على الرغم من حداثة مسار التعددية الحزبية في الجزائر، فقد أظهرت الأحزاب الإسلامية حضورًا مميزًا داخل الطبقة السياسية الجزائرية، وقد تصادف انطلاق هذا المسار مع وجود نخبة إسلامية مكونة سياسيًا بشكل جيد، وحتى مع عدم توحد جهود ومسار العمل الإسلامي، فإن هذا في حد ذاته لم يشكل عائقًا أمام قدرة هذه الأحزاب على استيعاب فئات مهمة من المجتمع الجزائري.
ولكن مضمون هذا المقال ليس التقييم التاريخي للأداء السياسي للأحزاب الإسلامية، وإنما محاولة إدراك مدى استلهام هذه الأحزاب من تجربة حزب العدالة والتنمية باعتبارها أنجح تجربة حزبية إسلامية في العالم الإسلامي كله، ولذا فإن مجال العرض في هذا المقال هو بالنسبة للحركات التي التزمت بالممارسة الحزبية، وليس للحركات الإسلامية الجزائرية بصورة عامة، وبالضرورة تفكيك التساؤل الرئيس التالي: ما المعوقات التي تحول دون استلهام الأحزاب الإسلامية الجزائرية من تجربة حزب العدالة والتنمية التركي؟
وهذا التساؤل يستدعي التوقف عند ثلاث ملاحظات: الأولى أن هذا المقال ليس له علاقة بتقييم ما يسمى بالإسلام السياسي كفكر في الحالة الجزائرية، وإنما في تقييم تجربة سياسية محددة، والثانية أن الخيارات السياسية للأحزاب الإسلامية الجزائرية لم تكن متطابقة لذا لا يتم التوقف عند خصوصية كل هذه الخيارات بقدر ما يتم ضبط الأسباب العامة لعدم الاستلهام من التجربة الإسلامية التركية، حيث تشترك الأحزاب الإسلامية الجزائرية في الخصائص العامة لوضعها السياسي الراهن من خلال فقدان المكانة المتميزة في الطبقة السياسية وتحديدًا كجهة معارضة، وكذلك في تراجع تمثيل الحركات الإسلامية داخل المؤسسات المنتخبة، ومن جهة ثالثة في انتشار هيستريا الانشقاقات داخل هذه الأحزاب رغم أن ذلك مرادف في عرف الحركات الإسلامية لمفهوم الفتنة، والثالثة أن المقارنة تكون من دون الأخذ في عين الاعتبار وصول حزب العدالة والتنمية التركي إلى السلطة في حين أن ذلك لم يتح للأحزاب الإسلامية الجزائرية.
وبصورة عامة فإنه يمكن التوقف عند صنفين من العوامل المفسرة لعدم قدرة الأحزاب الإسلامية الجزائرية للاستلهام الإيجابي من تجربة حزب العدالة والتنمية.
أولاً: العوامل الحزبية
من الممكن ملاحظة أن كل التجارب الناجحة للأحزاب الإسلامية ترتبط في جانب أساسي منها بتأسيس أحزاب ذات قدرات تنظيمية متطورة بعيدًا عن منطق الزعامة التقليدي، وقد كانت هذه الجزئية هي أحد التحولات المهمة التي أحدثها حزب العدالة والتنمية التركي في الخبرة التاريخية للحركة الإسلامية التركية، وإذا تتبعنا نفس المنطق سنجد أن حزب العدالة والتنمية المغربي يمثل أنجح تجربة حكم للأحزاب الإسلامية في الوطن العربي، استوعب بشكل جيد تلك الجزئية، وبالرغم من النجاح النسبي لحركة النهضة التونسية في الاندماج في الحياة السياسية في مرحلة ما بعد الثورة إلا أنها أيضًا تقصدت اتباع ذات المنهج انطلاقًا من مؤتمرها الحزبي الأخير حيث كان الرهان الأساسي هو إحداث ذلك التحول في طبيعة الحركة فكرًا وتنظيمًا.
