في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي شهدت مصر حراكًا سياسيًا بطعم ثورة يوليو 1952م الذي كان مفترضًا أن يكون مغايرًا تمامًا لحقبة الملكية، وبعيدًا عن الضجيج الإعلامي في ذاك الوقت، نستعرض مشهد الزخم الثوري في هذه الفترة من خلال تسليط الضوء على مكاتب الرموز السياسية وسيرة مدرائها لكي يتجلى طرف من كيفية إدارة الحياة السياسية في مصر الثورة، والإجابة على تساؤلات هامة تدور في أذهان الكثيرين عن حقيقة استرداد الشعب المصري لإرادته أم أن المسيرة الثورية كانت أحد أوجه عملة واحدة وجهها الآخر الحياة الملكية الغابرة.
مكتب الصحفي محمد حسنين هيكل
كان أول لقاء جمع بين هيكل وناصر في حرب فلسطين التي شارك فيها عبد الناصر، ولم تكد لقاءاتهما تنقطع قبل الإطاحة بالملك فاروق، واستمرت وتوطدت بعد الإطاحة به، وأصبحت في أعلى درجاتها مع تولي عبد الناصر الحكم.
كان هيكل بمثابة “ظل عبد الناصر” الذي لا يفارقه، وكان ناصر بحاجة إلى صحفي يفلسف أفكاره وطموحاته ونرجسيته، ويقدمها إلى الناس بطريقة شعبوية جماهيرية تدغدغ العواطف وتلهب المشاعر.
لكن مكانة هيكل كانت أعظم حتَّى من هذا، فقد كانت التجربة الناصرية تحتاج إلى تأطيرٍ نظريّ يستطيع “الزعيم” التحرُّك من خلاله، فقام هيكل بتحرير أفكار الرئيس وصياغتها لتطبع في كتاب بعنوان “فلسفة الثورة”، وبهذا أصبح هيكل عرَّاب “دولة يوليو” الأوحد ومنظِّرها.
كان هيكل شديد الولاء لعبد الناصر، وكان يكتب له خطبه الرنانة، حتى لقب بـ “كاهن فرعون” الذي أورده موارد التهلكة عندما استمع إلى تحليلاته ونصائحه، فكانت ثمرة هذه النصائح الخائبة سلسلة من الهزائم بدأت بهزيمة حرب 1956، ثم فشل الوحدة مع سوريا 1960، وبعدها هزيمة حرب اليمن 1965، ثم كانت الهزيمة القاسية في حرب 1967، والتي قصمت ظهر عبد الناصر ورسمت نهايته.
وهيكل هو الذي كتب خطاب التنحِّي لعبد الناصر عقب هزيمة يونيو 1967، وهو الذي صكّ مصطلح “النكسة” وليس الهزيمة لتخفيف وطأتها النفسية، كما أنيطت به حقيبة الإعلام بعد قبول مصر مبادرة روجرز لوقف إطلاق النار، كما أنَّه كان في غرفة عبد الناصر أثناء وفاته، وكتب بيان وفاته الذي تلاه السادات، وتجاوزت إسهاماته للدولة المصرية عهد عبد الناصر لعهد السادات الذي كتب له تقرير التكليف الاستراتيجي لحرب أكتوبر 1973.
قال عنه الكاتب الراحل أنيس منصور: “كان مفكّر عبد الناصر، وصاغ الفكر السياسي له في هذه الفترة، ولم يحصل أي شخص على هذا الدور، وأكاد أقول إن عبد الناصر من اختراع هيكل”.
لقد أتقن هيكل لعبة “الصحافي في خدمة السياسي”، كما أتقن فن أن يكون السياسي في خدمة الصحافي، وفي هذا السياق يقول الصحفي محمد حماد: “عرف هيكل مبكرًا جدًا ما يحتاج إليه رجل في موقع ومكانة عبد الناصر من أفكار وأخبار واتصالات، وأدى المطلوب على خير وجه، وعبر عن الزعيم بصورة كان يقول عنها عبد الناصر: هذا بالضبط ما كنت أريد أن أقوله”.
كان قرار هيكل منذ البدايات الأولى أن يقترب من السلطة، بل ويلتصق بها، وكان يردد دائمًا ومبكرًا جدًا، وربما في الأيام الأولى من الثورة، أن “الحاكم يحتاج لصحافي يعبر عنه”، وكان يؤكد بقناعة مطلقة: “وسأكون أنا هذا الصحافي”.
أراد يومًا أحد رؤساء التحرير أن ينافس هيكل ويثبت لعبد الناصر أنه أقدر من هيكل في تدعيم مكانته في نفوس الناس، فكتب مقالًا – في أكتوبر – 1964 قال فيه: “إن عبد الناصر خسارة في الشعب المصري، وإنه كان يجب أن يكون زعيمًا لشعب متحضر مثل الشعب الإنجليزي أو الشعب الأمريكي لكي يثمر فيه جهد عبد الناصر”، وأغضب المقال عبد الناصر؛ لأنه رأى فيه مبالغة في النفاق تسيء إليه وإلى الشعب المصري.
وصلت العلاقة بين هيكل وعبد الناصر إلى حد شعر هيكل معه أنه هو من يفكر للزعيم ولا أحد غيره، وأن ناصر لا يتخذ قرارًا إلا بعد مشورته، وكانت هناك بعض الروايات ووقائع تجسد تلك العلاقة بين الطرفين.
