أثبت فشل المحاولة الانقلابية الأخيرة في تركيا حجم النجاح الذي حققه حزب العدالة والتنمية كتجربة حكم للحركات الإسلامية، فبالرغم من الصدام الأيدلوجي مع غيره من المكونات في المجتمع التركي، فقد استطاع هذا الحزب التأسيس لثقافة سياسية منفتحة استطاعت استيعاب أغلب تلك المكونات، مع أن المحاولة الانقلابية كانت فرصة لإعادة تحفز تلك المكونات من الناحية الأيدلوجية ضد الخلفية الإسلامية التي يمثلها حزب العدالة والتنمية، ويمكن من خلال مقارنة هذا الوضع مع عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي اكتشاف الفرق بين انقسام المجتمع والتفافه حول خلفية أيدلوجية معينة.
ومن بين الاتجاهات الجديدة التي عرفتها المنطقة العربية في مرحلة ما بعد الحراك الثوري هو انتشار حكم الحركات الإسلامية، وقد فسر ذلك بالنسبة للمنتمين للتيار الإسلامي وفقًا لبعدين: أما الأول فهو توجه الشعوب لإعطاء الفرصة التاريخية للأيدلوجية الإسلامية بعد فشل الأيدلوجيات اليسارية والليبرالية في تحقيق طموحاتها، والثاني هو ارتباط الروح الثورية بالأفكار الأساسية لهذا التيار، وبالرغم من الإجماع على هذا الإطار التفسيري فإن تجارب الحركات الإسلامية جاءت مختلفة تمامًا، إذ بعضها يوسم بالفشل في حين يمكن أن يوسم البعض الآخر بالنجاح.
فالنموذج المصري هو نموذج فاشل لأنه انتهى إلى الابتعاد عن السلطة بعد مدة وجيزة بغض النظر عن الظروف المصاحبة لذلك، وينطبق نفس التوصيف على النموذج الليبي الذي انتهى به المسار إلى الدخول كطرف صراعي في نزاع مسلح تتطور تفاصيله من مرحلة إلى أخرى، وبالمقابل لذلك يبدو النموذج التونسي نموذجًا ناجحًا على اعتبار النجاح في الاندماج في الحياة السياسية بغض النظر عن حجم الشعبية التي يتمتع بها، وينطبق توصيف النجاح بشكل أكبر عند وصف وضع الحركة الإسلامية في المغرب والتي تعتبر النموذج الأكثر نجاحًا حتى وإن لم تشمل المملكة المغربية موجة الحراك الثوري، ومع ذلك فإن حكم الإسلاميين في المغرب جاء في نفس السياق الزمني.
إذن السؤال المطروح لماذا فشلت بعض الحركات الإسلامية في تجربتها السلطوية ونجحت أخرى؟ يميل اتجاه تفسيري معين إلى اختلاف ظروف البيئة السياسية من بلد إلى آخر وخاصة ما تعلق بدور المؤسسة المركزية في كل دولة، فالمؤسسة العسكرية هي المؤسسة المركزية في مصر وقد كان موقفها تجاه حكم الحركات الإسلامية موقفًا عدائيًا بشكل صريح وشاركت بشكل مباشر في إنهاء هذا الحكم، وينطبق نفس السياق على موقف ما يسمى بالجيش الوطني الليبي الذي يخوض صراعًا عسكريًا مباشرًا تجاه الحركات الإسلامية والتي تمثلها ميليشيات مسلحة مختلفة.
وفي المقابل فإن مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الجيش باعتبارهما مؤسستين مركزيتين في تونس أبديا موقفًا محايدًا تجاه حكم الحركة الإسلامية، والتحدي الأكبر لهذا الحكم جاء من الطبقة السياسية في حد ذاتها وليس من المؤسسات المركزية ومع ذلك انتهى وضع الحركات الإسلامية إلى وضع مستقر، وينطبق نفس التصور على الوضع المغربي، إذ تبدي المؤسسة الملكية باعتبارها المؤسسة المركزية موقفًا مؤيدًا لوجود الحركة الإسلامية في السلطة.
