بدأ كل شيء بمحاولة تشويه النموذج التركي من خلال تجييش وسائل الإعلام والقوة الناعمة ضد أردوغان وصحبه، ثم كانت تلك الهجمات الأخيرة التي استهدفت العاصمة التركية تحديدا، بهدف إضعاف تركيا اقتصاديا من خلال جرها إلى حروب وهمية ضد أعداء وهميين، بينما كانت مؤامرة قذرة يتم تدبيرها من طرف أعداء الداخل بالتعاون مع أعداء الخارج لاستثمار هذه العمليات بهدف عزل أردوغان داخليا ودوليا، أما داخليا فقد تلخصت العملية في مخططات إرهابية ومؤامرات سياسية نجحت نسبيا في الوصول إلى هدفها بعد أن شهدت تركيا أكثر من 5 تفجيرات منذ بداية سنة 2016، كانت أغلبها في العاصمة السياسية لتركيا؛ إسطنبول، ثم مثّلت استقالة دواد أغلو ضربة موجعة لأردوغان، لأنه ربما لو حدث هذا الطلاق بين الرجلين في وقت آخر، لكانت نتائجه مختلفة وأقل ضررا لتركيا، أما خارجيا فقد تعمدت القوى الإقليمية استفزاز تركيا، بدءا بروسيا التي افتعلت أزمة سياسية قبل ثلاثة أشهر على الحدود السورية، وصولا إلى إسرائيل التي عملت على التأكد من دفع تركيا ثمن دفاعها عن فلسطين، دون أن ننسى الدول الأوروبية التي حاولت إعادة إحياء أزمات تاريخية من خلال “قضية الأرمن”، وما زاد الأمر تعقيدا تخلي بعض حلفاء تركيا عنها، وعجز البعض الآخر عن الدفاع عنها في وجه المؤامرات الداخلية والخارجية، فكانت النتيجة من وراء كل ذلك مؤامرة بشعة تستهدف تركيا شعبا وقيادة، كادت أن تؤدي إلى تكريس نظام عسكري متصلب يحاكي نماذج الدول العربية، مثل مصر.
لقد نجت تركيا من سيناريوهات أسوء بفضل التفاف شعبها وراء القيادة التركية، وزعيمها أردوغان، وكان يمكن أن يؤدي هذا الانقلاب إلى دخول الدولة في حالة فوضى بسبب سيطرة العناصر الانقلابية في الجيش على مؤسساتها، ما يعني سيناريو مماثل للسيناريو المصري، وإن كان الأمر مستبعدا إلى حين تأكد الحقائق المخفية حول خفايا العملية الانقلاب الفاشلة، الذي يجب ألا نغفل فيه عن دور المؤسسة العسكرية التي بعض فلولها دائما على نصب الفخاخ للقيادة التركية، ومن الممكن أن تؤدي هذه العملية الانقلابية إلى كشف كل الأوراق المخفية لأعداء تركيا في الداخل، بعد أن فشلت آخر مؤامرة في سلسلة المؤامرات المتكررة لتكريس الانقسامات الداخلية بين مختلف مؤسسات الدولة والطوائف السياسية في تركيا، في محاولة لتصدير نماذج بعض دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا، وتنزيلها على الواقع التركي.
أما بالنسبة للمواقف الدولية، فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا. ولا يمكن أن تتبنى الولايات المتحدة الانقلابات الفاشلة، ولذلك أعلنت قبل بقية العالم دعمها “للمؤسسات الديمقراطية في تركيا”، وفي حوار تلفازي على إحدى القنوات العربية سألت المذيعة أحد المسؤولين الأتراك:
“لقد نددت الولايات المتحدة وألمانيا بالانقلاب في تركيا، كيف ساهم ذلك في إضعاف الانقلابيين؟”
فكانت إجابته: لقد أفشلنا الانقلاب قبل أن يكون هناك أي تنديد !
