في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي شهدت مصر حراكا سياسيا بطعم ثورة يوليو 1952م الذي كان مفترضا أن يكون مغايرا تماما لحقبة الملكية .. وبعيدا عن الضجيج الإعلامي في ذاك الوقت، نستعرض مشهد الزخم الثوري في هذه الفترة من خلال تسليط الضوء على مكاتب الرموز السياسية وسيرة مدرائها لكي يتجلى طرفا من كيفية إدارة الحياة السياسية في مصر الثورة، والإجابة على تساؤلات هامة تدور في أذهان الكثيرين عن حقيقة استرداد الشعب المصري لإرادته أم أن المسيرة الثورية كانت أحد أوجه عملة واحدة وجهها الآخر الحياة الملكية الغابرة.
مكتب المشير عامر
العقيد (علي شفيق) مدير مكتب نائب الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة المصرية المشير عبد الحكيم عامر .. يمكن أن يقال أن شفيق كان المدير التنفيذي للقوات المسلحة المصرية، لأن المشير عامر كان عاشقا للسهرات ولقضاء الأوقات السعيدة بعيدا عن الجيش ومشاكل وقضايا الجنود، فلقد أعطاه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كل الصلاحيات التي تجعله القائد الثاني للبلاد، لكنه لطول سهره قلما كان يحضر إلى مكتبه، وبالتالي أوضع كل مهامه في يد على شفيق مدير مكتبه المخلص.
بعد هزيمة 1967 كان جناح المشير عبد الحكيم عامر وعلي شفيق متهما بأنه وراء الهزيمة، وأمر الرئيس عبد الناصر باعتقال كل دفعة 48 كلية حربية- دفعة شمس بدران وعلي شفيق- وتقديمهم جميعا للمحاكمة, وفي صيف عام 1977 عثرت الشرطة الإنكليزية بلندن على جثته داخل الشقة التي كان يقيم فيها في شارع هارلي المتفرع من شارع اكسفورد، والمعروف بشارع الأطباء في وسط لندن .. تلك باختصار قصة مدير مكتب عبد الحكيم عامر (العقيد على شفيق) المثير للجدل.
تزوج شفيق المطربة مها صبري (زكية فوزي محمود) في منتصف الستينات من القرن الماضي, بعد أن تعارفا في إحدى الاحتفالات بالنصر في بورسعيد ضمن كوكبة من فناني مصر في ديسمبر 1966.. وبعد وصلتها الغنائية صافحت الحضور من رجال الدولة، ومن بينهم على شفيق الذي كان بجوار المشير عامر، فتحدثت لشفيق عن واسطة لأحد أقاربها في التجنيد، فأعطاها رقم هاتفه الشخص وبعدها بدأ التواصل بينهما.
ارتبط شفيق مع مها بقصة حب قوية, وصمم على الزواج منها رغم اعتراضات بعض المقربين, بعد أن قبل شروطها بتطليق زوجته (الراقصة نجوى فؤاد) وأن يكون الزواج رسميا لا عرفيا, كما وافقت هي أيضًا على شروطه، ومنها: أن يبقي الزواج سريا, وأن تعتزل السينما والغناء والظهور في الأماكن العامة, وأن تحمي منصبه الكبير من القيل والقال، وتحترم سمعته وسمعة زملائه ومشاعرهم، ودام الزواج حتى وقعت النكسة وانتحر المشير عبد الحكيم عامر, ووضع علي شفيق في المعتقل.