أما الأحزاب الإسلامية الجزائرية فلا تزال تعاني اضطراب تصوري لطبيعة الأطر السياسية التي تمثلها، إذ لا يزال بعضها متمسك بمنطقة الزعامة التقليدي والذي يصوره باعتباره الضمانة الوحيدة ضد حدوث انشقاقات حزبية، في حين أن البعض الآخر قد تحول إلى النقيض تمامًا، حيث أصبحت تسير هذه الحركات بمنطق الرئاسة، فكل رئيس للحركة لا يمكن أن يفكر في السياسات المعقدة وطويلة الأمد بل إنه مطالب بالنتائج الآنية التي يحاسبه عليها مناضلوه، مع أن المنطق المناسب لبناء تجربة حزبية إسلامية ناجحة كما يظهر من خلال تجربة حزب العدالة والتنمية التركية لا هو منطق الزعامة المتحور حول الفرد الزعيم ولا هو منطق الرئاسة الذي يفقد الأحزاب الإسلامية خصوصية مشروعها السياسي والأيدلوجي، وإنما منطق القيادة والذي يتيح من جهة التفكير بمنطق الجماعة وكذلك تبني مشروع سياسي متميز.
ثانيًا: العوامل غير الحزبية
أما العوامل غير الحزبية فهي تدور كلها حول التماهي غير المحسوب مع توجهات نظام الحكم الجزائري خاصة منذ وصول الرئيس بوتفليقة للسلطة وعدم القدرة على مقاومة تلك التوجهات التي لامست الأداء السياسي للطبقة السياسية بالمجمل والأحزاب الإسلامية بشكل خاص، ويمكن في هذا السياق عن نتائج سياسة المصالحة الوطنية، حيث إن الحلول السياسية للأزمة الأمنية التي مرت بها الجزائر كما في نموذج المصالحة الوطنية ارتبطت بفرض ضوابط على الأحزاب الإسلامية في شكل تنميط لأسلوب الممارسة السياسية تقوم على مبدأ الاستيعاب السلبي لها في شكل يتم استغلالها فيه كتمثيل رمزي للهوية الوطنية في بعدها الإسلامي دون السماح لها بأي إيضاح لمضمونها الإيديولوجي أو امتداد اجتماعي.
والدلالة العملية لذلك هو نمذجة الممارسة السياسية للأحزاب الإسلامية بشكل تقبل فيه أن تكون ممثلة رمزيًا للهوية الجزائرية في بعدها الإسلامي مع انتفاء أي طموح سياسي في ممارسة السلطة على اعتبار أن ذلك تاريخيًا – في تفسير أصحاب القرار – كان مرتبطًا باندلاع الأزمة الأمنية في البلاد، وبالتالي فإن القبول بحل سياسي لهذه الأزمة كما في نموذج المصالحة الوطنية مرتبط بالمقابل بتحجيم الممارسة السياسية للأحزاب الإسلامية إلى أقصى حدودها.
وبالمحصلة فإن جملة العوامل الحزبية وغير الحزبية كانت ذات تأثير هام في عدم قدرة هذه الأحزاب على الاستلهام من تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في الفترة الراهنة، ويبقى مهمًا من جهة أخرى التساؤل عن مدى قدرة هذه الأحزاب على تحقيق ذلك وهو يرتبط من وجهة نظري بكسر التماهي غير المحسوب مع توجهات نظام الحكم الجزائري، وذلك ليس في إطار ممارسة دور المعارضة كجزء من الطبقة السياسية ولكن في إطار إعادة التحفز لإثبات الخصوصية الأيدلوجية للأحزاب الإسلامية، ومن جهة ثانية في إعادة الهيكلة التنظيمية لتلك الأحزاب بالشكل الذي يعطي الأولوية لمفهوم القيادة كمفهوم مركزي والذي يجب أن ينعكس على السلوك السياسي لها فكرًا وتنظيمًا.