في الجزء الاول من فلسفة الثورة (فلسفة الثورة: بين التخطيط العملي والعاطفة الجياشة) نظرنا الى أهمية التخطيط العملي من أجل التغيير السياسي المطلوب في المجتمع، وفي الجزء الثاني (فلسفة الثورة: بين بناء الذات وبناء الحضارات) ركزنا على أهمية تكوين شعوب قادرة على تطوير أفرادها لكي تكون قادرة على قيادة نفسها بنفسها خارج نطاق الدولة وبعدها تكون مجتمعات مصغرة تشترك في قيم محددة. ولكن ما هذه القيم ولماذا تثور الشعوب أصلاً؟ في هذا المقال ننظر إلى أسباب الثورات بشكل مختلف ونبحث عن القيم الأصيلة التي تكون مجتمعات خالدة.
روسو: الرومانسي الثائر:
“ولد الناس أحراراً، ولكنهم في كل مكان يعيشون مكبلين بالأغلال” هكذا وصف جان جاك روسو حال عالمه قبل الثورة الفرنسية بعقود ليكون أهم أعلام الثورة الرومانسية/الإبتداعية في قلب أوروبا حيث آمن بأن مشاعر الناس ورغباتهم وطرق تفكيرهم تختلف من شخص لآخر ولكن هناك دائماً مشاعر مشتركة تجمع هؤلاء، وعلى الشعوب الباحثة عن حريتها البحث عن هذه المشاعر لتوحيد كلمتهم وليكسروا أغلال الظلم والإستبداد.
ولد جان جاك روسو في ١٧١٢ في مدينة جنيف في سويسرا، لم يعرف أمه التي ماتت متأثرة بولادته بعد عشرة أيامٍ فقط من قدومه إلى هذا العالم. كان دائماً ينظر إلى هذا الأمر بشكل سوداوي حيث كان يقل: “ولادتي كانت أول العلامات على سؤء حظي، لقد ولدت وأنا بالكاد أموت، لم يكن هناك أملٌ في إنقاظي” كان ينظر إلى نفسه على أنه كان جينة مريضة تناقلت عبر الزمن لتحط في صيف ذاك العام وتأخذ روح أمه الحبيبة معها.
من البداية كانت علاقته بمن حوله علاقة درامية متشنجة، يسودها جو من المشاعر الجياشة، أبوه كان صانع ساعات بسيط وكان دائماً ينظر في عيني روسو باحثاً عن حبيبة قلبه التي عرفها منذ الطفولته والتي تركته مع هذا الصبي غريب الأطوار العاشق للقراءة.
ترعرع روسو في جنيف، تلك المدينة الخلابة التي رفضت أن تكون قبلتها في روما وقررت أن تكون بروستنتانية خالصة في بحر من الدول والإقطاعيات الكثلوكية. كانت جنيفا محاطة بالجبال والجليد الأمر الذي حماها من عقلية الكاثلوكيين الرجعية وغزواتهم، هناك حول بحيرة جنيفا الخلابة تربى روسو على حب الحياة والطبيعة وصاغ أفكاره الثورية ما بين الأشجار والوديان.
كانت جنيف في ذاك العصر المظلم في أوروبا شمعة يفتخر بها وبقيمها الديمقراطية كل من عاش فيها، كان والد روسو يربي إبنه على قيم الحرية ويقراء له من مكتبة زوجته الراحلة كُتباً عن الحرية والمساواة والقيم الحقيقية التي تصنع حضاراتٍ عريقة. كان روسو يقضي وقته مع أبيه في تلك المكتبة يتداولان الكتاب تلو الآخر حيث يقراء كلٌ منهما لصاحبه حتى مطلع الفجر.
