القارئ في البداية لعنوان تقريري الذي اخترته بعناية فائقة “محمود درويش يعود من قبره ليواجه ويرعب الجيش الإسرائيلي”، يصيب للوهلة الأولى بالمفاجئة وعدم تصديق هذا العنوان، لأنه يعلم جيداً أن ذلك الأمر لم ولن يتحقق كون الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قد توفي ودفن في قبره قبل سنوات.
اختيار هذا العنوان، لم يكن من نسج خيالي، بقدر ما هو كان حقيقة ملموسة يشعر بها كل إسرائيلي الآن، يتابع كتب وأشعار ودواوين شاعر فلسطين الأول محمود درويش، رغم مرور ثماني سنوات على رحيله عن هذه الدنيا، لكن كتبه وشعره لا تزال حاضرة وتنوب عنه في مواجهة الاحتلال.
“درويش” أو ما يطلق عليه شاعر “الثورة والوطن”، لم يلحق أي ضرر بإسرائيل، بل أجاد فقط في فن التعبير عن كوامن قلب الفلسطينيين النابض في مواجهة الاحتلال، وقصيدتي” بطاقة هوية” أو “سجل أن عربي” التي تم إذاعتهما داخل الإذاعات الإسرائيلية، ماهي إلا البادية لهستريا ورعب دخل في نفوس الإسرائيليين بعد قراءة كل كتاب لدرويش، يعلمهم فيه أن “الحق الفلسطيني عائد لأهله وقريباً”.
بداية القصة العودة
قصة عودة محمود درويشمن جديد بدأت، بعد أن أثار بث إذاعة الجيش في إسرائيل حلقة في أحد البرامج عن الشاعر الفلسطيني محمود درويش جدلا واسعا، ليستدعي على إثرها وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، مدير إذاعة الجيش؛ للتنديد ببث برنامج عن الشاعر الراحل.
وبثت الحلقة برنامجا عن درويش، الذي يعد أحد من أهم شعراء العالم العربي، في إطار برنامج للجامعة المفتوحة في إسرائيل، وهي مؤسسة للتعليم عن بعد، وقال ليبرمان في بيان له: “إنها مسألة خطيرة تتعلق بشخص كتب نصوصا ضد “الصهيونية”، من الواضح أن هناك خطأ، ولا يمكننا السماح بتجاهله”، ما تطلب استدعاء مدير الإذاعة العسكرية يورام ديكيل، للحصول على “توضيحات”.
إدارة إذاعة الجيش في بيان لها دافعت عن البرنامج، مؤكدة أن “الانفتاح على الجامعات والحرية في أوساط الأكاديميين يلزمنا إفساح المجال أمام المستمعين؛ لإثراء أفكارهم”، فيما اعترفت وزيرة الثقافة في إسرائيل، ميري ريغف، بأنها” خافت وأخذها الرعب” لسماع إذاعة جيش الاحتلال تكرس برنامجا عن شاعر فلسطين الأول.
وحملت ريغف بشدة على الإذاعة الإسرائيلية، ردا على قيامها ببث برنامج عن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، واتهمتها بالانحراف عن الطريق.
ردات الفعل الإسرائيلية على التغني والخوف من تغول قصائد وشعر محمود درويش داخل الوسط الإسرائيلي وخاصة عند الجيش لم تتوقف عند هذا الحد، فقال الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، في صحيفة “هارتس” العبرية:” روح محمود درويش الشريرة لن تتركنا أبدا، فمرة كل بضع سنوات يحدث هنا مشهد الشياطين حول قصائده، الامر الذي يثير المشاعر ويصيب الإسرائيليين بالهستيريا إلى أن يتم تشبيهه بهتلر، وبعدها يهدأ ويظهر مرة أخرى مجددا”.
ويضيف:” لا مفر من ذلك، فكل الارواح الشريرة من 1948 لن تتركنا أبدا الى أن نعترف بذنبنا ونُقر بالخطأ ونتحمل مسؤوليته، نعتذر ونعوض، والاهم من ذلك نتغير. وحتى ذلك الحين ستستمر الارواح الشريرة بالمطاردة وعدم تركنا لنرتاح”.
