ظهرت المرشحة الديمقراطية لانتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة هيلاري كلينتون، في خطابها لقبول ترشيح الحزب لها الجمعة الماضية، وكأنها أرادت مخاطبة العالم الخارجي، قبل المواطن الأمريكي والأقليات قبل الأكثرية داخل بلادها، ومحبو السلام قبل القوة الأمريكية.
سر اللون الأبيض
كلينتون التي اختارت أن ترتدي سترة بيضاء وابتسامة عريضة، أرادت أن تحيي آمال الملايين داخل الولايات المتحدة، وأضعافها حول العالم، بأن أمريكا الجديدة في عهدها ستكون مختلفة تمامًا عن تلك التي أرقت العالم خلال العقدين الماضيين، ووجهت رسالة لناخبيها بتفاؤلها بنتائج الانتخابات المقبلة، السترة البيضاء ظهرت ملائمة تمامًا لامرأة تملك رؤيتها، وحماسها لدخول البيت الأبيض، وعلى مدار حملتها الانتخابية، اختارت كلينتون اللون الأبيض أكثر من مرة، في مواقف هامة ومؤثرة، على سبيل المثال ارتدت اللون الأبيض في مناظرة الحزب الديمقراطي في أبريل الماضي، بمعطف أبيض على “بنطلون” أسود، وكأنها أرادت القول أن بديلها ترامب يمثل الجانب المظلم لأمريكا بينها هي طوق النجاة.
رسالة هامة
كلينتون في خطابها الأخير أكدت أنها تخطط قبل “الحديث”، ويدعم ذلك وجود الزوج بيل كلينتون في الصفوف الأولى بالمؤتمر، إلى جانب منافسها في الانتخابات الحزبية “ساندرز” في رسالة واضحة بأن كافة الديمقراطيين يؤيدونها.
هيلاري لم تفوت الفرصة تلك حينما حاولت استقطاب المؤيدين لـ “ساندرز” بقولها إن حملته ألهمت الملايين، بل ركزت في خطابها – الذي تابعه ما يقرب من 28 مليون أمريكي، عبر ست قنوات تليفزيونية مباشرة – على بعض الفئات الاجتماعية وبعض القضايا التي تشغل الرأي العام الأمريكي، أبرزها القضاء على الإرهاب، وخصصت له الجزء الأول من خطابها، مدركة أهمية طمأنة الشعب الأمريكي والعالم على قدرتها على مواجة الموجة العالمية المتصاعدة خلال السنوات الخمس الأخيرة، كما ركزت كلينتون على الفئات الاجتماعية لا سيما “الشباب”، باعتبارهم الفئة الأكبر والأكثر ديناميكية وحيوية فى الولايات المتحدة، دون أن تغفل دور الأقليات مثل المثليين والمتحولين جنسيًا، وخاصة ذوي الاحتياجات الخاصة، والتي تعول عليهم بشدة في حسم المعركة لصالحها.
مفاجأة المهاجرين
مفاجأة كلينتون خلال الخطاب كانت بتناولها وضع المهاجرين في أمريكا، فلم يحدث قبل ذلك أن أشار أي مرشح بأنه على استعداد لتغيير وتعديل الدستور الأمريكي، لمواجهة الأشخاص الذين يستخدمون المال من أجل السياسة أو الكسب غير المشروع، وأيضًا من أجل منح الجنسية الأمريكية لكافة المهاجرين الذين يعملون في الولايات المتحدة، وهو وعد من المرشحة بقدرتها على إعادة رسم الخريطة الاجتماعية في البلاد، ورفع معدلات الانتماء إلى الولايات المتحدة، بدمج جنسيات أخرى في المجتمع الأمريكي، لتفادي تكرار أزمة أوروبا التي تكتوي الآن بنيران المهاجرين.
بدا جليًا في الخطاب أن هيلاري تتجاهل تمامًا منافسها الجمهوري ترامب، حيث لم تذكر اسمه صراحة طوال النصف ساعة، وهي مدة الخطاب سوى مرة واحدة مهاجمة إياه بشراسة، باعتباره يرسخ للخوف والانقسامات، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يؤتمن على الترسانة النووية الأمريكية، وقالت إنه مرشح رد الفعل، الذى يريد أن يفصل أمريكا عن العالم، وهو ما يتنافى مع السياسة الأمريكية عبر تاريخها، والتي تعتمد على التطبيق الذكي للقوة وبناء استراتيجيات لإدارة العالم من خلال اقتصاد عابر للحدود، على حد قولها، في حين أنها تجنبت الهجوم على الحزب الجمهوري، وأوضحت أنها ستكون رئيسة لكل الأمريكيين.