كبر الطفل واصبح يافعاً عاشقاً للحرية وقيمها التي غُرست في قلبه، في السادسة عشرة من عمره ترك روسو جنيف بحثاً عن ذاته حتى إنتهى به المطاف في باريس. تلك المدينة الغارقة في الظلام، الطامسة لكل صوت يحاول أن يرتفع فوق صوت الملك والكنيسة التي تصور ملكه كأنه مقدس جاء من وحي السماء. في عام ١٧٤٢ إلتقى روسو بالفيلسوف والكاتب الفرنسي دنيس ديدرو وأصبحا صديقين عزيزين، كانا يجلسان طويلاً في المقاهي على الضفة اليسرى في الضاحية القديمة (مرتع المثقفين) للعب الشطرنج ولتبادل الأفكار الثورية والتي تعرف بالرومانسيات.
رغم أن الرجلين كانا مختلفين في معتقداتهما ولكنهما كانا متحدين في نبذ النظام الحالي، ديدرو كان مقتنعاً أن المستقبل سيكون مبنياً على العقلانيات والعلم المجرب، في نظره لا مكان لأي شيء لا يمكن فهمه والتثبت منه علمياً، العقل هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الشعوب التي أنهكتها الكنيسة وغطرسة الحكومات الوراثية، قال لروسو في أحد جلساتهما: “ولد الناس ليفكروا ويختاروا ويقرروا بكل حرية وإستقلال.” ولا يجوز لأحد أن يسلبهم هذه الحرية في التفكير والإختيار.
أما روسو فكان يؤمن بأهمية المشاعر في المجتمعات، العقل وحده لا يكفي، لابد أن لا يفقد الإنسان إنسانيته وأحاسيسة الفطرية، وكان يجيب ديدورو بالقول: “أن تشعر يعني أنك موجود، مشاعرنا تأتي وبكل عفوية قبل أفكارنا.”
كلٌ من الرجلين أراد البحث عن حلول تنهض بالمجتمع ليتحرر من رجال الدين وغطرسة الطبقية وظلم الحاكم، كانا يتحدثان دائماً عن الحرية والمساواة، في نظر كلٍ من هنا لم يعد هذا النظام القائماً مجدياً للتعبير عن تطلعات أوروبا، هذا النظام القائم غير إنساني. كانت هذه لعبة خطيرة وأفكاراً لا يمكن التفوه بها أمام الجماهير.
وفي ١٧٤٩تم القبض على ديدرو لأنه كان يفكر بشكلٍ مختلف، متخيلاً نظاماً عالمياً جديداً. كان ذلك مباشرة بعد نشره لموسعته “موسوعة الفنون والعلوم والحرف” والتي إحتوت على ٧٠ ألف مقال، و ٧ آلاف شكل توضيحي في كل العلوم المعروفة من الأحياء إلى الفيزياء والهندسة وفن العمارة. ولكن هذا المجلد العظيم لم يحتوي على أي شيء بخصوص الكنيسة وعقيدة المسيح المخلص والمصلوب لمغفرة ذنوب العالم. في نظر ديدرو لن يكون الإنسان حراً حتى يتخلص من آخر ملك يحتكر الحكم وآخر قسيس يصف ملك هذا الظالم بأنه مقدس. كان يؤمن بأن الشعوب بعلمها وفهمها السليم وقدرتها التكنلوجية ستتمكن من التخلص من تعاليم الكنيسة وضلالاتها الرجعية.
روسو كان يزور صديقه المحبوس في سجنه ثلاث مرات كل إسبوع، كان يمشي لأميال ليفكر ويتأمل وينظر في الطبيعة حوله لعله يجد حلاً لمشكلة العبودية الجماعية للحاكم المستبد، وخلال هذه الرحلات جائته نظريته التي تقول أن كلاً منا يولد مسجوناً حتى يتحرر من سجنه. روسو بدأ في كتابة أفكاره هذه بشكل رسالات فلسفية، لتخرج علينا رسالته الأولى بعنوان “بحث في منشأ وأسس عدم المساواة” (١٧٥٥) ليشرح مشكلة عدم المساواة في المجتمعات وليستلخل الحلول اللازمة.
