في خطوة فاجأت الجميع وأثارت ردود فعل متباينة وغاضبة، قررت السلطة الفلسطينية دون أي سابق إنذار رفع دعوى قضائية ضد الحكومة البريطانية على جرمها التاريخي الكبير الذي ألحقته بحق الشعب الفلسطيني المتمثل بإصدار “وعد بلفور” المشئوم، الذي منح وطن قومي لليهود في فلسطين..” وعد من لا يملك لمن لا يستحق“.
خطوة السلطة المفاجئة والتي جاءت بعد مرور 99 عاماً على وعد بلفور الذي صدر فى نوفمبر/تشرين الثاني 1917، فتحت باب التساؤلات واسعاً عن الهدف الأساسي من وراء هذه الدعوة والمطالبة للعرب بالمساندة، رغم يقين الجميع وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس أنها ستفشل ولن تنجح، ولكن الأسئلة المطروحة لماذا الآن، وهل هي محاولة “ابتزاز” من قبل السلطة للحكومة البريطانية؟
وكان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد طالب خلال كلمته بالقمة العربية الـ 27 التي عقدت في نواكشوط، الاثنين الماضي الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بمساعدة السلطة لرفع قضية ضد الحكومة البريطانية لإصدارها وعد بلفور المشؤوم ما تسبب في نكبة الشعب الفلسطيني.
وفي أول رد “إسرائيلي” وجه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو انتقادا حاداً إلى مساعي السلطة لمقاضاة بريطانيا بسبب وعد بلفور متوقعا الفشل لها، وقال نتنياهو: لقد سمعت أن السلطة الفلسطينية تنوي مقاضاة بريطانيا حول إعلان بلفور، ومعنى ذلك أنها لا ترفض الدولة اليهودية فحسب بل هي ترفض البيت القومي اليهودي الذي سبق الدولة اليهودية.
وأضاف، “إنها ستفشل بذلك، ولكن هذا يسلط الضوء على جذور الصراع وهو عبارة عن الرفض الفلسطيني بالاعتراف بالدولة اليهودية مهما كانت حدودها”، وتابع نتنياهو، “هذا كان ولا يزال قلب الصراع ولغاية أن نعترف بذلك ونقول لشعوب العالم إن هذه هي جذور الصراع وهذا هو التحريض الذي يرافقها – لن يكون هناك حل ولكن هذه المحاولة أيضا ستتكلل بالفشل”.
خطوات عقاب بريطانيا
الخبير الفلسطيني في القانون الدولي حنا عيسى أوضح آلية الإجراءات القانونية التي من المفترض أن تقوم بها منظمة التحرير الفلسطينية، لمقاضاة الحكومة البريطانية على إصدارها وعد بلفور عام 1917، والذي أعطت من خلاله الحق لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
وقال عيسى: “من الناحية القانونية تقوم منظمة التحرير أولا بالتوجه لمجلس الأمن الدولي من خلال المندوب العربي المصري، وبالتأكيد ستقوم الحكومة البريطانية باستخدام حق الفيتو ولكن هذا لا يقطع الطريق أمام الفلسطينيين “.
أستاذ القانون الدولي، بين أن “الخطوة التالية بعد استخدام بريطانيا للفيتو هي التوجه للجمعية العمومية للأمم المتحدة، واستصدار قرارا يلزم جميع الأطراف وذلك استنادا للقرار رقم 377 لعام 1956 “الاتحاد لأجل السلام ” وأن تشكل المحكمة مكانية محددة الزمان والمكان لمعاقبة الحكومة البريطانية على وعد بالفور “الذي تسبب بمعاناة للشعب العربي الفلسطيني الذي حتى تاريخه لم يحصل على حق تقرير المصير”
خلال إجابته عن المعيقات التي يمكن أن تقف أمام مقاضاة بريطانيا، أشار عيسى إلى وجود عقبات على المستوى الدولي، تتمثل في نفوذ بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة بالإضافة “لإسرائيل”، مستدركا ” لكن بنهاية المطاف يجب أن تعلم بريطانيا أنها ستحاسب على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني وأن هذا يعتبر هولوكوست ضد الفلسطينيين ويجب أن تعاقب عليه و أن تعترف بريطانيا بمسؤوليتها القانونية تجاه شعبنا “.
وعن مؤشرات فشل أو نجاح المساعي الفلسطينية قال خبير القانون الدولي “لا يوجد نسبة للحكم بنجاح أو فشل المهمة، نحن قمنا بطلب إعداد ملف بهذه القضية وتجهيز التحضيرات المطلوبة، ومن تم القيام بالإجراءات وانتظار النتائج”.
