في موجة جديدة من موجات التوتر التي تشهدها العلاقات المغربية – الموريتانية، اشتعل الشارع السياسي المغربي جراء تداول بعض الأنباء عن تعزيزات عسكرية موريتانية جديدة في بلدة الكويرة الحدودية، ورفع العلم الموريتاني عليها، مما تسبب في أزمة داخل الوسط السياسي المغربي والموريتاني عللا حد سواء.
مساعي التطبيع المبذولة من الطرفين لإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما، باتت مهددة وبصورة كبيرة بسبب هذه الخطوة التي اعتبرها البعض ترجمة فعلية لمؤامرة خارجية تحاك لإفشال جهود الجارتين في فتح صفحة جديدة في العلاقات بينهما، وبصرف النظر عن صحة هذه الأنباء من عدمها إلا أن العلاقات المغربية – الموريتانية باتت على صفيح ساخن، فمتى يسدل الستار على هذا البارود القابل لإشعال المثلث( الرباط- الجزائر- نواكشوط) في أي وقت؟
العلاقات الموريتانية – المغربية
تتميز العلاقات المغربية – الموريتانية بعمقها الزمني البعيد، حيث سبقت هذه العلاقات بمفهومها السياسي ميلاد الدولة الموريتانية الحديثة، فعلى رمال موريتانيا بدأت الإرهاصات الأولى لبناء دولة المرابطين شمال المغرب، كما كانت الرباط القبلة الأكثر حضورا للعائلات والقبائل الموريتانية قبل نشأة الدولة.
ومع استقلال الدولة الموريتانية دخلت العلاقات مع المغرب نفقا مظلما، حيث وقفت الرباط ضد هذا الاستقلال بزعم أن موريتانيا جزءا من الدولة المغربية، وهو ما دفعها لدعم وتسليح جيش التحرير المعارض الذي نفذ عدة عمليات عسكرية انقلابية في موريتانيا.
وفي بداية السبعينات من القرن الماضي اعترفت المغرب بدولة موريتانيا المستقلة، لتدخل معها العلاقات بين البلدين أفقا جديدا من التعاون، لاسيما بعد انحياز موريتانيا إلى الموقف المغربي ضد جبهة البوليساريو، والذي كان المسمار الأول في نعش نظام الرئيس المختار ولد داداه، حيث تمت الإطاحة به بعد ذلك في انقلاب عسكري مدبر برئاسة محمد خونه ولد هيداله والذي أصبح رئيسا لموريتانيا فيما بعد.
ومع تقلد العسكر مقاليد الأمور في البلاد دخلت العلاقات بين نواكشوط والرباط نفقا مظلما جديدا، لاسيما بعد الدعم الجزائري لنظام الحكم العسكري الجديد في نواكشوط، وهو ما دفع المغرب للعمل إسقاط هذا الحكم عبر عدد من الآليات كان أبرزها رعايتها للمحاولة الانقلابية الفاشلة سنة 1981، إلى أن تمت الإطاحة بولد هيداله بالتعاون مع الفرنسيين في ديسمبر 1984.
كما شهدت العلاقات بين النظام الموريتاني والمغرب مدًّا وجزرًا متبادلًا منذ منتصف التسعينات جراء التقارب الواضح بين نواكشوط والجزائر، وهو ما اعتبرته الرباط تهديدا لأمنها القومي حينها، لتعيد إستراتيجيتها من جديد في الإطاحة بالنظام الحاكم عبر رعايتها لعدد من الانقلابات العسكرية في 2005و2008.
ومع وصول الرئيس محمد ولد عبد العزيز للحكم، تعززت العلاقات مع المغرب بصورة كبيرة، وذلك لتقارب وجهات النظر في العديد من القضايا، فضلا عن مصلحة المغرب حينها في الإطاحة بنظام سيدي ولد الشيخ عبدالله الذي أغضب المغاربة والفرنسيين بتقاربه البين مع اليسار ( الحاضن التاريخي لجبهة البوليساريو)، كذلك تقاربه مع الإسلاميين.
وتمثل علاقة موريتانيا بالمغرب إشكالية خطيرة لدى القائمين على أمور الحكم في نواكشوط، إذ يحتاج النظام الموريتاني إلى تبني الحياد الإيجابي تجاه علاقته بين الجزائر والمغرب، فمن المؤكد أن الجارين الكبيرين يمارسان لعبة المصالح الكبيرة، وتبقى موريتانيا هي الخاسر الأبرز إذا قررت الانحياز إلى أحد الطرفين، كما انه من الصعب أن يفرِّط المغرب في موريتانيا التي تمثل خاصرته الجنوبية، وهو ما يمثل حرجا سياسيا لموريتانيا التي تجد – بلا شك – صعوبة في توازن علاقتها مع نظام عسكري يحكم الجزائر، ونظام مغربي يرفض هذا الحكم.
