في موجة جديدة من موجات الشد والجذب بين المملكة العربية السعودية وحزب الله اللبناني، الذراع السياسي العربي للجمهورية الإيرانية، شنّ الأمين العام للحزب حسن نصر الله هجومًا لاذعًا ضد الرياض، اتهمها فيه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وعرقلة جهود السلام في المنطقة، كما حملها مسؤولية ما تواجهه المنطقة من أزمات وكوارث.
وعلى الفور، وبعد دقائق معدودة من هذه الاتهامات، وقبل أن ترد الرياض نفسها، هاجم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري حزب الله وقياداته، مدافعًا عن المملكة ضد هذه التهم التي وصفها بـ “المزيفة”، متهمًا حزب الله وأعضاءه بتوريط المنطقة في آتون الحرب والصراعات الدموية، فما دلالات دفاع الحريري عن السعودية، وهل تغازل بيروت الرياض بعد توتر العلاقات مؤخرًا بسبب مواقف الحزب الإيراني بلبنان؟
هجوم جديد على السعودية
لم يستطع الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصر أن يخفي مشاعره تجاه السعودية ما بين الحين والآخر، ففي كل مناسبة، محلية كانت أو دولية، يسلط سهام النقد والتجريح صوب بلاد الحرمين، حكومة وشعبًا، وهو ما تقابله الرياض بهجوم مضاد يعكس حجم الكراهية واتساع الهوة بين الجانبين، لاسيما بعد الحملة التي قادتها السعودية مؤخرًا لاعتبار حزب الله منظمة إرهابية، وهو ما أثر بشكل كبير على مسيرة الحزب، وصورته في الداخل والخارج، كما قلص من مصادر تمويله بشكل كبير، وهو ما لم ينسه نصر الله ورفاقه.
وفي كلمته خلال الاحتفال بتكريم القيادي البارز في الحزب إسماعيل زهري، واصل الأمين العام للحزب هوايته المفضلة في الهجوم على العرب عمومًا والسعودية بصورة خاصة، حيث قال : إن “الوضع العربي سيء جدًا، أسوأ من أي زمن مضى، لا أمة ولا دول ولا جامعة عربية حقيقية ولا مصير مشترك ولا أي شيء من هذا”.
وأضاف أنه “حتى القضية المركزية، قضية فلسطين التي يحتلها الصهاينة ويزج الآلاف في السجون، أصبحت قضية رفع عتب، وهذا ما عبرت عنه القمم العربية”.
الوضع العربي سيء جدًا، أسوأ من أي زمن مضى، لا أمة ولا دول ولا جامعة عربية حقيقية ولا مصير مشترك ولا أي شيء من هذا.
ثم انتقل نصر الله للهجوم على بلاد الحرمين، حين اعتبر أن أسوأ ما في الوضع العربي الذي وصفه بـ “السيء” هو هذا التطور في الموقف السعودي الذي بدأ ينتقل من العلاقة خلف الستار أو التواصل مع الإسرائيليين في السر إلى العلن، قائلاً: “إن السعودية تقوم بتطبيع مجاني مع إسرائيل، وإسرائيل اليوم لم تعد عدوًا للوضع العربي الرسمي وهذا ما عبرت عنه القمم العربية الأخيرة وخاصة أمام الزيارات العربية لإسرائيل، فالتطبيع السعودي معها يتم اليوم بالمجان دون أي ثمن”، على حد قوله، وذلك على خلفية زيارة الجنرال السعودي السابق أنور عشقي لتل أبيب، ومقابلته بعض المسئولين الإسرائيليين، وهو ما يعد نقلة نوعية في مسيرة التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
كما اتهم أمين عام حزب الله المؤسسة الدينية السعودية بالتضليل، والتستر على هذا التطبيع، وعدم قدرتها على التصدي لمثل هذه الخطوات، مشددًا على أن “النظام السعودي يتصل ويطبع وبعدها يعترف وينسق مع إسرائيل والفتاوى بعدها تجهز لذلك”، بحسب تعبيره، محذرًا من خطورة هذا التطبيع، قائلاً إن “أخطر ما في التطبيع السعودي مع إسرائيل هو التضليل الثقافي والفكري الذي سيرافق هذا المسار”، مناشدًا الجميع رفض هذا التطبيع وشجبه في كل مكان.