في نظره كانت الشعوب القديمة حرة سعيدة ولكن الحضارات والقوانين والتقاليد قيدت هذه الحرية، المأسسات هي التي حرمت الإنسان من حريته. الإنسان الأول كان حراً حتى فقد هذه الحرية بعد أن إستقر في منطقة معينة وساج سياجاً حول قطعة أرض وبنى عليها بيتاً وقال “هذه أرضي”، ليقوم الآخرون بنفس الشيء ويتحول المجتمع من مجتمع مسافر متنقل إلى مجتمع مستقر ولكن طبقي حيث يقاس الناس فيه بقدر ما يملكون بدلاً من قدراتهم العقلية أو البدنية أو خبراتهم الحياتية.
(الكهف: تحليل أفلاطون لطعم الحرية المفقودة)
يصنف روسو اللامساواة إلى نوعين، طبيعية وإجتماعية. اللامساواة الطبيعية هي الفروقات الجسدية والعقلية بين أفراد المجتمع وقسمها إلى قسمان، فروقات يمكن تغييرها وفروقات لا يمكن تغييرها. مثال الأولى هو ممارسة الرياضة والأكل الصحي للفرد الضعيف ليكون قوي البنية، أو التعلم وبناء المهارات العقلية للفرد الجاهل. ومثال الثانية هو الجنس والعرق والنسب. أما اللامساواة الإجتماعية فهي دائماً تقبل التغيير ويمكن تعديلها بمعالجة أفكار المجتمع وتغييره تدريجياً.
في كتابه “العقد الإجتماعي” (١٧٦٢) يحلل روسو أهم المشاكل الإجتماعية التي تقف حاجزاً بين الشعوب وحريتها، هنا يلخص روسو أفكاره ليقول لنا أن الإنسان كان سعيداً عندما كان وحيداً في الأدغال حيث الخطر قليل والموارد كثيرة ويسميها “الحرية الطبيعية”، ولكنه يحتاج للتضامن مع غيره لتكوين اللمجتمعات ليجعل حياته أسهل في وقت تقل فيه الموارد وترتفع فيه معدلات الخطر. وعليه فإن المجتمع الصالح هو ذاك الذي يستبدل فيه أفراده “الحرية الطبيعية” بحرية أخرى تقابلها وتساويها وهي “الحرية السياسية”.
بمعنى آخر، يقوم المجتمع بجمع الناس في مكانٍ ما (وطن أو إقليم) ويسلب حريتهم المطلقة ليعطيهم حرية مقننة محددة بالحقوق والواجبات وبالعدالة والمساواة في ما بينهم، على شرط أن يكون لكل فردٍ منهم حرية شخصية تفوق الحرية الجماعية وهي الحرية السياسية والتي تضمن إختيار من سيحكم ويقضي بينهم.
تمكن روسو في كتابه هذا من ترسيخ فكرة المجتمع المتحد والذي يضحي فيه كل شخص بجزء من حريته الخاصة من أجل مجتمع متحرر، أي أن الشعب يختار بشكل حر ونزيه من يمثله وفي نفس الوقت فإن هذا الشعب المكون من أفراد يحافظ على حرية أفراده في الإختيار وترشيح من يظن أنه يستحق هذا المنصب القيادي. الحرية المطلقة هنا تصبح مقيدة ولكن هذه القيود ضرورية لضمان حرية المجتمع ككل، الفرد هنا حر ولكن بشرط أن لا يتعدى القانون فالشعب الحر ليس له أسياد سوى القانون.
أما الحرية الشخصية، فلا يمكن للفرد أن يكون صالحاً بدون قيمٍ شخصية ترعى وجوده الروحي. ولذى يرى روسو أهمية وجود دين مدني في المجتمع، وسماه ديناً مدنياً لأنه يرى أن الكنيسة وتعاليمها الرجعية لا تصلح لمجتمعه المتقدم، أراد روسو ديناً يغرس قيم الحرية والمساواة والإخاء وحب الوطن والشجاعة والإستقامة وإحترام القانون في ضمير الأفراد ليُكوِنوا مجتماً متحداً يحترم بعضه بعضاً رغم إختلاف آرائهم.
