من منا يمكنه أن يتخيل أن مجرد حادثة في الصغر أو تربية خاطئة في سن الثالثة أو الرابعة يمكنها أن تصيبك بالسرطان في سن الأربعين؟ ولكن قامت دراسة “التجارب السلبية للأطفال” في جامعة سان دييغو بتخيل ذلك، بل وقامت بإثباته أيضًا، وخرجت بنتيجة بحثية أفادت بوجود علاقة وطيدة بين الصدمات النفسية للأطفال وبين الإصابة بمرض السرطان في المستقبل.
قام العالم فيليتي مفجّر النتائج السابقة ضمن بحثه في الطب الوقائي والأمراض الوبائية بإجراء استفتاء على نسبة كبيرة من المرضى ممن عانوا من أنواع مختلفة من سوء التربية في مرحلة الطفولة، سواء كان إهمال في التربية، أو عنف منزلي، أو استغلال جنسي، حيث وجد فيليتي النتائج التالية، فكان كل من سجّل ذكريات مؤلمة لصدمات نفسية أثناء مرحلة الطفولة، يميل إلى إصابته بأمراض قلبية في المستقبل، كما وُجد أن أغلب مرضى السرطان يتذكرون تعرضهم لصدمات نفسية كثيرة أثناء طفولتهم.
ما يفعله العقل اللاواعي للأطفال في سن مبكرة هو تكوين صورة عن العالم الخارجي من والديه ومن منزله، ذلك ليفهم ما إذا كانت البيئة الخارجية هي بيئة آمنة له أم لا، ومن هنا يبدأ الأطفال في تكوين مفاهيمهم الخاصة بهم كأفراد في المجتمع، كما يبدأون بالإيمان بقيم ومعاني معينة يتبعونها في حياتهم بعد ذلك، ولكن عندما تكون تلك البيئة المنزلية غير مستقرة أو غير آمنة، يضطرب مفهوم الأطفال عن أنفسهم وعن العالم الخارجي، وحينها يفهمون أنه لا يمكنهم أن يثقوا بأي شخص، ولا يمكنهم الاعتماد على أي فرد لمساعدتهم، كما أنهم يخطئون في تكوين الصورة الخاصة بهم عن أنفسهم، ويشعرون بأنهم أشخاص سيئون وأن العالم الخارجي ليس إلا مكان بشع للحياة فيه.
ما هو الضغط النفسي؟
يتم تعريف الضغط النفسي ببساطة بأنه الحالة التي يكون فيها الفرد تحت ضغط عقلي أو جسدي أو عاطفي، وعلى الرغم أنه من الطبيعي أن يعيش الفرد حالات من الضغط النفسي من حين لآخر، إلا أن من يتعرض لفترات متتالية من الضغط النفسي بمختلف أنواعه السابقة، وبشكل مستمر وغير منقطع، يعاني في المستقبل من اضطرابات نفسية وأحيانًا من أمراض عقلية وجسدية، حيث يستجيب الجسم للضغط النفسي بإفراز هرمونات الضغط العصبي كالإدرينالين والنوراردينالين، وهي الهرمونات التي تتسبب في رفع ضغط الدم، ومستوى السكر في الدم، كما تزيد من ضربات القلب، وهي ما تجعل الفرد عدوانيًا وعنيفًا في تعامله في بعض الأمور التي لا تطلب في الحالات العادية ذلك التصرف العدواني.
على الرغم من إصابة أغلب الناس المعرّضة للضغط النفسي المستمر بأمراض جسدية، إلا أنه هناك علاقة غير مباشرة بزيادة احتمالية إصابتهم بالسرطان، وذلك لميلهم إلى التدخين، أو إلى الإفراط في الأكل أو التقليل الحاد منه، أو إلى إدمان الكحوليات، وهو ما يرفع معدلات إصابتهم بالسرطان.
الفرق بين خلية دماغية طبيعية وخلية دماغية تحت ضغط نفسي
يميل الأطفال ممن عاشوا طفولة قاسية، أو تم معاملتهم بإهمال أو باستغلال جسدي أو جنسي إلى تسجيل معدلات عالية من حالات الأمراض العقلية، وأنهم أكثر عرضة للإصابة بالضغط النفسي، فهم يشعرون بصعوبة في التحكم والتعبير عن مشاعرهم، كما يصابون بذعر غير مبرر في التعامل في بعض المواقف الحرجة، ويتم تسجيل تعاملهم العنيف أو الحاد مع غيرهم بدون مبرر أو سبب واضح.
تتطور الوظائف الحيوية في أجسامنا بتجاوبنا مع البيئة المحيطة، وهو ما لا يحدث بطريقة طبيعية في البيئة غير المؤهلة لتربية الأطفال، لذا فمن عاش في بيئة متوترة ومليئة بالضغط النفسي لا يتمتع بسلامة واكتمال وظائفه الحيوية كما في نظائره من الأطفال الذين تم تربيتهم في بيئة مسالمة ومستقرة، وهذا ما يجعل النوع الأول من الأطفال غير مستعد للتعرض للضغط مرة أخرى في مرحلة البلوغ، حيث يميلون إلى الاستجابة لمواقف الضغط العصبي بطريقة عنفوانية يمكنها أحيانًا أن تصيبهم بتوقف القلب أو بالموت المفاجئ.
اكتشفت الدراسة الخاصة بتحليل التجارب السلبية للأطفال أن غالبية المراهقين ممن يعانون من مرض السمنة قد تمّ الاعتداء عليهم جنسيًا في مرحلة الطفولة، كما اكتشفت الدراسة ما يسمى بـ “بيولوجيا إجهاد الأعصاب”، وهو ما يحدث للخلايا العصبية بسبب التعرض للضغط النفسي المستمر، والذي يسبب تدميرًا جزئيًا للخلايا أو توقفها كليًا عن العمل، والذي يؤثر بالتبعية على الوظائف الدماغية من التفكير والتنفس، كما يؤثر بشدة على الجهاز المناعي للطفل.
تُعد الدراسة السابقة من أصعب الدراسات البحثية في الطب الوقائي، أو الطب المجتمعي، فلا يمكن لأحد أن يتخيل أن صدمة نفسية أو تربية خاطئة يمكنها أن تتطور حتى تصل إلى مرحلة الإصابة بالسرطان، كما أنه لا يربط العديد من العلماء أسباب الأمراض العضوية بذكريات حدثت في الطفولة، كما أنه لن تجتمع المعلومات الكافية لربط النتائج الطبية ببعضها، وما يزيد الأمر صعوبة، هو عدم وجود المهارة الطبية في التعامل مع الصدمات النفسية للاطفال، واعتبار الأغلب أنها خبرة حياتية عادية يمر بها معظم الناس، وأن الطفل أو الفرد سيتناسى مع الوقت، ولن تكون للتجربة أثر عليه في المستقبل، ولكن على الرغم من أن ليس للتجارب الصادمة أثر مباشر على إصابة الأفراد بالأمراض الجسدية أو العقلية أو حتى السرطان في المستقبل، إلا أن لها أثر واضح لا يمكن تجاهله مطلقًا.