لم تكن قضية التطبيع هي السلاح الوحيد الذي رفعه نصر الله ضد السعودية، بل حمّلها مسئولية ما يدور في المنطقة من صراعات وأزمات، وذلك حين قال : “السعودية مصرّة على مواصلة الحروب في كل الساحات ورفض الحوار في اليمن والبحرين وسوريا”.
توتر العلاقات السعودية – اللبنانية
العلاقات السعودية – اللبنانية علاقات تاريخية متميزة، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، حيث كانت الرياض الداعم الأول للشقيقة بيروت في كافة المحطات السياسية والأمنية والاقتصادية التي واجهتها خلال الآونة الأخيرة، إلى الحد الذي دفع بعض المحللين إلى القول أن القرار الإيراني يصاغ داخل أروقة الديوان الملكي في الرياض.
وبالرغم من الأزمات التي واجهتها لبنان في الآونة الأخيرة من حروب أهلية، وهزات اقتصادية طاحنة، وتوتر في العلاقات مع بعض دول الجوار، إلا أن العلاقات مع السعودية كانت تسير في طريق التلاحم والقوة ومزيد من التعاون، حتى فوجئ اللبنانيون مساء الجمعة 19 فبراير من العام 2016 بقرار الرياض بفرض بعض العقوبات على لبنان، بسبب سياسات حزب الله العدائية ضد بلاد الحرمين، حيث اتخذ الديوان الملكي السعودي بعد مراجعة شاملة لعلاقاته مع الجمهورية اللبنانية بما يحمي مصالح المملكة عدة قرارات منها: إيقاف المساعدات المقررة من المملكة لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية الفرنسية وقدرها ثلاثة مليارات دولار أمريكي، كذلك إيقاف ما تبقى من مساعدات المملكة المقررة بمليار دولار أمريكي المخصصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني، إضافة إلى منع السعوديين والخليجيين من السفر للبنان.
وحسب الرواية الرسمية السعودية عن الأسباب الحقيقية وراء اتخاذ هذا القرار، فقد تمحورت في توتر العلاقة بين المملكة من جانب، وإيران وحزب الله اللبناني من جانب آخر، مما دفع إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران على خلفية الاعتداء على القنصلية السعودية بإيران، ومن ثم وقف المساعدات المقدمة للبنان.
وبالرغم من صعوبة هذه القرارات، وما تحمله من آثار اقتصادية وأمنية مدمرة على اللبنانيين، إلا أنه وفي المقابل وعلى عكس اللغة التصعيدية التي خاطبت بها السعودية والإمارات الحكومة اللبنانية، حرصت بيروت على الإبقاء على شعرة معاوية مع الجانب السعودي، واستقبلت القرار بلهجة هادئة، آملة في إعادة النظر في هذا القرار، إذ أصدر رئيس الوزراء اللبناني تمام سلام بيانًا قال فيه: “تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجئ القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي”.
“تلقينا بكثير من الأسف قرار المملكة العربية السعودية المفاجئ القاضي بإيقاف المساعدات المخصصة لتسليح وتجهيز الجيش وقوى الأمن الداخلي”
كما عبر عن احترامه للرؤية السعودية بقوله: “إننا ننظر إلى هذه الخطوة باعتبارها أولاً وأخيرًا شأنًا سياديًا تقرره المملكة العربية السعودية وفق ما تراه مناسبًا، على الرغم من أننا ما كنا نريد أن تصل الأمور إلى ما يخالف طبيعة العلاقات التاريخية بين لبنان وبلاد الحرمين، التي نحرص على إبقائها علاقات أخوة وصداقة ومصالح مشتركة ونسعى دائمًا لتنزيهها عن الشوائب”، مختتمًا بيانه بـ: “إننا، إذ نعبر عن أسمى آيات التقدير لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وإخوانه في القيادة السعودية وأبناء الشعب السعودي الكريم، نتمنى إعادة النظر بالقرار الخاص بوقف المساعدات عن جيشنا وقواتنا الأمنية”.
