تركيا اليوم بكل مكوناتها ليست تركيا الأمس، هذا هو الواقع الذي أكدته محاولة الانقلاب الفاشل في مساء الخامس عشر من يوليو 2016 والرسالة الواضحة التي وجهها الأتراك لمهندسي الانقلابات في العالم والصدمة التي تلقاها داعمو الانقلابات في الشرق الأوسط.
قد يكون الانقلاب الفاشل في تركيا مفاجأة بالنسبة للبعض ولكنه بالنسبة لآخرين لم يكن كذلك من حيث التوقيت وطبيعة المشهد الذي حمل عنفًا تجاه مؤسسات الدولة كمقر الرئاسة والبرلمان ومقر المخابرات والقوات الخاصة، وكذلك حجم الشبكة الضالعة فيه ناهيك عن الدعم الخارجي والإقليمي، مما جعل المشهد الانقلابي يبدو كأنه مخطط حرب على الدولة التركية، ويمثل ما تكشف منه حتى الآن رغم ضخامته مجرد قمة جبل الجليد.
لقد كانت المعطيات المتوفرة تدفع إلى نجاح الانقلاب من وجهة نظر المخططين والداعمين وشبكة التنفيذ، لكن عناية الله كان تحوط تركيا والمنطقة بأجمعها.
إرهاصات الانقلاب
لقد بات من المسلمات في واقعنا المعاصر أنه لا يمكن لانقلاب عسكري في دولة من دول الشرق الأوسط أن يتم دون توفير دعم وغطاء من أمريكا والقوى الغربية الكبرى، وانقلاب مصر ليس ببعيد، كما أن انقلابات تركيا السابقة كان العامل المشترك بينها الإشارة الخضراء من الراعي الأمريكي للانقلابات في المنطقة.
لقد شهدت الفترة الماضية تحرشات عديدة تجاه حكومة حزب العدالة والتنمية وتصاعدت مع تحقيق الحزب نجاحات غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية التركية انعكست آثارها في شكل استقرار سياسي ونمو اقتصادي غير مسبوق جعل تركيا ضمن أقوى عشرين دولة اقتصاديًا، وزادت وتيرة التحرشات مع تولي أردوغان سدة الرئاسة التركية.
لقد كان النصف الأول من عام 2016 يحمل إرهاصات حدوث انقلاب في تركيا وإن كانت حكومة العدالة والتنمية التركية ليست ببعيدة عن تحريها وتتحسب للانقلاب عليها منذ وقت طويل، وقد كان ذلك حاضرًا بقوة في موقف أردوغان وحكومة العدالة والتنمية من الانقلاب في مصر.
على صعيد الصحافة العالمية وكذلك كتاب وباحثين ببعض المراكز البحثية المرتبطة بدوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية شهدت الفترة الماضية خطابًا تصعيديًا بدت وتيرته تحريضية تجاه أردوغان وسياسته.
كان الأكثر وضوحًا في هذا الاتجاه التحريضي تجاه الرئيس أردوغان الكاتب والباحث الاستراتيجي والعسكري الأمريكي مايكل روبنز – المرتبط بمركز أميركان أنتربرايز، الذي يضم نخبة كبيرة من فريق العاملين السابقين في إدارة جورج بوش الابن – الذي عمل مسؤولاً سابقًا بالبنتاجون، ويرتبط بعلاقات استشارية مع العديد من المسؤولين العسكريين الأمريكيين.
كانت تصريحات روبنز وكتاباته مفتاحًا مهمًا لفهم إرهاصات الانقلاب التركي الفاشل بل ومن يقف وراءه، خاصة عندما صرح بأن جهات سياسية أمريكية لا تمانع في حدوث انقلاب يطيح بالرئيس أردوغان وعلى استعداد للاعتراف به.
كذلك يعزز من تصريحات روبنز قبل محاولة الانقلاب وبعدها، ويؤشر إلى ضلوع أمريكي علاماته تبدو واضحة مما ذكره رئيس المخابرات الأميركية السابق جيمس وولسي، الذي تحدث في مقابلة له على فوكس نيوز معلقًا على الانقلاب الفاشل، ومنتقدًا حيث قال “إنه من الصعب تفهم تنفيذهم لشيء أخرق كهذا”.
