ماتزال الآثار الارتداديّة لمحاولة الانقلاب الفاشلة، التي شهدتها الجمهوريّة التركيّة مساء الجمعة 15 يوليو الجاري، تتوالى تباعًا على كافّة الأصعدة، في بلدٍ مثّل الاستقرار السياسيّ والأمنيّ والحكم الديمقراطيّ المدنيّ، اللبنة الأساسيّة التي بنى عليها نهضته الحضاريّة الحديثة، حيث لم تقتصر التداعيات السلبيّة للانقلاب الفاشل على الحياة السياسيّة في البلاد فحسب، بل طالت شتّى ميادين الحياة العامّة هناك، ولم تكن الرياضة عن ذلك بمحيد.
ففي أبرز التبعات المباشرة للانقلاب الفاشل، شهدت الأيّام القليلة التي تلته، موجة إقالاتٍ وتوقيفاتٍ واسعة النطاق في الوسط الرياضيّ التركي، بعد أن قررت السلطات السياسيّة في البلاد إيقاف 245 موظّفًا في وزارة الشباب والرياضة عن عملهم بشكلٍ مؤقّت، على خلفيّة التحقيقات الهادفة لإعادة هيكلة مؤسسات الدّولة بعد تطهيرها من الانقلابيين، ونُقل عن وزير الشباب والرياضة التركي عاطف جاغطاي قوله أنّ الإيقاف سيستمرّ حتّى انتهاء التحقيقات مع المشتبه في تورّطهم بالأحداث.
رئيس نادي غلطة سراي دورسون أوزبيك
وكانت بعض التقارير الصحفيّة المحلّية قد أشارت إلى تورّط رئيس نادي غلطة سراي في دعم محاولة الانقلاب الفاشلة، وهو ما نفاه النادي التركي بشكلٍ قاطعٍ من خلال بيانٍ رسميٍّ أكّد فيه رفضه للانقلاب ووقوفه إلى جانب الشرعيّة، وعلى منواله نسجت بقية الأندية التركيّة الكبرى، فقد نشر نادي فنر بخشة بيانًا على موقعه الالكتروني يقول فيه: (ديمقراطيّتنا دومًا ستعيش، لا للانقلاب)، وكذلك نشر نادي بيشكتاش رسالةً مختصرةً قال فيها: (تعيش الديمقراطيّة)، فيما كان بيان نادي طرابزون سبور أكثر تفصيلًا بقوله: (نحن ضدّ أيّ نوعٍ من الانقلاب على الديمقراطيّة، نقف دائمًا مع دولتنا وأمّتنا)، كما نشر الاتّحاد التركيّ لكرة القدم بيانًا عبر موقعه الرسمي، حيّا فيه جماهير الشعب التي جابت شوارع المدن التركيّة، دعمًا للحكم الشّرعي وحمايةً للديمقراطيّة في تركيا الحديثة، وبدوره، نشر كابتن المنتخب التركيّ الأوّل لكرة القدم ونجم نادي برشلونة الإسباني أردا توران، على صفحته الرسميّة في موقع إنستاغرام، صورةً قديمةً تجمعه بالرئيس التركي رجب طيّب أردوغان، وعلّق عليها بقوله: (نقف إلى جانبكم).
صورةٌ تجمع الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان بقائد المنتخب أردا توران
ورغم سلامة قطّاع الرياضة في البلاد بمنشآته ورياضيّيه من أيّ أذىً مباشرٍ خلال الأحداث، إلّا أنّ التأثير غير المباشر على الرياضة التركيّة كان كبيرًا، فقد تسببت محاولة الانقلاب الفاشلة في إلغاء المباراة الودّية بين أصدقاء النجم الكاميروني صامويل إيتو ومنتخب أساطير العالم، والتي كان من المقرّر أن تستضيفها مدينة اسطنبول في اليوم التالي، بحضور نخبةٍ من نجوم الكرة العالميّة في الماضي والحاضر، كليو ميسي، أندريس إنييستا، نيمار، كريم بن زيمة، إيدين هازارد، أردا توران، ديديه دروغبا، إريك أبيدال، ديكو، كارليس بويول، إضافةً إلى إيتو الذي تتولى مؤسسته الخيريّة تنظيم الحدث، الذي كان سيمثّل دعايةً عالميّةً ممتازةً للكرة التّركيّة، وخاصّةً مع مشاركة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان خلاله، وهو الذي يُعرف عنه ولعه بكرة القدم، حيث مارسها سابقًا بشكلٍ شبه احترافيٍّ في صفوف فريق قاسم باشا التركي.
كما ألقت تداعيات الانقلاب الفاشل بظلالها القاتمة على صورة تركيا أمام العالم، كبلدٍ مثاليٍّ للرياضة والرياضيين، حيث علّق نادي أتلتيكو مدريد الإسباني سفره إلى اسطنبول، لإقامة معسكرٍ تدريبيٍّ تتخلّله مباراةٌ مع نادي غلطة سراي، بدعوى فقدان الأمن، كما أبدى مسؤولو نادي موناكو الفرنسي تخوّفهم حيال السفر إلى اسطنبول، لخوض مباراة تصفيات دوري أبطال أوروبّا أمام فنر بخشة نهاية الأسبوع الحالي، وطالبوا السلطات التركيّة باتّخاذ مزيدٍ من الإجراءات الأمنيّة الوقائيّة لضمان سلامة بعثتهم، في الوقت الذي طمأن فيه وزير الرياضة التركيّ جميع زوار تركيّا والمقيمين فيها من الرياضيين بقوله: (لا مشكلة في القدوم إلى تركيّا الآن، كلّ الأمور تحت السيطرة).