محمد السادس العاهل المغربي ونظيره الموريتاني محمد ولد عبدالعزيز
موريتانيا..خاصرة المغرب
لم تكن موريتانيا مجرد دولة مجاورة للمغرب فحسب، بل هي خاصرة المغرب الجنوبية التي لا يمكن الاستغناء عنها مطلقا، لاسيما وهي تملك عدة أوراق من الممكن أن تضغط بها على الجارة الكبرى، أهمها الموقف من الصحراء الغربية، وبالرغم من نجاح موريتانيا ظلت منذ العام 1975 إلى 2010 في الحفاظ على مستوى عالٍ من الحياد الإيجابي مابين الرباط والجزائر، إلا أنه من الممكن وفي أي وقت أن تلعب بهذه الورقة ضد المغرب إن أرادت.
ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن مؤشر الحياد بدأ يترنح تبعًا للتوتر الملاحظ في العلاقات بين الدولتين، مما يجعل من موقف موريتانيا من الصحراء الغربية نقطة قوة في مسار العلاقات بين نواكشوط والرباط، وهو ما يعيه المغرب، حيث بادر بدعوة موريتانيا إلى فتح قنصلية لها في مدينة الداخلة، وهو ما رفضته نواكشوط، واعتُبر نقطة بارزة في مسار التوتر بين البلدين.
لم تكن موريتانيا مجرد دولة مجاورة للمغرب فحسب، بل هي خاصرة المغرب الجنوبية التي لا يمكن الاستغناء عنها مطلقا
إن الموقف الموريتاني من الصحراء الغربية لا يمثل فقط تحديًا سياسيًّا بالنسبة للمغرب، لكنه يمثل أيضًا تحديًا أمنيًّا، حيث لا يمكن التفريق بين الموريتاني والصحراوي، خصوصًا إذا حمل هذا الأخير جواز السفر الموريتاني الذي يمكنه من التنقل في العالم، وفي مدن المغرب.
ولم تكن أهمية الموقف الموريتاني بالنسبة للمغرب قاصرا على البعد الأمني والسياسي فحسب، فعلى المستوى الاقتصادي تمثل إفريقيا الغربية سوقًا مهمًّا للمنتجات الزراعية المغربية؛ ولذلك تبقى موريتانيا هي الشريان الوحيد لتدفق هذه المنتجات المهمة لسوق الفلاحة المغربية. وإلى جانب ذلك، فإن السوق الموريتانية تعتبر هي الأخرى فرصة أساسية للاقتصاد المغربي، حيث تملك شركة الاتصالات المغربية 61% من أهم شركة اتصالات موريتانية، وهي شركة موريتل.
منطقة جمركية بين المغرب وموريتانيا
العلم الموريتاني وبداية الأزمة
في موجة جديدة من موجات المد والجزر بين البلدين، كشفت صحيفة ” بلادنا ” المغربية، عن مصادر إعلامية محلية أن قوات عسكرية تابعة للجيش الموريتاني، توغلت ليلة أول أمس الخميس داخل منطقة الكويرة، وقامت برفع العلم الموريتاني بالمدينة.
وتأتي الخطوة الموريتانية لتعيد الغموض و التوتر الذي طبع العلاقات المغربية الموريتانية، في ظل الرئاسة الحالية لمحمد عبد العزيز، التي عرفت مرحلته الرئاسية عدة نكسات دبلوماسية كرست لهذا النفور الدبلوماسي بين نواكشوط و الرباط، حسبما تناولت الصحيفة.
وأضاف التقرير أنه سبق للجنرال دوكور دارمي بوشعيب عروب، المفتش العام للقوات المسلحة الملكية المغربية، وقائد المنطقة الجنوبية، أن أجرى اجتماعا عاصفا مع مسئولين موريتانيين بالعاصمة نواكشوط، و أمر الجيش الموريتاني بإنزال العلم الموريتاني من منطقة الكويرة المغربية.
الاجتماع الذي شارك فيه وزير الخارجية المغربي صلاح الدين مزوار وحضره أيضا الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، احتجت فيه موريتانيا على حضور بوشعيب عروب، حيث رأت فيه رسالة مبطنة لا تخلو من تهديد، مما أعاد الأزمة بين البلدين للمربع الأول.
و يأتي رفض الرئيس الموريتاني استقبال كل من ياسين المنصوري و ناصر بوريطة، احتجاجا على عدم استقبال وزير الخارجية الموريتانية من طرف الملك محمد السادس، قبيل القمة العربية في سياق الأزمة الصامتة بين البلدين.
وتعد بلدة “الكويرة” جزءا من الصحراء الغربية التي يتنازع المغرب وجبهة بوليساريو السيادة عليها منذ عقود، احتفظت موريتانيا بإدارتها بعد انسحابها من الصحراء الغربية عام 1979 بالنظر لموقعها القريب والحساس من مدينة نواذيبو العاصمة الاقتصادية الموريتانية.
وقد قبل المغرب الذي احتل الجزء الذي تقاسمه مع موريتانيا بعد اتفاقية مدريد 1975، ببقاء بلدة الكويرة المطلة على شاطئ أطلسي بطول 40 ميلا، تحت السيادة الموريتانية المؤقتة مقابل ما أكد البعض أنه “عدم قبول موريتانيا لفتح سفارة للبوليساريو في نواكشوط”.