فور محاولة الانقلاب الفاشلة كان موقف الصحافة الغربية منحازًا، أما ردود فعل الحكومات الأوروبية والإدارة الأمريكية – التي تدرجت مع تطور الموقف وقتها – فكانت مخاصمة للمنطق والأخلاق والقانون، حيث كان يتوجب منذ اللحظة الأولى إدانة الانقلاب على حكومة منتخبة ورئيس منتخب، ولكن ما بين الواجب والواقع كان الموقف الأوروبي، وتذبذب الحكومة الأمريكية تجاه الحليف الاستراتيجي الوحيد في الحرب على تنظيم الدولة كاشفًا حجم الرغبة في الإطاحة بأردوغان وحكومة العدالة والتنمية.
لقد عضد أيضًا من تأكيد التواطؤ الأمريكي بشكل ما ضد تركيا ما نشرته الواشنطن بوست في تقرير لدان لا موث وكارين دي يونج من أن مسؤولين في البنتاجون لم يكشف التقرير عن هوياتهم ذكروا علمهم بمحاولة الانقلاب، وأنهم كانوا ينتظرون دراسة آثار الانقلاب على العمليات العسكرية، التي تقوم بها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط على حسب ما جاء في التقرير.
أما على الصعيد الإقليمي فكانت الشماتة التي أعقبتها صدمة، خاصة أن العديد من الدول كمصر ومعها دول خليجية تعاملت مع الانقلاب منذ لحظته الأولى على أنه أمر واقع، وتصدر ذلك أخبار القنوات والصحف الرئيسية في تلك الدول، مما أعطى دليلاً واضحًا على أن ثمة معلومات مؤكدة لدى نظم هذه الدول كانت تشير إلى أن الانقلاب ناجح لا محالة، غير أن الأمر تحول إلى صدمة بفشل المحاولة فتحول الإعلام الموجه في تلك الدول إلى تبني نفس ما قاله مايكل روبنز في السابع عشر من يوليو 2016 من أن الانقلاب ربما من تدبير أردوغان حيث اعتبره المستفيد الأكبر منه لتعزيز سلطته على حد قوله!
المآلات وتركيا إلى أين؟
مما لا شك فيه أن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس على كل المستويات فلو قُدر نجاح هذا الانقلاب فإن النتائج كانت ستكون مأساوية ليس على الأتراك وحدهم ولكن كانت ستتجاوز ذلك إلى المنطقة بأسرها لكن رحمة الله كانت سابقة لتقف كثير من المخططات التي كان الانقلاب سيدشنها لتركيا والمنطقة والأجيال القادمة لتتغير المآلات إلى اتجاه آخر.
على المستوى الداخلي
بدت الجبهة الداخلية التركية أكثر تماسكًا حيث ظهر حجم التغيير الكبير في الثقافة السياسية والدستورية والتي بلغت حد النضوج وانعكست على الجيش والشرطة والنخب السياسية.
لقد خرج الشعب التركي ليدافع عن حريته ومكتسباته وشكل سدًا منيعًا في وجه المحاولة الانقلابية مستجمعًا خبراته المتراكمة عبر أربعة انقلابات عسكرية سابقة عاشتها تركيا.
أظهرت المحاولة الانقلابية الفاشلة مدى نجاح سياسات الرئيس أردوغان والعدالة والتنمية – خاصة النجاح الكبير على المستوى الاقتصادي – في توسيع حجم الطبقة المتوسطة التي تمثل صمام أمان للمجتمعات بل وزيادة ثقلها مع توسع في القاعدة الإسلامية المحافظة، لذلك كان الانقلاب فاقدًا لأي ظهير شعبي ناهيك عن فقدانه المشروعية الأخلاقية، فبدا المشهد أن دولة بكاملها تدافع عن نفسها في مواجهة فئة خارجة عنها.
وفي إطار العلاقات المدنية العسكرية يبدو أن الأمور تسير إلى الحسم عبر القيام بعملية تطهير واسعة لصالح المدنيين وأن تركيا ربما طلقت طلاقًا بائنًا الانقلابات العسكرية، وأنها تسير بخطى ثابته نحو إخضاع المؤسسة العسكرية للإرادة المدنية الشعبية، وعزل الجيش عن التدخل في الحياة السياسية حيث وفرت محاولة الانقلاب الفاشل الفرصة للحكومة المنتخبة للمضي قدمًا في حسم هذا الأمر ربما حسمًا نهائيًا، ونستطيع القول أن تركيا عبر استكمال عمليات التطهير داخل مؤسسات الدولة وتنقيتها من أذرع الدولة العميقة تنطلق الآن إلى مرحلة جمهورية جديدة.