لروسو كتب مهمة أخرى تستحق الدراسة أمثال “أميل”، “الإعترافات”، و “هيلويز الجديد”. كانت أفكاره سباقة لعصره إذ أنها أثرت في كل الثورات العظمى التي أتت من بعده بدءاً بالثورة الفرنسية التي إندلعت أحداثها بعد ١١ عاماً فقط من وفاته ليتبنى الثوريون أفكاره وقيمه في الحرية والمساواة والإخاء. إلى مثاليات القرن ١٩، والإشتراكية التي سادت العالم في القرن ٢٠ ومجازرها، وصولاً إلى الأفكار الفاشية والثورات الإجتماعية في ستينيات القرن الماضي. كل هذه التحولات السياسية والإجتماعية تحتوي على بعضٍ من أفكار روسو في بحثه عن المجتمع المثالي.
السبيل إلى حرية الشعوب:
في عالمنا العربي الثائر، قد نحتاج لقلب الصفحات من حين لآخر لتعلم قيم الآخرين لننظر أين نحن منهم، نعاني من مشكلة حقيقية في فهم معنى الحرية، ماذا تعني أن تكون حراً؟ هل تعني أن تكون كالقرد الشارد في أذغال الكونغو تفعل ما تشاء وكيف ما تشاء؟ أم تعني أن تكون حراً في حياة كريمة مقننة ذات حقوق وواجبات؟
لماذا لا نتعلم معنى الحرية قبل أن نطلبها ونصيح بها؟ الحرية تعني حرية الحياة بحيث لا يمكن لأحد أن يقتلك بدون وجه حق، حرية الملكية والإستقلال الذاتي، حرية القيم والأخلاق والأفكار بحيث لا يمكن لأحد أن يسخر او يعاقب أحداً بسبب أفكاره بدون وجه حق. حرية الإختيار وإنتخاب من يمثله ويتحدث بصوته. عندما يفقد الإنسان كل أو بعض هذه الحقوق والحريات يفقد بعضاً من إنسانيته.
كل هذه الأنواع من الحريات تتحول إلى جزء من الحرية العامة للمجتمع بأسره والتي تصونه الدولة بحيث تقوم ب:
– الحفاظ على أمن وإستقرار المواطنين
– الحفاظ على الإستقلال الذاتي لكل فرد بحيث لا يمكن لأحد أن يسلبه هذه الحرية
– الحفاظ على العدالة والمساواة وحفظ القانون وتطبيقه على الكل
– غرس القيم والأخلاق الحميدة من رحمة وحفظٍ للأمانة وتعليم أهمية المسؤولية وإحترام القانون.
– الديمقراطية وتداول السلطة عبر إختيار من يمثلون الشعب ويتمتعون بثقتهم.
تثور الشعوب وبكل بساطة بحثاً عن إنسانيتها، فلا شيء أهم من إنسانية الإنسان، ولا شيء أقبح من أن يفقد هذه الإنسانية بسلب حريته وإختياره منه، وعدم مساواته مع الآخرين في الحقوق والواجبات وطمس صوته بحيث لا يمكن له أن يعبر عن أفكاره سياسياً أو أدبياً. شعوب العالم الثالث تعيش مكبلة بالأغلال لأنها لم تجد بعد تلك القيم السامية التي توحدها، على الفرد أن يستقل بذاته بأن يعرف ماهيته كإنسان وقيمته في الحياة ليُكوِن خلية تشاركه هذه الأفكار والقيم السامية، حينها يمكنه كسر أغلال الظلم والإستبداد وعندها يكون جاهزاً ليضحي بحريته الشخصية ذات المرجعيات المختلفة من أجل حرية المجتمع بأسره.