وبالرغم من توتر العلاقات بين البلدين، إلا أن الرئيس الموريتاني قد وجه برقية تهنئة إلى العاهل المغربي بمناسبة عيد العرش، بما يشير إلى حرص الرئيس الموريتاني على “تعزيز علاقات الأخوة والتعاون التي تجمع بين موريتانيا والمغرب تحقيقا لما فيه خير شعبينا الشقيقين وإسهاما في بناء اتحاد مغربنا العربي الكبير”.
بلدة “الكويرة” الحدودية المتنازع عليها بين المغرب وموريتانيا
تدخلات أجنبية وتضخيم إعلامي
أثار ما تناولته الصحيفة المغربية بشأن رفع العلم الموريتاني على بعض الوحدات العسكرية في بلدة الكويرة ردود فعل صاخبة، تمحور معظمها في مزيد من التوتر في العلاقات بين البلدين، بالرغم من مساعي التطبيع المبذولة من الطرفين لإذابة جليد العلاقات المتجمدة منذ فترة.
الخبير في الشؤون العربية والإفريقية خالد الشكراوي، أشار إلى أن العلاقات بين الدولتين حساسة للغاية بحكم تدخل أجندات أجنبية، خاصة الانفصاليين الذين ما فتئوا يتدخلون كل مرة في الشأن المغربي الموريتاني عبر ترويج عدد من الإشاعات، مضيفا أن إشاعة رفع العلم الموريتاني بالكويرة تحدث عنها بداية الأمر الانفصاليون، لكن هذا لا يعني أن العلاقات المغربية الموريتانية ممتازة مائة في المائة؟
العلاقات بين الدولتين حساسة للغاية بحكم تدخل أجندات أجنبية، خاصة الانفصاليين الذين ما فتئوا يتدخلون كل مرة في الشأن المغربي الموريتاني عبر ترويج عدد من الإشاعات
الشكراوي أشار في تصريحات صحفية له إلى أنه بالرغم من توتر العلاقات بين المغرب وموريتانيا، إلا أن هناك “إطارات للتفاهم والنقاش تمنع حدوث تصدع في العلاقات الثنائية بينهما بالرغم من الاختلاف في وجهات النظر الذي يعد أمرا طبيعيا”، موضحا أن الدولتين محكوم عليهما بالتعاون على جميع الأصعدة لأن علاقاتهما تتجاوز منطق الربح والخسارة، كما أن ما يجمعهما أكثر بكثير مما قد يفرق فيما بينهما، مطالبا الدولتين بضرورة تدعيم علاقاتهما الدبلوماسية عبر تجديد الآليات المتقادمة، وتغيير الوجوه التي تمثلها، لأن ذلك من شأنه المساهمة بشكل كبير في حل غالبية المشاكل الموجودة بين الدولتين، مضيفا أن الحكومة المغربية يجب عليها أيضا أن تعادل بين محور الرباط دكار ومحور الرباط نواكشوط.
أما مدير المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية وأستاذ العلوم السياسية بجامعة نواكشوط ديدي ولد السالك، فأشار إلى عمق العلاقات المغربية الموريتانية، وتعدد أبعادها، إلا لكنها على المستوى السياسي تعاني من الفتور، وتشوبها مشاكل منذ سنة 2011 بالرغم من ذلك، ما يمنح الإعلام فرصة لتضخيم الأمور.
المغاربي أعتبر أن هناك عوامل غير مرئية تجعل العلاقات الثنائية بين الدولتين متوترة، كما أن الفتور في العلاقات المغربية الجزائرية ينعكس بشكل تلقائي على العلاقات المغربية الموريتانية، بالرغم من الإشارات الجيدة التي يعطيها المغرب، مبررا الزيارات المتبادلة بين الجانبين بالرغم من هذا التوتر – في إشارة منه لزيارة مسئولين أمنيين مغاربة لنواكشوط نهاية 2015 – إلى أن بلدان شمال إفريقيا مضطرة للتنسيق الأمني فيما بينها بسبب الجريمة المنظمة والمخاطر الإرهابية المحدقة بالمنطقة، مستبعدا أن تكون العلاقات المغربية الموريتانية قد عادت إلى مجراها الطبيعي وفي نفس الوقت لن تعرف مزيدا من التدهور، بالرغم من التذبذب الذي يطبعها، نظرا لكونها علاقات إستراتيجية أخوية.
وبالرغم من حقيقة رفع العلم الموريتاني فوق وحدات عسكرية ببلدة الكويرة الحدودية، يبقى السؤال: إلى متى تظل العلاقات المغربية – الموريتانية – الجزائرية على حافة الاشتعال مابين الحين والأخر؟ ولماذا لم تتحرك حكومات هذه الدول لوضع حل نهائي لأزمة البوليساريو؟ وأين المجتمع الدولي من هذه القضية؟ ثم أين الدول العربية من هذه الأزمة التي قد تعصف بشمال إفريقيا العربي بأكمله؟