أصوات المترددين
رغم قصر مدة الخطاب استطاعت كلينتون تناول كافة التحديات والقضايا التي تواجه أمريكا، في دلالة واضحة على براعتها الخطابية كسلفها أوباما، وقدرتها على مواجهة وجود الحشد الجماهيري الهائل.
السؤال الأهم هنا، والذي لم تستطع كلينتون الإجابة عليه هو: إذا كانت كيلنتون قادرة على محاصرة الإرهاب ولديها خطط مستقبلية لذلك، فلماذا لم تنفذها وهي وزيرة الخارجية في ظل الإدارة الأمريكية الحالية؟
إجابة السؤال هنا ترتبط بأن كلينتون لم تهدف من جملتها تلك منافسة الجمهوريين، أو كسب ود منتمي حزبها من الديمقراطيين، بل ركزت في الأساس على أن الناخبين الذين لا ينتمون لأي من الحزبيين سواء الديمقراطي أو الجمهوري، هم الأكثر تصويتًا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية على مر العصور، وهؤلاء يحسمون أمرهم في اللحظات قبل الأخيرة من التصويت، وهي بذلك تبحث عن ضالتها بين الشباب والمرأة، ورغبتهم في الأمان الذي أكدت قدرتها على تحقيقه كرئيسة، وكأنها تتهم خفية رئيسها أوباما بعدم الاستفادة القصوى من مخططاتها، فهل معنى ذلك أن كلينتون ستكون رئيسة ذات نزعة تدخليّة، وعازمة على برنامج محلي كاسح، وستركز بدرجة أقل على السياسة الخارجية؟
محاربة الفوضى
القراءة المتأنية لخطاب كلينتون وردود الفعل الأمريكية حوله، يراها تحاول تنصيب نفسها، ومن خلفها الديمقراطيين، كقائد قوي وحكيم، سيحمي أمريكا في بحر الفوضى والخطر الذي تعيش فيه، وكأنها تصور أن العلاقات الدولية هي لعبة محصلتها صفر، والشؤون الخارجية يمكنها أن تنخفض إلى مجرد “صفقة تجارية”، خصوصًا حينما أعلنت بأعلى صوتها وبنبرة أعلى من نبرات صوتها خلال الدقائق الثلاثين لخطابها الهادئ، “سوف نهزم الشر، وقواتنا المسلّحة ستكون أقوى في الخير”!
وأضافت مهاجمة ترامب: “تخيّلوا وجوده – دون ذكر اسمه – في السلطة، وهو يواجه أزمة حقيقية، رجل يمكنك إغراءه بتغريدة، ليس رجلًا يمكن الوثوق به فيما يتعلق بالأسلحة النووية، فنحن دولة مؤهلة بشكل فريد بين الدول، لقيادة حملة عالمية باسم الحرية وحقوق الإنسان، نعم العالم يراقب، نعم، نحن مَن نحدد مصير أمريكا”، وتابعت: “من يريد الدفاع عن كل شيء، يدافع عن لا شيء، ومن يريد أن يكون صديق الجميع، لن يكون صديقًا لأحد في النهاية”.
براجماتية الكوارث
خلاصة الأمر أنه على الرغم من كل شيء، فإن كلينتون براجماتية في نهاية المطاف، ومهاراتها في الصمود، ولا سيما بعد الكوارث في العراق وليبيا، وفضائح وايت ووتر، ومونيكا لوينسكي، ومكتب سفريات البيت الأبيض، وقضية بنغازي، قد تدفعها لتصبح حذرة من ورطة أجنبية جديدة إذا ما أصبحت رئيسة للبلاد، وفحوى خطابها الأخير مقارنة بخطاب ترامب أن أمريكا تواجه الآن قرارًا مصيريًا حول هويتها الأساسية، وهذه الانتخابات ستظهر لنا رؤيتها التي على وشك أن تسود.