محمد خان المخرج السينمائي الذي ترك الهندسة المعمارية التي درسها في إنجلترا من أجل السينما، حيث كانت السينما هي عالمه الخاص منذ أن كان صغيرًا، فقد وُلد محمد خان في مصر عام 1942 في السادس والعشرين من أكتوبر لأب باكيستاني وأم مصرية، ليشاء القدر أن يقطن خان في منزل يقابله سينما صيفية، ليكون معدل مشاهدته الأسبوعية للأفلام تعادل خمسة أفلام لكل أسبوع، ومن هنا أصبح مدمنًا للسينما كما كان يحب أن يصف عن نفسه.
لم يكن يعرف محمد خان حينها أن السينما يمكن أن تُدرس، فقد عرف الأمر بالصدفة من زميله في السكن حينما عرف انه يدرس السينما، فلطالما تصور أن السينما هي مجموعة من الممثلين خلف كاميرات تصورهم فحسب، ولم يكن يعرف شيئًا عن الإخراج حينها، لتكون مقابلته مع دارس السينما نقطة التحول الكُبرى في حياته، حيث ذهب معه لمدرسة السينما في إنجلترا، ليكتشف نوعًا آخر من السينما لم يكن يعرف عنه شيئًا، ليلتحق بعدها بنفس المدرسة ليبدأ رحلته في دراسة السينما.
عبر محمد خان عن الفترة التي بدأ فيها بدراسة السينما في الستينات بأنها كانت ثورة فنية، ليس فقط في عالم السينما، بل بشكل عام وصفها بأنها ثورة للفكر المتحرر، ثورة في الموسيقى والأزياء والألوان، حيث ساعد وجوده في إنجلترا على أن يرى السينما من وجهة نظر أخرى، وبلغة سينمائية أخرى، وبشكل يختلف تمامًا عما كان يشاهده في السينما الصيفية أمام منزله في مصر.
لطالما وُصف محمد خان في أعماله بأنه محوّل الحكاية الواقعية إلى ضوضاء على شاشة السينما، فأكد ذلك بنفسه واصفًا في إحدى لقاءاته التلفزيونية السابقة بأنه من الممكن أن يحرر في القصة من أجل الشخصية، بل وأحيانًا يخلق القصة من أجل الشخصية، فالشخصية هي من تلهمه بالفيلم وليس القصة المكتوبة، حيث روى أنه استلهم فكرة فيلم ” طيارة على الطريق” من حارس العقار الذي يقابله، حينما وجده يستخدم سيارة بيجو وقت الانفتاح الاقتصادي في مصر، ومن هنا خلق فكرة الفيلم بناءً على تلك الشخصية، كما حدث معه أيضًا في فيلم “هند وكاميليا”، فقد كانت هند هي شخصية مستوحاه من المربية التي ربته في بيته حينما كان صغيرًا.
يرى محمد خان أن الفنان الحقيقي يجب أن يكون اشتراكيًا، لابد أن يكون له نظرة متعاطفة مع المجتمع، ولا يجب أن ينقل المجتمع بصورة قاسية على شاشة السينما، فلا بد له أن يؤمن بالعدالة الاجتماعية، حتى ولو كان مبدأ الاشتراكية مبدأ فاشلًا، كما كان يحب ألا يرى انعزالًا بين الرومانسية وأفلام الواقعية، وهو ما كان يحب أن يعمد إليه معظم مخرجي الأفلام الواقعية، على عكسه تمامًا، حينما كان يرى أنه من جماليات العمل الخاصة به أن يمزج بين الرومانسية والواقعية، وهو ما أضفى على أفلامه طابعًا خاص، ميّزه عن غيره من مخرجي الأفلام الواقعية.
كان يتميز محمد خان بحسه الدرامي بتطور الفيلم، فكان يعرف كيف يمكن له أن يبني الفيلم دراميًا، حيث مال دومًا إلى اختيارالكتابة المباشرة للسينما، فلم يعتمد قط في أفلامه على كتاب أو رواية، فآمن بجذبه للمشاهد عن طريق سير الأحداث في مسار معين، ومن ثم يفاجأة بانطلاقة الفيلم وتحوله إلى مسار مختلف تمامًا، وهو ما كان يسيمه بالحس الدرامي الخاص بتطور الفيلم أمام أعين المخرج وقت بناء الفيلم أثناء تصويره، فلم يحب أبدًا أن يقوم بدوره كمخرج في تحويل النص إلى حركة فحسب، فكانت له لمسته الخاصة في تغيير الأحداث وتحرير القصة لتلائم الممثل.