بيروت تغازل الرياض
بعد دقائق معدودة من انتهاء الحفل التكريمي الذي شنّ من خلاله نصر الله هجومه على السعودية، وقبل أن يرد الديوان الملكي السعودي بنفسه على هذه الاتهامات، أعلن رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري رفضه القاطع لأي هجوم على بلاد الحرمين، متهمًا كل من تسول له اتهام غيره بما ليس فيه بأنه مزيفون ويقلبون الحقائق، قائلاً: “هناك أشخاص يتقنون قلب الحقائق، ويرمون سواهم بما يغرقون فيه من ممارسات وحروب ونزاعات أهلية ومذهبية.
الحريري أكد في تغريدة له على حسابه الشخصي على تويتر أن السعودية تاج مرصع بالخير والمكرمات في التاريخ العربي، وعنوانا لن ينكسر للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين
٢- المملكة العربية السعودية تاج مرصّع بالخير والمكرمات في التاريخ العربي، وعنوان لن ينكسر للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين.
— Saad Hariri (@saadhariri) July 29, 2016
وأكد الحريري أن “مواصلة التحامل على المملكة من بعض المواقع، علامة سوداء في تاريخ وحاضر الباحثين عن أي وسيلة لتعميم ثقافة الفتنة والحروب في العالم العربي، فمن تتلطخ يداه بدماء العرب في سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت ولبنان، لا يحق له أن يعتلي منابر الإساءة إلى السعودية وقيادتها وشعبها، ومن يسمح لحزبه ومسلحيه أن يكونوا أداة إيرانية لصناعة الفتن في المجتمعات العربية، لن يحصل على براءة ذمة، مهما أبدع في التزوير السياسي”.
٣- مواصلة التحامل على المملكة من بعض المواقع، علامة سوداء في تاريخ وحاضر الباحثين عن اي وسيلة لتعميم ثقافة الفتنة والحروب في العالم العربي.
— Saad Hariri (@saadhariri) July 29, 2016
٤- من تتلطخ يداه بدماء العرب في سوريا والعراق واليمن والبحرين والكويت ولبنان لا يحق له ان يعتلي منابر الاساءة للسعودية وقيادتها وشعبها.
— Saad Hariri (@saadhariri) July 29, 2016
٥- ومن يسمح لحزبه ومسلحيه ان يكونوا اداة إيرانية لصناعة الفتن في المجتمعات العربية، لن يحصل على براءة ذمة مهما أبدع في التزوير السياسي.
— Saad Hariri (@saadhariri) July 29, 2016
موقف الحريري يعكس رؤية لبنان الساعي إلى استعادة العلاقات القوية مع بلاد الحرمين لاسيما بعد التوتر الذي اعتراها مؤخرًا، وهو ما أعتبره البعض “مغازلة” صريحة للديوان الملكي السعودي، وحسن نوايا لفتح صفحة جديدة من العلاقات الجيدة والمتينة بين البلدين.
موقف الحريري لا يمثله فقط، بل هو موقف غالب الشعب اللبناني، فضلاً عن موقف حكومة تمام سلام نفسها، الذي طالما عبرت عن رغبتها في تصفية الأجواء بين البلدين، وعودة التلاحم بين الشعبين كما كان في السابق، وهو ما استقبلته الرياض بالتأكيد على عمق العلاقات مع الشعب اللبناني، وأن مسألة عودة الأمور إلى ما كانت عليه مسألة وقت لا أكثر.
ويبقى السؤال: بعد الموقف الأخير لرئيس وزراء لبنان الأسبق، وما يعكسه من مكانة بلاد الحرمين في نفوس اللبنانيين، هل تراجع بلاد الحرمين نفسها فيما اتخذته من عقوبات ضد لبنان؟ وهل يقبل الملك سلمان ونظامه اليد اللبنانية الممدودة بالتصالح وفتح صفحة جديدة؟