أستاذ القانون الدولي، توقع انه في حال نجاح المساعي الفلسطينية بمقاضاة بريطانيا أن تقوم الحكومة البريطانية بالاعتراف بأنها ارتكبت خطأ تاريخيا بحق الشعب الفلسطيني، وأن تقوم بتقديم التعويض المالي للفلسطينيين عن المعاناة التي عاشوها على مدار السنوات الماضية، مرجحا أن تستغرق القضية نحو عشرة سنوات لإصدار الحكم النهائي.
محاولة ابتزاز لا أكثر
بدوره، رأى وليد المدلل أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية بغزة، أن مطالبة السلطة الفلسطينية لجامعة الدول العربية بمساندتها من أجل رفع دعوى قضائية ضد بريطانيا لإصدارها وعد بلفور “لا أهمية له”، معتبراً أنها محاولة لابتزاز بريطانيا لا أكثر.
المدلل أوضح حديثه بالقول: “هذا التوجه ليس له أهمية وهو محاولة لابتزاز لبريطانيا، فطيلة العقود الماضية لم تطالب السلطة الفلسطينية بريطانيا بتقديم اعتذار عن هذه المأساة، واليوم فقط تستخدم ذلك كسلاح من أجل تحريك المياه السياسية الراكدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”.
وبيّن أن هذه الدعوة “أمر عبثي، في ظل وجود التنسيق الأمني بين السلطة و”إسرائيل”، كما أن اتفاقية أوسلو التي تقدسها السلطة الفلسطينية هي أسوأ من وعد بلفور، لأن اتفاقية أوسلو منحت “إسرائيل” الشرعية للوجود على أرضنا الفلسطينية.
وعلاوة على ذلك لفت المدلل النظر إلى أن السلطة الفلسطينية تحاول صرف الانتباه عن حالة الفشل التي تعيشها في ظل الاخطاء السياسية وتقديم التنازلات لإسرائيل، مضيفاً “لو افترضنا جدلاً أن السلطة الفلسطينية جادة في توجهها نحو محاكم بريطانيا، فإن نجاحها مرتبط بمدى قدرتها على الضغط وهذا ما هو غير موجود لدى السلطة”، مشيراً إلى أن الحق التاريخي لا يكفي لاسترداد الحقوق بل يتطلب مواقف ومبادئ وصموداً.
حالة يأس
المحلل السياسي، بيّن أن بريطانيا من المستبعد أن تعتذر للشعب الفلسطيني على اصدار وعد بلفور بسبب علمها التام بأن اعترافها سيلزمها بجملة من المسئوليات الاخلاقية والمادية والأدبية، متابعاً “تجربة ألمانيا مع الحركة الصهيونية واعترافها بالمحرقة النازية اجبرها على تقديم ملايين الدولارات لصالح (إسرائيل) ولا تزال ألمانيا تقدم الأموال، كما أن السياسة الرسمية الألمانية لا تزال ضعيفة جداً أمام تجاوزات إسرائيل في حقوق الإنسان، لذلك لا تزال محكومة بعقدة الإثم التاريخي”.
المدلل يكمل قوله: “لذلك فإن بريطانيا تدرك هذه المسئولية، وعليه لا اعتقد أنها ستعتذر للشعب الفلسطيني”.
السير فينسنت فين، القنصل العام البريطاني السابق في القدس والسفير بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، يقول “أنا أعتبر أن ما قاله الرئيس عباس هو صرخة غضب ويأس أكثر من كونه بياناً للنوايا. أنا لا أرى كيف يمكنه أن يفعل ما تعهد به، ولكن المشكلة أن حل الدولتين الذي طالب به وسعى إليه لفترة طويلة أصبح بعيداً جداً”.
ومن غير المرجّح أن ينتهي الجدل حول ذكرى وعد بلفور، خاصة وأن الحكومة البريطانية، المنشغلة حالياً بتبعات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، لديها مشاكل أكثر إلحاحاً لتتعامل معها. وفي تغريدة لأنشيل فيفر، الصحفي بجريدة “هآرتس” الإسرائيلية، قال “إذا استمر بوريس جونسون في منصب وزير الخارجية حتى نوفمبر/تشرين الثاني القادم، سيكون على رأس المحتفلين بمئوية وعد بلفور”. وأضاف “لا أطيق الانتظار حتى ذلك الوقت”.
يذكر هنا أن وعد آرثر بلفور، وزير الخارجية آنذاك، كان سبباً في الانتداب البريطاني، والهجرة الجماعية لليهود وتأسيس دولة إسرائيل في نهاية المطاف في أعقاب الحرب العالمية الثانية ومحرقة الهولوكوست، والنكبة الفلسطينية.