على المستوى الخارجي
كانت المحاولة الفاشلة للانقلاب بمثابة قبلة حياة لكثير من شعوب دول الربيع العربي تحديدًا، لأن العكس كان يعنى نفقًا مظلمًا لهذه الشعوب، لذلك مثلت الحالة التركية بإفشال الانقلاب دعمًا معنويًا وسياسيًا وأخلاقيًا للحراك الثوري في المنطقة بأسرها، بما يعنى أن الأنظمة الديكتاتورية التي كانت تتوق لسقوط أردوغان ونجاح الانقلاب باتت تعاني ضغطًا شديدًا ربما ستكون له آثاره على وجودها في المديين القريب والمتوسط.
على مستوى أوروبا كان رد الفعل على الإجراءات التركية التطهيرية من الحكومات الأوروبية متجاوزًا من البعض سقف الخطاب الرسمي الدبلوماسي، والذى كان أشد وضوحًا في تصريحات وزير الخارجية الفرنسي.
أما أمريكا والتي مارست منذ بداية الانقلاب سياستها المفضلة (إمساك العصى من المنتصف انتظارًا للنتائج) فرغم نفي تورطها في محاولة الانقلاب الذي لا يكفي للجزم بعدم تورطها فيه فإن ردود الفعل لم تخرج عن مثيلاتها الأوروبية.
وانطلاقًا مما سبق فإن السياسة الخارجية للحكومة التركية على ما يبدو ستميل إلى اعتماد سياسة التهدئة التي بدأتها منذ وقت قريب مرتكزة على قاعدة الترميم والتوثيق لعلاقاتها مع الدول التي وقفت موقفًا إيجابيًا من محاولة الانقلاب في مقابل تراجع مصحوب بالحذر مع من وقفوا موقفًا سلبيًا من الحكومة المنتخبة رغبة في تخفيف المشكلات وتقليص الأعداء خاصة أن تركيا بقيادة أردوغان بعد فشل الانقلاب باتت تمثل عائقًا أكثر من ذي قبل تجاه تحقيق مشروعات التقسيم واستكمال الهيمنة في المنطقة.
عموما تركيا بقيادة أردوغان أصبحت في مرمي هدف حملات إعلامية تشويهية خاصة مع عمليات التطهير لشبكات لها علاقة بمحاولة الانقلاب ومرتبطة بقوى خارجية من المفترض أنهم حلفاء استراتيجيون لتركيا، لكن مؤشرات الواقع تدلل على غير ذلك، ومن ثم فإنه من المرجح على المدى البعيد وبعد استقرار الأوضاع أن تركيا ربما تكون في حاجة لإعادة صياغة شراكاتها الاستراتيجية وكذلك الدخول في شراكات استراتيجية جديدة مع قوى دولية أمثال روسيا والهند والصين.
ختامًا
إن محاولة الانقلاب الفاشل مثلت حدثًا تاريخيًا وفارقًا في مسار الدولة التركية الحديثة وحدًا فاصلاً بين جمهوريتين الثانية منهما تتشكل الآن بوتيرة متسارعة، وإذا أحسن أردوغان والحكومة التركية استثمار هذه اللحظة لتقوية دولة المؤسسات والعدالة فإن ذلك سيلقى بآثاره الإيجابية على الخيارات الاستراتيجية للحكومة التركية على المديين القريب والمتوسط في ظل ما تمثله تركيا الآن من أهمية بالغة للمنظومة الدولية.
ورغم الدلالات الإيجابية التي تبدو على مستويات مختلفة إلا أن القيادة في تركيا تحتاج لأن تعمل بأقصى قوتها للحفاظ على مكامن القوة في الداخل وتثبيتها وأن تتحسب على المدى القريب لردود الفعل الخارجية، التي إن توارت أو تسترت فإنها لن تستسلم إزاء فشل المحاولة الانقلابية ووقوف سياسات أردوغان والعدالة والتنمية صخرة كؤود أمام طموحاتهم في المنطقة.