لعنة محمود درويش
ويتابع الكاتب الإسرائيلي،:” موضوع درويش الأخير الذي أُثير من وزيرين، وزيرة الثقافة ميري ريغف ووزير الجيش افيغدور ليبرمان، اللذان من المشكوك فيه أنهما قرآ قصيدة واحدة من قصائده، هو حلقة اخرى في السلسلة. وايضا في ظل جهلهما عرفا من يهاجما، وقد عرفا أنه أكثر من أي شخص آخر، عرف درويش كيف يلمس العصب الاكثر حساسية في المجتمع الإسرائيلي، الذي يصاب بالهستيريا كلما حاول أحد ما الاقتراب من درويش، الذي يحاولون طمسه وانكاره بكل السبل، لكن بدون فائدة”.
ليفي يضيف:” درويش يلمس الخطأ الاول ولهذا فهو هتلر، ويكشف درويش عن الجرح النازف، ولهذا فهو محظور. لو كان الاسرائيليون على قناعة أنه لم يكن هناك خطأ وأنه لا يوجد جرح نازف لما خافوا الى هذه الدرجة من قصائده. ولو كانوا على قناعة بأن كل شيء كان سليم في حرب 1948 وأنه لا يمكن سير الامور بشكل مختلف، لكان درويش جزءً من الوسط الأدبي”.
ويختم بالقول:” لقد حلت نهاية محمود درويش، للأسف الشديد، مبكرا جدا منذ زمن، لكن قصائده بقيت، اسألوا ريغف وليبرمان. حرب 1948 كانت منذ زمن. إلا أنها بالضبط مثل قصائد درويش لم تمت هنا أبدا ولو للحظة. واسرائيل لم تغير سلوكها منذئذ، ولا تعاملها العنيف والمتسيد تجاه الفلسطينيين، أبناء البلاد، ولا تهجيرهم واحتلالهم، واحيانا طردهم. في 2016 تتصرف اسرائيل مع الفلسطينيين تماما مثلما تصرفت معهم في 1948. لذلك فان درويش لا يترك اسرائيل، ولذلك هو مخيف لها لحد كبير. لأنه يكشف حقيقتها”.
ويحظى درويش الذي ولد في فلسطين عام 1941 وتوفي في العام 2008 بمكانة رفيعة على مستوى العالم وقد تم ترجمة قصائده إلى العديد من اللغات.
ونقتطع هنا أبرز ما جاء في قصيدة “بطاقة هويّة” للشاعر محمود درويش، حين قال: “سجل أنا عربي سلبت كروم أجدادي وأرضا كنت أفلحها أنا وجميع أولادي ولم تترك لنا ولكل أحفادي سوى هذي الصخور فهل ستأخذها… حكومتكم كما قيلا إذن سجل برأس الصفحة الأولى أنا لا أكره الناس ولا أسطو على أحد ولكني إذا ما جعت آكل لحم مغتصبي حذار حذار من جوعي ومن غضبي”.
ويعتبر درويش أحد أهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن، ويطلق عليه اسم “شاعر المقاومة”، وقد أسهم في تطوير الشعر العربي من خلال مزجه بين الحب والوطن. كما صاغ وثيقة الاستقلال الوطني الفلسطيني التي اعلنتها منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1988 في الجزائر.
توفي درويش في التاسع من آب/اغسطس 2008 في أحد مستشفيات هيوستن (تكساس، جنوب الولايات المتحدة) عن 67 عاما نتيجة مضاعفات أعقبت عملية جراحية دقيقة في القلب.
وفي عام 2000، اقترح وزير التعليم الإسرائيلي في حينه يوسي ساريد، من حزب ميريتس اليساري العلماني تدريس عدة قصائد لدرويش في المناهج الدراسية الإسرائيلية. لكن رئيس الوزراء في حينه إيهود باراك رفض ذلك مؤكدا أن إسرائيل ليست مستعدة للقبول بذلك.