وفي انقلاب سنة 1980 الذي تزعمه كنعان إيفرين قال ضابط في المخابرات الأمريكية للرئيس الأمريكي جيمي كارتر خلال اتصال هاتفي “لقد فعلها أولادنا”، أما اليوم فأعتقد أن أوباما تلقى اتصالا يقول “لقد خذلنا أولادنا”.
إن انقلاب تركيا الأخير كان عملية إستراتيجية شارك فيها أعداء الداخل بالتعاون مع أعداء الخارج، ما يعني أنه إذا كان هناك خطأ فهو ليس خطأ الولايات المتحدة لوحدها، بل قد يكون خطأ حلفائها في الداخل من أتباع فتح الله كولن، فالانقلابات ليست عملية حسابية دقيقة يمكن أن تخطط لها الولايات المتحدة كما تخطط لحروبها، وقد كان الشعب التركي حاسما في إنهاء الانقلاب، وردود فعله كانت كلها إلى جانب أردوغان، الذي دعاه في أول خطاب له إلى الخروج إلى الشوارع ورفض الانقلاب، فاستجابت الجماهير التركية بالنزول إلى الشوارع، ولذلك كان الانقلاب اختبارا حقيقيا وخطيرا لمدى التفاف الشعب التركي بكل اختلافاته حول القيادة التركية، أما المعارضة التركية فقد كان دورها مفصليا في ضرب العمود الفقري للانقلابيين الذين كانوا يبحثون خلال الساعات الأولى عن أكبر قدر من الدعم من الأطراف السياسية في الداخل، ليصبغوا شرعية وهمية على عمليتهم الانقلابية، أما المواقف الخارجية فإنها لم تكتس أهمية كبرى، لأن السياسة الخارجية للدول الإقليمية تعتمد أساسا على الحذر والترقب، في انتظار ما قد تكشف عنه كل المعطيات حول العملية الانقلابية على الميدان.
إن مردود الإعلام العربي كان مخيبا للآمال في تغطية العملية الانقلابية الفاشلة في تركيا، فقد اقتصر دور بعضها على نشر ما نقلته بعض وسائل الإعلام التركية التي تفتقر للمصداقية، بينما حاول البعض الآخر مغالطة الجماهير العربية والتلاعب بمشاعرها، من خلال تزييف الحقائق حول طبيعة ما يحدث في تركيا، ومن بينها قناة سكاي نيوز العربية التي نقلت خبرا زائفا نسبته لأحد المسؤولين الأمريكيين حول طلب أردوغان اللجوء إلى ألمانيا، ثم قامت بحذفه من صفحتها على تويتر بعد دقائق معدودة، ليخرج الرئيس التركي بعد أقل من ساعة واحدة مؤكدا “أنهم لبسوا الأكفان منذ أخذوا على عاتقهم هذه المسؤولية”.
لقد كشفت العملية الانقلابية الأخيرة عن الخيط الرفيع الذي يربط بين سلسلة الهجمات الإرهابية التي تستهدف تركيا منذ أشهر، والسياسات الخارجية للدول الغربية في علاقتها بتركيا، وخفايا التوترات الإقليمية بين روسيا وتركيا، والمؤامرات القذرة التي كانت تُدبر ضد تركيا شعبا وقيادة من أعداء الداخل، والأهم من ذلك كله، لقد كشفت الانقلاب للقيادة التركية أصدقائها المزيفين وأعدائها الحقيقيين.
إن تركيا لن تكون بعد اليوم كما كانت قبل هذه العملية الانقلابية الفاشلة، وسيكون على القيادة التركية أن تواجه التحديات القادمة بكثير من الحذر والحيطة، لأن الأسوأ قد يكون قادما. وقد تكون تركيا نجحت في إفشال انقلاب عسكري وقع التخطيط له منذ سنوات، لكنها ستكون في حاجة إلى التغلب على التحديات والمخاطر التي تهددها داخليا وإقليميا، بعد أن كشف هذا الانقلاب عن بشاعة الوجه الحقيقي للتنظيم الموازي، ومدى انتشاره في الداخل مستفيدا من شبكة علاقات خارجية معقدة.