موجة جديدة من موجات ارتفاع الأسعار ينتظرها المصريون خلال الأيام القليلة القادمة، فمع القفزة الجنونية لقيمة سعر الدولار أمام الجنيه المصري، والتي تجاوزت الـ13جنيه، إضافة إلى المضي قدما نحو تطبيق القيمة المضافة على السلع، يدخل السوق المصري غرفة الإنعاش من جديد، لتسجل معدلات التضخم معها أعلى نسبة في العالم، إذ تتجاوز الـ 14% بما يمثل جرس إنذار، ورسالة شديدة اللهجة للقائمين على أمور المنظومة الاقتصادية في مصر.
وبالرغم من إعلان محافظ البنك المركزي عن فشل السياسات النقدية المتبعة بشأن تخفيض قيمة العملة المحلية، فضلا عن ارتفاع سعر الفائدة للمرة الثانية خلال هذا العام، إلا أن التوجه العام يشير إلى استمرار الحال على ما هو عليه، والإبقاء على هذه السياسات دون تغيير، بما يضع العديد من علامات الاستفهام حول الهدف من وراء هذا التعنت والجمود الذي يدفع المواطن وحده ثمن فشله.
ارتفاع سعر الدولار وتفاقم الأزمة
لا توجد دولة في العالم تعاني من اضطراب وتباين منظومة سعر عملتها المحلية أمام العملات الأجنبية كما يحدث في مصر، ففي اليوم الواحد من الممكن أن ينخفض الجنيه أمام الدولار من 4 – 5 مرات، وهو ما يعكس فشلا واضحا في السياسات النقدية المتبعة من البنك المركزي.
ويمكن قراءة حجم الكارثة الحقيقية التي تعاني منها العملة المحلية المصرية من خلال الوقوف على سعر الدولار أمام الجنيه في بداية هذا العام مقارنة بما وصل إليه الحال الآن، حيث كان سعر الدولار في السوق السوداء في يناير 2016 حوالي 8.72 جنيه، وبعد مرور 7 أشهر تخطى حاجز الـ 13 جنيه، بزيادة قدرها 4.28 جنيها في نصف عام فقط، بما يعكس اقتصادا على شفا الانهيار.
وبعد مرور 4 أشهر تقريبا على قرار البنك المركزي المصري خفض قيمة الجنيه أمام الدولار بنحو 112قرشا، مارس الماضي، في محاولة لاحتواء الأزمة، وتصحيح المسار الاقتصادي، فقد ثبت وبالتجربة فشل هذا القرار، وأنه قد تسبب في تفاقم الوضع، وهو ما أفرز هذا الارتفاع الجنوني لقيمة الدولار أمام العملية المحلية، ومع ذلك لازالت الحكومة المصرية تنتهج نفس السياسات النقدية التي ثبت فشلها، وهو ما تجسده رغبة النظام الحاكم في مصر في مواصلة اللجوء إلى الاقتراض الخارجي لسد العجز، رغم وصول الدين الخارجي إلى 53 مليار دولار، وبذلك تتضاعف الديون الخارجية، خاصة مع ارتفاع الدولار؛ ومن ثم ترتفع سعر الفائدة، الأمر الذي يتحمل أعباءه الأجيال القادمة.
بيع أصول الدولة وإبداعات الحل
مابين الحين والأخر تتفتق أذهان المسئولين في الحكومة المصرية والمقربين من دوائر صنع القرار، عن حزمة من الإبداعات التي من شأنها المساعدة في الخروج من الأزمة، ودفع عجلة التنمية للأمام، واستعادة قيمة العملة المحلية أمام الأجنبية، وهو ما يعكس حجم الكفاءات والمواهب داخل مؤسسات الدولة، حيث كشف محافظ البنك المركزي طارق عامر، الأسبوع الماضي، عن اتجاه الحكومة لبيع بعض أصول الدولة، خلال الاجتماع الذي عقدته اللجنة الاقتصادية بمجلس النواب، وطرح بعض الأصول في بورصة الأوراق المالية المصرية، ضمن برنامج موسع لإصلاح السياسة النقدية في الموازنة العامة للدولة، والذي يهدف جذب 10مليارات دولار خلال الـ3سنوات القادمة.
