في 25 يوليو الجاري وبحضور ستة زعماء عرب من أصل 22 زعيمًا عربيًا حضروا الدورة الـ 27 للقمة العربية في نواكشوط، بعث فلادمير بوتين الرئيس الروسي رسالة إلى من تبقى في هذه القمة من زعماء، أعلن فيها استعداد بلاده للتعاون مع جامعة الدول العربية في تعزيز الأمن الإقليمي ومحاربة الإرهاب.
وفي 28 مارس 2015 وأثناء انعقاد الدورة السابقة للجامعة العربية في شرم الشيخ، كانت رسالته تبدو في ثناياها خطوط عريضة وجس نبض العرب لخطوات روسية قادمة ستعمل على تنفيذها وجدت أن الوقت مناسبًا لذلك.
وقال حينها بوتين في رسالته إلى الجامعة العربية «تجري هذه القمة (قمة شرم الشيخ 2015) على خلفية التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تربط بينها وبين روسيا أواصر تقليدية ودائمة من الصداقة والتعاون.. إننا نقف إلى جانب مواطني شعوب الدول العربية في طموحاتهم إلى مستقبل رفيه، وكذلك إلى تسوية جميع القضايا التي يواجهونها بالطرق السلمية ودون أي تدخل خارجي.. وللأسف الشديد، يتعرض الوضع الأمني في الوقت الحالي في العديد من الدول العربية للخطر، بسبب تنشيط أعمال تجمعات متطرفة وإرهابية تسيطر على مدن ومحافظات بأكملها، وتسبب معاناة كثيرة لمئات الآلاف من الأبرياء، كما تدمر التراث الثقافي للبشرية، والذي لا يقدر».
أما هذه المرة (قمة نواكشوط 2016) كان بوتين واضحًا في رسالته ويقدم عرضًا مغريًا للدول العربية، وكأن ذلك ردًا على العرض السعودي التي وصفتها صحيفة “ديلي تلغراف” بأنها صفقة سرية ضخمة تسيطر بموجبها روسيا على سوق النفط العالمية وتصون عقود الغاز الروسية مقابل تخلي الكرملين عن نظام الأسد في سوريا.
وكان العرض السعودي مزيجًا بالإغراءات والتهديدات الذي جاء عن طريق الأمير بندر بن سلطان -رئيس الاستخبارات السعودية- في محاولة لكسر الجمود بشأن سوريا. وتعهد بندر في الاجتماع الذي دار بينهما لمدة أربع ساعات بحماية القاعدة البحرية الروسية في سوريا إذا أطيح بنظام الأسد، لكنه ألمح أيضا إلى هجمات “إرهابية” شيشانية على أوليمبيات روسيا الشتوية في مدينة شوتسي الشركسية إذا لم يكن هناك اتفاق. وقال بندر “أستطيع أن أضمن لكم حماية الألعاب الأوليمبية الشتوية العام المقبل”. وزعم قائلا “المجموعات الشيشانية التي تهدد أمن الألعاب تحت سيطرتنا”.
لكن روسيا لم ترد على ذلك العرض في وقتها، وردت على ذلك كما يبدو من خلال رسالة الرئيس فلادمير بوتين إلى القمة العربية عندما دعا الدول العربية إلى محاربة الإرهاب بموازاة تضافر الجهود لتسوية الأزمات في سوريا والعراق وليبيا واليمن اعتمادا على مبادئ احترام السيادة وسلامة أراضي كافة الدول، وعن طريق الحوار الشامل وجهود البحث عن الوفاق الوطني، واستعداد بلاده لاتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لتعزيز تعاونها مع جامعة الدول العربية في ضمان الأمن الإقليمي، ولا سيما في محاربة الإرهاب.
التاريخ الطويل لروسيا من التدخل والحروب في المنطقة قد لا يكون معروفاً بشكل كبير للغرب، لكنه يمكن أن يشكل تفسيراً لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العام الماضي التدخل في الحرب الأهلية السورية، حيث جاءت حرب بوتين بالنيابة عن الرئيس السوري بشار الأسد بمثابة صدمة بالنسبة للكثيرين في الغرب وبعض حكام العرب، ومن بينها المملكة العربية السعودية التي كانت تراهن على أن لا يكمل بشار الأسد العام 2015 وهو على رأس السلطة، وحينها هاجم بعض النقاد والسياسيين بوتين متهمين إياه بالرغبة في أن يحل محل الولايات المتحدة التي تعد القوة الخارجية المسيطرة على المنطقة.
الغياب الروسي انتهى
وبالنظر إلى وجهة نظر موسكو، وتدخلها بالشأن السوري تبدو شيئاً مختلفاً بشكل كامل عما جرى في الحرب على العراق وليبيا، وهي بمثابة عودة متأخرة للتطلعات الجيوسياسية الروسية، وتدخلها في سوريا واستمرارها على إرغام العام بالتسليم بوجهة نظرها هي سيلة للتوضيح أن الغياب الروسي عن المشهد الدولي كأحد دول الطليعة قد انتهى في الوقت الحالي ولابد أن تتواجد هي بديلًا عن الولايات المتحدة الأمريكية التي بدا نجما يأفل عن المنطقة.
وبالفعل استطاع بوتين من خلال تدخله في الحرب السورية من إنقاذ نظام الأسد من السقوط بعدما بدا سقوطه مؤكداً منذ عام واحد فقط، كما أنه استطاع وضع نفسه في قلب المشهد الدبلوماسي للشرق الأوسط، ليتحدى بذلك النفوذ السابق منقطع النظير للولايات المتحدة في المنطقة.