ومن وجهة نظري فإن تحجج الإسلامين باختلاف ظروف البيئة السياسية هو تحجج قاصر ومتحيز بالرغم من تأثيراته المختلفة، وأن الأهم من ذلك هو التركيز على اختلاف أنماط تفكير الإسلاميين وليس اختلاف ظروف البيئة السياسية التي تواجدوا فيها، وما يفرق بين أنماط التفكير عند الإسلاميين في تجاربهم السلطوية هو مدى امتلاك فقه التدرج، وفقه التدرج يقوم على مفهوم التغلغل وليس على مفهوم التوغل، فهناك فرق بين فتح قنوات اتصال بشكل مرن مع المجتمعات، وبين فرض توجهات صادمة عليها، ويتوافق ذلك مع طبيعة البيئة الثورية في حد ذاتها، إذ تترافق هذه البيئة مع ارتفاع كبير في درجة تحفز المجتمعات والذي يمكن أن يستغل إيجابًا كما من الممكن أن ينعكس سلبًا.
وفقه التدرج في الحقيقة مستلهم من تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، إذ يقر الرئيس التركي رجب طيب أوردغان في مذكراته أن تجربة السجن كانت تجربة فارقة في تغير نمط تفكيره، إذ سمحت له بإعادة تقييم التجربة التاريخية للحركة الإسلامية في تركيا واكتشف أن كل ما تعرضت له هذه الحركة لا يرتبط فقط بتوجهات المؤسسات الحامية للعلمانية في بلاده ولكن في كيفية تعامل الحركة الإسلامية معها والذي غالبًا ما ساد عليه النمط الصدامي أين كان ينتهي في كل مرة بالتأثر السلبي لوضع الحركة الإسلامية في تركيا، ويزيد رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو في شهادة مهمة قدمها لبرنامج بلا حدود على قناة الجزيرة حيث كشف – وقد كان آنذاك وزيرًا للخارجية – عن النصيحة التي قدمها رجب طيب أوردغان وقد كان حينها رئيسًا للوزاراء، للرئيس المصري المعزول محمد مرسي والتي مفادها ضرورة تجنب الصدام مع المكونات الأخرى في المجتمع المصري في الدولة المصرية، وعدم الأخذ بهذه النصيحة يفسر من جانب معين أسباب الموقف العدائي لجزء من الرأي العام المصري تجاه حكم الإخوان المسلمين.
وتنفتح فكرة فقه التدرج على سؤال مركزي آخر: لماذا تمتلك بعض الحركات الإسلامية في المنطقة العربية هذا النمط من التفكير في حين لا تمتلكه حركات أخرى؟ وبشكل أكثر تحديدًا لماذا تمتلك الحركة الإسلامية في تونس والمغرب فقه التدرج في حين يغيب عن تفكير الحركة الإسلامية في مصر وليبيا؟ ذلك من وجهة نظري يفسر على مستويين: أما الأول فهو التجربة التاريخية للحركة الإسلامية في كل بلد، فالاضطهاد الذي تعرضت له الحركة الإسلامية في تونس والمغرب دفعهم إلى الالتجاء إلى البيئة الأوروبية حيث ثقفوا معنى فقه التدرج، في حين أن الاضطهاد الذي تعرضت له الحركة المصرية في مصر والسودان دفعهم إلى الالتجاء لمنطقة الخليج العربي والسوادن وكلاهما لا يشجعان على اكتساب هذا النمط من التفكير.
أما المستوى الثاني فهو درجة الاستلهام من التجربة التركية، إذ تفيد المعلومات المؤكدة أن كل من حركة النهضة في تونس وحركة العدالة والتنمية في المغرب يشرفان على برامج تكوين للكوادر التابعة لها في الجمهورية التركية، في حين لا يتوفر هذا الوضع بالنسبة للحركة الإسلامية المصرية والليبية.
ما أردت أن أقوله إنه بالرغم من اختلاف ظروف البيئة السياسية من بلد إلى آخر والتي كانت مشجعة لحكم الإسلاميين في دول ومعيقة له في دول أخرى، فإن تجربة الحركات الإسلامية في السلطة في السنوات الأخيرة تجد صداها الأكبر في نمط التفكير عند هذه الحركات وذلك على أساس مدى امتلاك فقه التدرج في بنيتها الفكرية وهو مستلهم ليس فقط من تصور فكري مجرد ولكن من تجربة تركية عملية أثبتت نفسها باعتبارها أنجح تجربة لحكم الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي كله.