض الولايات المتحدة حربًا على أفرع القاعدة في بلدان أخرى، وهي مفارقة ستكون الأولى من نوعها منذ عشرات السنين.
كل هذه الاحتمالات واردة، ومنها أننا سنكون حينها أمام تغيرات كبيرة في السياسة الداخلية لتنظيم جبهة النصرة، وطريقة طرح مشروعه في سوريا، والعمل على كسب ود قوى عسكرية مؤثرة في الأرض السورية، ففك الارتباط إن حصل، لا يتماشى وسلوكيات التنظيمات الجهادية، إذ يعتبر انحراف عن أدبيات القاعدة التي ستعيش مخاضًا عسيرًا على أصعدة لم تكن في الحسبان، وفي حينها سيتحول مشروع النصرة إجباريًا إلى مشروع سياسي محلي ذي خطاب إسلامي خصوصًا في ظل تراجع أداء البدلاء الحاليين.