قوبلت تصريحات عامر بسخرية واستنكار من العديد من خبراء الاقتصاد، حيث أعتبرها البعض حلولا “ساذجة” كما أشار بذلك الباحث الاقتصادي رضا عيسى، والذي أكد أن هذا الطرح يهدف للحصول على الدولار، لمواجهة ارتفاع أسعاره، ملفتا أنه حل “ساذج”؛ لأن البيع سيساهم في الحل المؤقت للأزمة، وسوف تظهر من جديد؛ لأننا نحتاج إلى دخل يومي لحل أزمة الدولار، كما أن هذه الأصول تدر دخلًا ثابتًا؛ وبالتالي فإن عملية البيع أو الطرح ستكون تخليًا عن الدخل الثابت، متسائلًا: ماذا سنبيع بعد ذلك عند ظهور الأزمة من جديد؟
الباحث استنكر في تصريحات صحفية له هذه الأفكار المعلبة، مشككا في إمكانية جذب 10 مليارات دولار خلال الثلاث سنوات القادمة؛ نتيجة طرح هذه الأصول، قائلا : إن هذه التصريحات تُذكر بتصريحات محافظ البنك المركزي عندما قال إن الدولار سوف يصل إلى 4 جنيهات، وهو ما لم يحدث، مشيرًا إلى أن هذا الرقم مشكوك فيه، في ظل عدم طرح أي دراسة جدوى لتحصيله، وهو ما أكد عليه أيضا دكتور شريف الدمرداش، الخبير الاقتصادي، والذي أشار إلى أن جميع الحلول المطروحة والبعيدة عن زيادة الإنتاج والحد من الاعتماد على الاستيراد كلها تأتي في إطار الجباية أو البيع، لافتًا إلى أن هذا المنهج شديد القلق؛ لأن بيع أصول الدولة تضحية بمستقبل الجيل القادم؛ حيث إن سياسة الدولة لحل الأزمة هي بيع ما هو مملوك للشعب، مشددًا على أنه من الخطأ الاتكال على مبدأ الاعتماد على الشعب في حل الأزمة الاقتصادية.
موجة تضخم عاتية
يمثل التضخم أبرز الأزمات التي تخترق منظومة الاقتصاد المصري، وتهدد مستقبل الملايين من المواطنين، في ظل ارتفاع غير مسبوق للأسعار، يقابله تراجع في مستوى قيمة العملة المحلية، خاصة بعد القفزة الجنونية لمعدلات التضخم في الآونة الأخيرة والتي وصلت إلى 14.8% في يونيو 2016، وهو أعلى معدلات التضخم في العالم.
العديد من الخبراء أرجعوا ارتفاع معدلات التضخم بهذه الصورة غير المسبوقة في تاريخ مصر الاقتصادي، إلى غياب المشروعات الإنتاجية التي تثري السوق بالمنتجات التي تدر دخولا وعملات صعبة، في مقابل اعتماد الدولة على المشروعات الخدمية، فضلا عن العجز الهائل في الموازنة العامة والذي يزيد عاما تلو الأخر، مما يدفع الحكومة إلى الاقتراض لسد هذا العجز، وسواء كان الاقتراض داخلي أو خارجي فإن هذا يتسبب في رفع الدين العام للدولة، إلى أن وصل حسب بيانات البنك المركزي الأخيرة إلى 2.968 تريليون جنيه، وهو ما يعادل تقريبًا 104% من الناتج المحلى الإجمالي.
كما أن المضي قدما في الإنفاق الحكومي على المجالات غير الضرورية في الوقت الراهن، وغياب الرقابة على الصناديق الخاصة للموازنة، وزيادة الواردات من السلع الكمالية غير الضرورية، إضافة إلى الفشل في تطبيق الضريبة التصاعدية، ومواجهة الاحتكار ساهم بشكل كبير في تفاقم معدلات التضخم، كما أنه سيزيد الموقف تأزما خلال الفترة المقبلة حال بقاء الوضع على ما هو عليه.
في تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عن ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه المصري، والآثار المترتبة على ذلك فيما يتعلق بمستوى التضخم، أشار إلى أن خفض قيمة العملة المحلية سيؤدي إلى ارتفاع مستويات الأسعار بصورة كبيرة، وهو ما لم تتحمله البلاد في الوقت الراهن، لاسيما مع وصول معدلات التضخم إلى 14% تقريبًا على أساس سنوي في يونيو المنصرم، منذ خفض الجنيه في مارس الماضي.
أشار إلى أن التكهنات التي تشير إلى لجوء الحكومة المصرية إلى خفض قيمة الجنيه مرة أخرى سيؤدي إلى نتائج عكسية، لاسيما بعد الهبوط المفاجئ له منذ مارس الماضي، وهو ما أعتبره محافظ البنك المركزي قرارا ” خاطئا”، ترتب عليه ارتفاع غير مسبوق في الأسعار لم يتحمله المواطن، ومن ثم فتكرار هذه السياسة مرة أخرى قد تأتي بآثار كارثية على المجتمع بصورة عامة.
تصريحات أدلى بها الخبير الاقتصادي هاني فرحات، من مؤسسة ” سي أي كابيتال” تضمنها التقرير أشارت إلى أن التنفيذ المرتقب لضريبة القيمة المضافة سيساهم بشكل كبير في زيادة معدلات التضخم، خاصة مع ارتفاع مستويات الأسعار جراء تطبيق هذه القيمة، كما أن معدلات التضخم المرتفعة تعني أن البنك المركزي المصري سيقوم على الأرجح برفع أسعار الفائدة مجددا، علما بأنه كان قد رفع سعر الفائدة في يونيو الماضي، في خطوة هي الثانية من نوعها هذا العام.
الصحيفة الأمريكية في تقريرها أشارت إلى أن التراجع الكبير في قيمة الجنيه المصري في السوق السوداء جاء مدفوعا جزئيا بتكهنات بتخفيض وشيك لقيمة العملة الرسمية بعد تصريحات في وقت سابق هذا الشهر من محافظ البنك المركزي طارق عامر، والذي أشار فيها إلى أنه وبالرغم من أن مسألة تعويم الجنيه غير ممكنة حاليا، فإن خفض العملة ” سيحدث عندما يرى البنك أن الوقت مناسب.”
ياسون توفي، الخبير المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة ” كابيتال إيكونوميكس” قال حسبما نقل التقرير :” إن التصريحات الأخيرة التي أطلقها صانعو السياسات في مصر تدل على أن المسألة تتمركز حول توقيت خفض العملة،” مردفا أنه يتوقع هبوط الجنيه بنسبة تتجاوز 10 جنيهات مقابل الدولار في العام المقبل.
التقرير وصف الاقتصاد المصري، بـ “المتخبط “، وهو الذي لم يكد يخرج من مأزق حتى يتعثر في آخر، حيث أنه لم يتعافى بعد من أزمة تراجع معدلات السياحة والاستثمارات الأجنبية، والتي كانت المصدر الأول للعملة الصعبة في البلاد، إضافة إلى تراجع تحويلات العاملين بالخارج، لأسباب بعضها سياسي والأخر مجتمعي، حتى يدخل في انهيار لعملته المحلية أمام العملات الأجنبية، فقد خلالها ما يقرب من نصف احتياطيه النقدي، والذي استقر عند 17.5مليار دولار نهاية يونيو الماضي، تكفي لتغطية واردات ثلاثة أشهر فقط، مقارنة بما يزيد عن 36 مليار دولار قبيل ثورة يناير 2011، حسبما أشار التقرير.
للمرة الرابعة أو الخامسة يعاني فيها المصريون من شبح ارتفاع الأسعار منذ تولي عبدالفتاح السيسي مقاليد الأمور، بالرغم من وعوده المتلاحقة وتعهداته المتتالية بقدرته على السيطرة على الأسعار، إلا أنها تبخرت جميعا أمام هذا الانهيار الشديد للجنيه أمام العملات الأجنبية..ليبقى السؤال: إلى متى سيظل المواطن المصري وحده من يدفع ثمن فشل السياسات النقدية للحكومة، وغياب رؤية النظام في الخروج من المأزق؟