نجم بيشكتاش ماريو غوميز قرّر مغادرة تركيا
ولكن يبدو بأن تلك التطمينات لم تجد آذانًا صاغيةً لدى بعض المحترفين الأجانب في أندية الدّوري التركي، حيث أفصح مهاجم نادي بيشكتاش الألماني ماريو غوميز بوضوحٍ عن قراره بمغادرة تركيا عقب الأحداث الأخيرة، بقوله عبر صفحته على الفيس بوك: (أودّ أن أخبر جماهير نادي بيشكتاش بأنّني لن أكون معهم الموسم المقبل)، مؤكّدًا بأن الأحداث السياسيّة المروّعة التي تمرّ بها البلاد كانت السبب الوحيد وراء قراره، ومتمنّيًا الوصول إلى حلٍّ سلميٍّ في أسرع وقتٍ ممكن، وبدوره، ألمح الآرجنتيني خوسيه سوزا نجم بيشكتاش إلى الرحيل أيضًا بقوله: (زوجتي أصبحت تشعر بالخوف من العيش في اسطنبول، وأنا أيضًا أخشى على ابنتي، أولويّتي هي عائلتي).
وكان النجم الألماني لوكاس بودولسكي المرتبط مع نادي غلطة سراي بعقدٍ حتّى عام 2019، قد عبّر سابقًا عن رغبته بمغادرة تركيّا بسبب عدم شعوره بالأمان، وذلك عقب سلسلة الهجمات الإرهابيّة التي تعرّضت لها البلاد، وخاصّةً حادثة الانفجار التي شهدها مطار أتاتورك الدّولي في اسطنبول منتصف الشهر الماضي، والتي أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا، كما أعلن الألماني ماكس كروز لاعب نادي فولسبورغ الألماني الذي كان قريبًا جدًّا من الانتقال لصفوف غلطة سراي، بأن انتقاله إلى تركيا بات أمرًا مستحيلًا.
شعار أندية الدّوري التركي – السوبر ليغ
وهكذا، بات على جماهير الكرة التركيّة تقبّل حقيقة صعوبة إقناع النجوم الأجانب بالبقاء في تركيا أو القدوم إليها في الوقت الحالي، بعد أن كان الدّوريّ التركيّ إحدى الوجهات المفضّلة للاعبين الأجانب، بفضل الأمن والرفاهيّة التي كان المجتمع التركيّ ينعم بها، فضلًا عن الأموال الضخمة التي كانت الأندية التركيّة تغدقها في سبيل التعاقد معهم، والتي يبدو بأنّها ستتضاءل كثيرًا، بفعل تأثّر الاقتصاد التركيّ بحالة عدم الاستقرار التي تمرّ بها البلاد في الوقت الراهن، فسعر صرف الليرة التركيّة أمام العملات العالميّة هبط لأكثر من 8% خلال الأيّام القليلة الماضية، والهالة الإعلاميّة الكبيرة التي كان دوري السوبر ليغ التركي يحظى بها، والتي كانت تنعكس إيجابًا على أنديته، تقلّصت مساحتها بشدّةٍ أمام الاهتمام والتغطية الخاصّة التي فرضتها الأحداث الآنيّة في البلاد، وبالتّالي، فمن الطبيعيّ أن تقتصر صفقات كبرى الأندية التركيّة على بعض اللاعبين من ذوي العقود المنتهية والأجور المنخفضة، كصفقة الظهير البرازيلي أدريانو القادم من برشلونة إلى بيشكتاش، في محاولةٍ من بطل الدّوري التركي للحفاظ على توازن الفريق بعد مغادرة العديد من نجومه.
سيّدات تركيا بكرة السلة حجزن بطاقة التأهّل لأولمبياد ريو دي جانيرو
آخر ما يجدر بنا التطرّق إليه في معرض حديثنا عن الرياضة التركيّة في ظلّ الأزمة الراهنة، هو موضوع المشاركة التركيّة في فعّاليّات دورة ألعاب ريو دي جانيرو الأولمبيّة الصيفيّة، التي باتت على الأبواب، حيث ستنطلق البطولة في الخامس من شهر أغسطس القادم، على أن تستمر حتّى ال21 منه، وقد طمأنت مصادر في وزارة الشباب والرياضة الجماهير، بأن البعثة الأولمبيّة للبلاد، والتي تتألّف من 103 رياضيٍّ ورياضيّة، باتت على أتمّ الاستعداد لتمثيل تركيا في المحفل الرياضيّ العالميّ الأكبر، وهي ستتجه إلى البرازيل في الثاني من أغسطس للمشاركة في 21 فعّاليّةً أولمبيّة، تتضمّن: ألعاب القوى، المصارعة، كرة السّلّة، الملاكمة، الجودو، التايكواندو، رفع الأثقال، الرماية، السباحة، وغيرها، في سعيٍّ من الرياضيين الأتراك لتكرار نجاحات بلادهم الرياضيّة في الألعاب الأولمبيّة، والتي كان آخرها في أولمبياد لندن الماضي، الذي أحرز خلاله الرياضيّون الأتراك 5 ميداليّاتٍ أولمبيّة بواقع: ذهبيّتين، فضّيّتين، وبرونزيّة، في رياضات: ألعاب القوى والتايكواندو والمصارعة، التي تعوّل عليها الجماهير التركيّة كثيرًا، لتحقيق انتصاراتٍ وإنجازاتٍ جديدة، تثبت بأن النهضة الرياضيّة التركيّة التي بُنيت على أساسٍ سليم، أقوى من أن تنهار عند أوّل هبّة ريح.