الواقعة الأولى رواها صحافيون نقلاً عن الأديب الراحل يوسف إدريس الذي دخل مكتب هيكل للقائه فقالت له السكرتيرة – وكان اسمها نوال المحلاوي -: “الأستاذ مشغول ولن يستطيع مقابلتك اليوم” فغضب الأديب الكبير، وقال لها: “أنا يوسف إدريس، من أنت لكي تتحدثي نيابة عن هيكل؟!”، فقالت له: “أنا نوال المحلاوي، اعتبرني رقم 3 في مصر”، فاستغرب إدريس الإجابة وسألها: “كيف لمثلك أن تكون رقم 3″، فقالت: “من يحكم مصر؟”، رد إدريس: “عبد الناصر”، فأجابت: “وعبد الناصر في جيب الأستاذ هيكل، والأستاذ في جيبي”، واختتمت قائلة: “تفضل وسأحدد لك موعدًا”، ولم يرجع الأديب لمكتب هيكل مرة أخرى.
الرواية الثانية يرويها الكاتب الصحفي محمد حماد وكانت في عام 1968، حيث كان أنور السادات رئيسًا لمجلس الأمة، وذهب للقاء هيكل بمكتبه في الأهرام، لكن هذا اللقاء لم يتم، وانتظر السادات 45 دقيقة في قاعة الضيوف الملحقة بمكتب هيكل، رغم وجود موعد سابق.
وبعد أن تكرر إلحاح السادات للسكرتيرة بأن تسأل الأستاذ إذا كان يرغب في تأجيل الموعد إلى يوم آخر، دخلت السكرتيرة وخرجت بعد ثوان، لتقول للسادات: “اليوم الأربعاء، والأستاذ مشغول بكتابة المقال، سيحدد لسيادتك موعدًا آخر، إن شاء الله”! وكانت تلك غصة في حلق السادات ذكّر هيكل بها فيما بعد.
الرواية الثالثة – ويرويها حماد أيضًا -: كانت نوال المحلاوي سكرتيرة هيكل تصل إلى مكتبها في ساعة مبكرة من الصباح، طوال فترة عملها مع هيكل، وحدث ذات صباح أن تأخرت عن موعدها، فقالوا: تأخرت! وبعد قليل أصبح الأمر أكثر من مجرد تأخير، وسرى الخبر سريانًا سريعًا، حتى خارج مبنى مؤسسة الأهرام، مصحوبا بتكهنات وشائعات مختلطة، كانت من بينها شائعة واحدة صحيحة، لقد اعتقلت السيدة، ووضعت في السجن، بأمر الرئيس عبد الناصر شخصيًا.
وكانت سكرتيرة هيكل قبل أيام قليلة تقضى السهرة بصحبة زوجها، مع الكاتب اليساري المعروف لطفي الخولي وزوجته ولأن الجلسة لا تضم غرباء، فقد تحدث الجميع على راحتهم، وتطوعت المحلاوي بطرح معلومات قيل إنها من الأسرار العليا جدًا، وفي مصر كلها لم يكن يعرف عنها شيئًا، باستثناء اثنين: عبد الناصر وهيكل.
وبالطبع لم تكن هي ولا من معها يتصورون أن أجهزة التسجيل قد سبقتهم إلى حيث سيقضون سهرتهم الوديعة، وبعد إجراء التحقيق معهم جميعًا، أودعوا في السجن، حتى تدخل هيكل لدى عبد الناصر فأمر بالإفراج عن السكرتيرة، التي عادت إلى الأهرام، ولكن في موقع آخر بعيدًا عن خزائن الأسرار، فقد ألحقت بقسم الترجمة الذي يختص بترجمة الكتب العالمية عن مختلف لغات العالم.
يقول الأستاذ رياض ولد أحمد الهادي: ووسط هيجان عواطف والتهاب مشاعر الجماهير العربية والتفافها حول عبد الناصر، وشعارات الثورة والقومية العربية والوحدة العربية، برز هيكل بما أوتي من قدرة على استغلال المواقف بالتزييف والمغالطة وتملق مشاعر وعواطف الجماهير للفت الانتباه إليه وتكبير صورته، وقد كانت براعته مذهلة في الـمَلق والتزلف وإخفاء وقلب الحقائق لعبد الناصر، فنجح في كسب ود وثقة معبود الجماهير فحمل على الأعناق، وأصبح فوق الشبهات والنقد، لأنه صار كالظل لعبد الناصر، وتمكن من الهيمنة على مؤسسة الأهرام ذات الوزن السياسي والإعلامي المتميز يومها، فاحتكر لنفسه ملحقًا أسبوعيًا يكتب فيه كل يوم جمعة تحت عنوان “بصراحة” ما يرضي عواطف الجماهير من المدح، والتنويه بثورة ومبادئ وأهداف عبد الناصر “الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف”، وكان هذا الملحق – في جوهره – منبرًا اتخذه هيكل للترويج لنفسه وعلاقته بعبد الناصر وثقته به وبخبرته السياسية وثقافته الواسعة وعلاقاته وصلاته المباشرة بمختلف عظماء العالم من ملوك ورؤساء وساسة ومفكرين.. إلخ.
وكأن هيكل نـِد للجميع ومبرز على الجميع، ويكفيك أن تقرأ أحاديث هيكل الأسبوعية لتشعر وكأنك في ناد لعظماء العالم فتضيق ذرعًا بعبارات مثل “قال لي جمال أو الرئيس أو الملك أو فلان، وقلت له، وسألني، وسألته، وأضحكني، وأضحكته، وكتب لي وكتبت له، واستدعاني للعشاء في جناحه، وجلست بجانبه في الطائرة) وهكذا وهكذا.