حاولت المملكة العربية السعودية من تقليص هذا الدور تارة بدفع الولايات المتحدة الأمريكية للمواجهة المباشرة مع الروس وتارة بتهديد روسيا اقتصاديا بإغراق الأسواق العالمية بالنفط من أجل أن تتضرر اقتصاد روسيا لتقايضها بالتخلي عن الأسد وأخرى بتشيكل تحالفات عسكرية لإخافة الروس من حرب عالمية جديدة تقضي على ما تبقى من روسيا، وأخيرًا بعرض مغري بأن تفتح أسواق الشرق الأوسط للروس على مصرعيه أو أنها (أي موسكو) ستكون عرضة للإرهاب، لكنها لم تنجح بذلك حتى الان، لعلم روسيا أن سقوط بشار الأسد سيجعلها تخرج من المنطقة بسلة فارغة.
رسائل بوتين
لكن رسالة بوتين التي بدت مختلفة عن العام الماضي التي أرسلت للجامعة العربية، عندما استنكر الأعمال الإجرامية التي قال إن ليس لها لأي معبرر، واعتبر حينها أن من المستحيل المكافحة الفعالة للإرهاب دون تطبيع الوضع الإقليمي، على عكس كلمته هذا العام عندما عرض تعاونًا مع جامعة الدولة العربية بشكل عام دون أن يحدد دولة محددة، وأصر على أن تحل الأزمات في كل من سوريا والعراق وليبيا واليمن والنقاط الساخنة الأخرى على مبادئ احترام السيادة وسلامة أراضي كافة الدول.
وهي رسالة تبدو ردًا على العرض السعودي بالرفض، وكما يُفهم من تلك الرسالة أن روسيا ليست مستعدة على مقايضة بشار الأسد بالعرض السعودي، لأن وجودها كقوة فاعلة في المنطقة يمكنها من أن تمتلك بيديها أبرز خيوط اللعبة في منطقة الشرق الأوسط، ومن خلال ذلك يمكن أن تنال العرض السعودي دون أي مقابل يتخلى عنه الروس، وستتوجه إليها العديد من الأنظمة العربية للتحالف معها أو على الأقل لتوقيع معها على اتفاقيات “مصالح مشتركة”.
وهي رسالة تشير إلى أن موسكو باتت قاب قوسين أو أدنى من إزاحة الهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط، أقلها تقاسم النفوذ على المنطقة معها، ومن خلال تلك الرسالة الي حاول أن يجس نبض الرافضين والمرحبين، لكنها كما يبدو لم تنال القدر الكافي لدى زعماء الدول العربية ربما لغيابهم وعدم مواكبتهم تلك الرسالة، ولم يسلط عليها الإعلام العربي الضوء عليها رغم خطورتها.
الموقف الأمريكي الأخير في منطقة الشرق الأوسط، الذي زرع قنبلة الطائفية والإرهاب، وحديث المرشح الأمريكي المثير للجدل والأوفر حظًا للفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة أن من ضمن سياسته القادمة عدم إقحام بلاده في مشاكل المنطقة وأعطى الأولوية لمشاكله الداخلية كما قال، تدل على أن القوة العظمى والمؤثرة في المنطقة ستتوارى أكثر لتفسح المجال للدب الروسي لإعادة رسم هيمنته من جديد، وهذا ما تعلمه روسيا جيدًا وتبين البعد الاستراتيجي لرسالة بوتين لقمة نواكشوط العربية.
وبالنظر إلى الموقف العربي ستضل المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى برفض العرض الروسي سرًا، والتفكير به جهرًا مع استمرار إغراء روسيا لمحاولة تغيير موقفها علها تنج في أي من خططها لإزاحة بشار الأسد لتسجل على الأقل نصرًا سياسيًا أمام إيران في ظل اخفاقها في العراق وسوريا واليمن، ولن تسلم ذلك الأمر وإن كلفها المزيد.
وستعمل المملكة العربية السعودية على خلق علاقات جديدة مع أعداء إيران كإسرائيل ودول أخرى، وهو ما بات يلوح في الأفق من خلال الندوات أو المناظرات التي يحظرها قادة سابقين في المخابرات الإسرائيلية السعودية أو تبادل الزيارات من شأن خلط الأوراق ودفع إسرائيل إلى توجيه ضربات مركزة على سوريا وحزب الله وتهديد إيران، وممارسة ضغوط سياسية واقتصادية على النظام السوري إلى أن تجد ظالتها رغم تراجع فرص ذلك في الوقت الراهن، ذلك أولًا.
ثانيًا، وفي حالة إخفاقها في كل مخططاتها ستزيد في إنفاق الملايين من الدولارات لتعزيز الوهابية حول العالم، وهو المذهب السني المتطرف الذي يشكل الركيزة العقائدية لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بعد أن تنجح في إقناع تنظيمات جهادية أخرى الخروج من تحت عبائة تنظيمي القاعدة وداعش تحت اسماء جديدة، لمحاربة الشيعة أو “المجوس” في المنطقة وخاصة في سوريا والعراق ولبنان، وربما يذهب هذا إلى أبعد من ذلك، وتصل إلى الشيشان ومن هناك يبدأ فصل جديد من الانتقام مع الروس!