مع بدء انقشاع غمامة الفوضى العالمية التي لفت أحداث تركيا – وخصوصًا تزامنها مع الظهور التليفزيوني للرئيس الأسد على شبكة NBC الأمريكية – لا بد أن يتداعى إلى الذهن حديث الأسد الأخير عما يسجله التاريخ، وعن تمنياته أن يسجله بوصفه الرئيس الذي حمى شعبه وبلاده من الإرهاب.
إذ لم تمض ثمان وأربعون ساعة من بث ذاك التسجيل حتى تبدت للعيان تجربة عملية لبلاد تخوض تجربة حماية نفسها من إرهاب حقيقي ملموس راح يحتل المباني ويحتجز الرهائن ويردي عشرات من القتلى والجرحى في أنحاء البلاد، اتفقت تركيا بمجملها في هذا اليوم على الوقوف صفًا واحدًا لحماية “النظام الديمقراطي”، ورغم الاختلافات بين مؤيدي الحكومة ومعارضيها في الموقف من الحزب الحاكم، لم يكن العدالة والتنمية وحده على المحك، بل لم يكن حتى في موقع الأولوية.
يرتبط كل هذا بالضرورة بالحديث الصحفي للأسد الذي نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” قبل 43 يومًا بالضبط من انطلاق أولى الاحتجاجات الشعبية في سوريا، إذ صرح آنذاك أن “الوقت لم يحن بعد للإصلاح السياسي” وأن من المستبعد أن يتم الإصلاح السياسي في الفترة القادمة، ولا شك أن هذا الارتباط كان موجودًا لدى ملايين السوريين الموجودين في تركيا، وهم يشهدون نتائج الإصلاح السياسي والنظام الديمقراطي في بلاد ليست بلادهم، ويتابعون كيف يمكن للشعب أن يدافع عن خياراته في الشارع مباشرة.
ليس رجب الطيب أردوغان هو من أنقذ البلاد من كارثتها الانقلابية، ولا الحكومة الحالية هي من أقالت تركيا من عثرتها، كان الشعب هو الذي منح خيار النزول أو عدمه، الدفاع أو الاستكانة، من جلي القول أن هذا اليوم لم يكن وليد الصدفة أو التعويل على “عصاب جماعي” نتمنى حدوثه، بل كان أبسط عرض توضيحي لمفهوم الإصلاح السياسي المرتقب: قبل أن تطلب من الشعب النزول والدفاع، أعطهم شيئًا يدافعون عنه، لقد كان هذا اليوم هو حصيلة سنوات طويلة من حراك سياسي واجتماعي مضن، وجدل حول علاقة الجيش بالسلطة السياسية وعلاقة المجتمع بكليهما.
في سوريا المجاورة تمامًا، تتعدد الأطراف المتصارعة سياسيًا وعسكريًا طلبًا للسلطة، وقد فشلت جميعها في نفس هذه التجربة من حيث المبدأ، لقد قبل النظام السوري بانقلاب الحلفاء على مبدأ السيادة الوطنية، وقبلت الأطراف المعارضة السياسية جميعها بانقلاب تنظيم القاعدة وإخوته على الثورة السورية الديمقراطية وبانقلاب إرادة المجتمع الدولي على إرادة السوريين، لذلك كان من المستحيل على أي من هؤلاء الأطراف دعوة الشعب لمقارعة الدبابات، وكان من الأيسر دعوة الدبابات لمقارعة الشعب.
تستحق الدولة التركية العلمانية الديمقراطية أن تحتفل بهذا اليوم، إذ كشف تجاوز الوعي الجمعي التركي العصر الانقلابي إلى مرحلة أكثر اكتمالًا ونضجًا في السياسة والاجتماع، كذلك تستحق المعارضة التركية كل التقدير إزاء بُعد نظرها الاستراتيجي وتفضيلها أولوية مجابهة “عدو الوطن المشترك” على مجابهة “الخصم السياسي”.
في هذا الصدد سنسمع – ولا بد – هذه الحجة مرارًا على لسان أنصار القيادة السورية في محاولة لمساواة الجار بالجار، إلا أن سوريا ليست دولة ديمقراطية ولا تملك نظامًا سياسيًا يستحق الدفاع عنه، ولم تطبق سلطتها أي إصلاح ولن تطبقه (وهو الكلام الذي جرى على لسان رئيسها نفسه).
كذلك سنسمع الحجة ذاتها من أطراف تدعي المعارضة السياسية وتبرر لنفسها تحالفات مخزية بحجة التخلص من “الشيطان الأكبر” ممثلًا في الأسد ونظامه، إلا أنها في حقيقة الأمر لا تستبدل إلا عسكرًا بعسكر وبسطارًا ببسطار، بل لا تتخذ إلا خيار الانقلاب على كل إرادة شعبية، وليس أدل على ذلك من مسالة العقوبات الاقتصادية التي شلت جميع السوريين في الداخل والخارج – عدا النظام السوري نفسه – إذ تستمر جميع الأطراف السورية المعارضة في تمكين تلك العقوبات والتهليل لها واستجلاب المزيد منها، وتخوين كل إرادة شعبية سعت – ولو بالقول – إلى مجابهتها والمطالبة برفعها.
إذًا، لا أمل من هذا الدرس التركي لسلطة أو معارضة في سوريا، إنما يتبدى الأمل في ارتقاء وعي الشعب السوري الذي شهد الدرس (وملايين منه في تركيا شهدته بأم عينها) إلى إدراك دوره في هذا السياق، خصوصًا أن أغلب قوى المعارضة السياسية السورية تجلس بين ظهرانيه في أروقة إسطنبول وأنقرة وغازي عنتاب وهي تدبج القصائد والمآثر عن ثورة الشعب وتضحياته وإرادته، لكنها في الوقت ذاته لا تمل من تمني الانقلاب تلو الآخر واستجداء لأي “شيطان” للتحالف معه.