وثمة تساؤلات تطرح نفسها: فهل مجرد مصادفة أن يتزوج المشير عامر من فنانة الإغراء برلنتي عبد الحميد، ويتزوج سكرتيره علي شفيق من الفاتنة مها صبري، وحارسه الشخصي عبد المنعم أبو زيد من الفنانة سهير فخري؟
ومن قبلهم علاقة الملك فاروق بالفنانة كاميليا (ليليان ليفي كوهين فيكتور) التي بدأت عندما رآها ذات مرة في إحدى الحفلات بكازينو حليمة بالاس. وكانت كاميليا تشعر بجمالها وبدأت مطاردات الملك لها حتى توطدت العلاقة بينهما لدرجة أنها علمت بقرار طلاقه للملكة فريدة قبل إعلانه رسمياً .. هناك من يرى أن ما حدث جعلها على مقربة من الملك والقصر ومجتمع رجال السياسة والمال معتمدة على جمالها وأنوثتها مما وفر لها الأجواء لتصبح عميلة للموساد وتسرب لهم أخبار الملك والسراي خاصة في فترة حرب فلسطين.
بل الأغرب من هذا زواج المغنية صباح من النائب في البرلمان اللبناني جو حمود, وكانت أول إطلالة اجتماعية لهما في حفلة أقيمت في فندق “شبرد” في “بحمدون”، وكانت المناسبة تقليدها وسام الاستحقاق اللبناني من رتبة فارس!!، بعد أن قلدت أكثر من وسام عربي!!.
ضمت الحفلة وزير التربية الوطنية جوزيف أبو خاطر الذي قلدها الوسام باسم رئيس الجمهورية، الرئيس كميل شمعون، والموسيقار محمد عبد الوهاب، وعميد المسرح والسينما في مصر يوسف وهبي، والمخرج هنري بركات الذي أخذ بيدها وهي على أول السلم السينمائي.
إنها قضايا شائكة عزف عنها المؤرخون نتيجة رهاب أنها أمن قومي أو معلومات حساسة وهي في الواقع تبريرات لطمس الحقائق وتغييب الوعي، بل واقع الأمر أنها قضايا حدثت في الماضي وتلقي بظلالها القاتمة علي الحاضر فيما تجعل المستقبل ضبابيا.
لقد كان الجناح اليساري في السلطة الناصرية الذي يقوده علي صبري يتحدث في تلك الأيام بقلق عن شريحة من كبار الضباط في الجيش مع عناصر من كبار البيروقراطيين في الأجهزة المدنية تشكل معا ما سمي بـ «الطبقة الجديدة» أي الطبقة التي تريد أن تحل محل النخبة القديمة في النظام الملكي وتفوز بامتيازاتها وتعيش حياتها المترفة في ظل نظام يرفع شعارات ثورية!.
ثم أن بعض هؤلاء الضباط كانوا قد أظهروا عداء سافرا لجمال عبد الناصر ومن بينهم العقيد على شفيق .. هذا الضابط الذي هدد بتوجيه المدافع لبيت عبد الناصر!!
يقول الدكتور مراد غالب وزير الخارجية المصري السابق في كتابه «مع عبد الناصر والسادات»: بعد حرب 5 يونيو 1967 والتخلص من المشير عبد الحكيم عامر، ذهبت للرئيس جمال عبد الناصر أعرض عليه بعض الأمور التي تتصل بعملي كسفير لمصر في موسكو، وكان علي شفيق سكرتير المشير عامر قد قال لي أنه يكاد الآن يموت جوعا بعد قطع راتبه، ووقف زوجته المطربة مها صبري عن الغناء في الإذاعة، وجاءني للتوسط للسماح لمها صبري بالعودة للغناء.
أبلغت الرئيس جمال عبد الناصر بهذا الموضوع، فقال لي: ألا تعرف ما الذي فعله معي علي شفيق؟! قلت: لا. فقال عبد الناصر: في عام 1962 سرت شائعة بأن القوات المسلحة انضمت كلها لعبد الحكيم عامر، ولا يقف مع عبد الناصر سوي القوات الجوية، وجاء علي شفيق في هذه الظروف بالمدفعية ووجهها إلي بيتي، وقال: لو حلقت طائرة واحدة من القوات الجوية من أي مطار في مصر فسوف نضرب بيت عبد الناصر بالمدفعية .. هذا هو علي شفيق الذي تتوسط له، ثم سألني الرئيس: من الذي بعث معك بالرسالة :هل هو علي شفيق أم مها صبري؟!..فقلت ضاحكا: والله يا ريس هو علي شفيق، وليس مها صبري!!