أسماه عادل إمام بالديكتاتور الناعم، فهو يحب دومًا أن يكون له الرأي الأخير، ولا يمانع أن يستمع لآراء الآخرين، كما يمكنه أن يستشير الآخريين أحيانًا، ويعطي الحق لكل من كان في مسرح التصويرفي إبداء رأيه في الأحداث، ولكنه لم يسمح لأحد أن تكون له الكلمة الأخيرة غيره.
أفلام محمد خان
ضربة شمس (1978)
هو أول أفلام محمد خان، والذي بدأ أثناء وجوده في إنجلترا، والذي وصفه في أحاديثه عنه بأنه الفيلم الذي بدأ بتصوير هندسي بحت، حيث رسم الرسم التخيلي لأحداث الفيلم عن طريق دوائر متقاطعة لرسم هندسي، وهو الذي اعتبره محمد خان نقطة تحوّل بين محمد خان المهندس إلى محمد خان المخرج السينمائي.
كان لخان 24 فيلمًا في تاريخ السينما المصرية، وكانت له مسيرة خاصة مع الفنان أحمد زكي، حيث قدّم معه للشاشة المصرية فيلم أيام السادات، وهو من أهم الأفلام التي وثّقت حياة أنور السادات بعد توليه منصب رئاسة الجمهورية المصرية ومن ثم اغتياله في عام 1981، كما قدم معه فيلم زوجة رجل مهم عن حياة زوجة رجل ضابط شرطة لا يترك فرصة إلا وينتهك فيها حقوق الإنسان.
كان فيلم “فتاة المصنع” هو من أحدث الأفلام التي أخرجها المخرج محمد خان، وهو فيلم الدراما الواقعية الذي استطاع فيه خان أن يجعل المشاهد يشعر بكونه أمام عائلة فقيرة حقيقة تصارع تعنت المجتمع المصري الذكوري في غالبية الأحيان مع النساء، وتحجره أمام مشاعر الحب بين الرجل والمرأة، حيث ياخذك الفيلم من مرحلة مبهجة مليئة بمشاعر الفرحة والحب إلى مسار آخر مليء بالواقعية الأليمة والذي يعبر عنها كادر المشهد التالي:
مخرجز الواقعية يعشقون التفاصيل، وهو ما يعبر عنه الكادر السابق في كون فتاة المصنع ” هيام” ، الفتاة التي ترتدي فستان الزفاف في الصور، تقف في شرفة منزلها وعلى وجهها ابتسامة واسعة نتيجة لسعادتها بأحلام اليقظة عن فارس الأحلام الذي سيغرقها بالحب والحنان، فالفتيات كهيام ومن معها من عاملات المصنع الغير متعلمات لا يجدون في الحياة حلمًا أكثر طموحًا من الحصول على فارس الأحلام الذي يمكن أن ينتشلها من الفقر إلى حياة الحب والرغد الذي تنتظره، تقف احلام في الشرفة مستمتعة بفستان الزفاف، إلا أن الكادر اتسع ليشمل صورة حزمة من البصل والثوم، وهو المشهد التقليدي في معظم الشرفات في مصر، من الممكن ألا يعير البعض اهتمامًا باختيار محمد خان لذلك الكادر، وأنه كان من الممكن أن يقتصر علي هيام فحسب في الصورة، إلا ان مخرجي الواقعية يعشقون التفاصيل، ويقحمونها في كل كادر للتصوير، ليثبت أن الحياة لا تسير أبدًا وفقًا للأحلام، وأن للواقع دخل عنيف في مجريات الحياة، بالضبط كما حدث مع هيام في فيلم فتاة المصنع، فهي لم ترتدي فستان الزفاف مجددًا بعد ذلك المشهد.
إعلان فيلم فتاة المصنع (2014)
محمد خان هو باكستاني الجنسية، مصري الانتماء، رباه والده على الانتماء لمصر وحبها، كما لم يعلمه لغته الأم، وأصرّ على أن ينخرط ابنه في المجتمع المصري وألا يتم معاملته على أنه “خواجة” كما يحب المصريون التعبير عن الأجانب في بلادهم، حصل محمد خان على الجنسية المصرية في عام 2014 بقرار رئاسي، وهو نفس العام الذي حصد فيه خان على جوائز عربية ودولية عن فيلمه “فتاة المصنع”.
توفي محمد خان أمس فجر الثلاثاء في السادس والعشرين من يوليو 2016، جراء ازمة قلبية نُقل على إثرها للمشفى ليتوفى هناك، وتم تشييع جنازته ظهرًا من نفس اليوم وسط حشد كبير من الفنانين والفنانات، في وسط عارم من الحزن على فقدان السينما واحدًا من أعظم الفنانين في تاريخ السينما العربية والمصرية.