ومنذ استبعاد زوجها عن العمل السياسي، ومها صبري تكتفي بالعيش في الظل مع زوجها العسكري السابق علي شفيق وابنهما أحمد، وانحسرت الأضواء الإعلامية عنها تمامًا، ولم يبق لها سوى بضع حفلات غنائية تقوم بإحيائها.
وذات يوم كانت مها بصدد إحياء حفل زفاف بفندق «هيلتون»، وقام زوجها بتوصيلها، ودخل معها قاعة الحفل ثم عاد إلى السيارة ليضعها في مكان انتظار السيارات.
وعندما وصل شفيق لسيارته شاهد أدخنة تتصاعد من مقدمتها، فأسرع يفتح غطاء الموتور ليرى ما يحدث، فتصاعدت النيران بسرعة هائلة وبقوة كبيرة أصابت عينيه بحروق بالغة، وتم نقله إلى المستشفى في الوقت الذي كانت تغني فيه مها ولم تكن تعلم شيئًا عن الحادث.
وما إن أنهت دورها في الحفل حتى لحقت به إلى المستشفى فوجدته معصوب العينين، وظل هكذا لعدة أسابيع من جراء هذا الحادث الذي نُشر في الصحف المصرية كأول خبر عن علي شفيق بعد عشر سنوات من الانزواء.
ومع وفاة عبد الناصر انفرجت الأمور قليلًا، وبدأ زوجها هو الآخر يتحرك ويعمل بالتجارة، حتى جاء عام 1977 فتلقت مها صبري عرضاً مغرياً للغناء في أحد ملاهي لندن، وفي نفس الوقت كان علي شفيق قد بدأ يعمل في تجارة السلاح .. وعلى من يدخل تجارة السلاح أن يحمل كفنه معه دائما!!
بعد أن تردد في ذلك الوقت أن علي شفيق باع سرًا صفقة سلاح لفصيل من الفصائل اللبنانية, فكان مصيره التصفية من جانب عملاء تابعين لتجار ربما حاول شفيق منافستهم في منطقة نفوذهم.
استقبل شفيق غريبين في شقته، يشتبه بأن لهما صلة بتجارة السلاح, وحدثت بينه وبينهما مشادة انتهت بضربة من أحدهما بآلة حادة في مؤخرة رأسه سببت له غيبوبة، ثم تلقي عددا من الطعنات بسكين تزيد علي 20 طعنة، وتركاه ينزف حتى الموت, ولم يتم اكتشاف الجريمة سوى صدفة عبر الجيران الذين أبلغوا الشرطة بانبعاث رائحة غريبة من الشقة التي كان يقيم فيها علي شفيق.
يقول المحللون: أما المبلغ المالي الضخم الذي عثروا عليه في الشقة (حقيبة بها نحو مليون جنيه إسترليني), ربما يحمل رسالة واضحة من القتلة, مفادها أن هدف القتل لم يكن السرقة, مما يوحي بأنها تصفية حسابات داخلية في إحدى شبكات تجارة السلاح, أو كأنهم يقولون في رسالة دموية:”إن المال لا يهم, المهم عدم تجاوز الخطوط الحمراء لاقتناص المزيد من المال, ومزاحمة الكبار المسيطرين على هذا النوع من التجارة.”. لكننا نرى أن مليون جنيه لا يزهد فيها أحد، والأغلب أنه حدث شيء ما أثناء الجريمة حال دون حملها والهروب بها.
وبعد مقتل زوجها حاولت مها صبري أن تعود إلى الحياة الفنية بمصر ولكنها لم تنجح، فاعتزلت مع الأمراض التي باتت تلاحقها حيث أصيبت بقرحة المعدة، وماتت بغيبوبة كبد في 16 ديسمبر عام 1989.