أدت التطورات التكنولوجية المتسارعة إلى وجود ثورة اتصالية ونظم معلوماتية اجتاحت معالمها جميع دول العالم خلال فترة قياسية من الزمن، بحيث شهدنا مع مطلع القرن الحادي والعشرين ظهور وميلاد شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة والتي من بينها شبكة “الفيسبوك”، التي تعتبر بمثابة نقلة نوعية في مجال الاتصال والتواصل على نطاق العالم بأكمله.
إذ أصبح بإمكانك وبكل سهولة التواصل ومعرفة أخبار أصدقائك الموجودين في أي مكان وفي أي دولة على نطاق العالم بأكمله، ولو عُدنا عبر الذاكرة لنسترجع كيف كان التواصل قبل فترة زمنية قصيرة من الزمن، لوجدنا أن ما نعيشه اليوم هو بحد ذاته نقلة نوعية فريدة في مجال الاتصال والتواصل الاجتماعي، ولكن ما أريد أن أتطرق إليه عبر مقالي المتواضع هو مدى الاستخدام الصحيح لهذه الشبكة القيمة، ومدى التعامل معها بالطريقة السليمة، وذلك لتفادي التأثيرات السلبية الناتجة عنها، بحيث إن لكل مجتمع ثقافته وعاداته وتقاليده وقيمه التي تختلف من مجتمع لآخر، بحيث يجب أن يكون أفراد المجتمع على درجة من الوعي لكي تتم عملية الاستفادة من خدمات هذه الشبكة على أفضل وجه ممكن.
التجاوب والمشاركة على شبكة “الفيسبوك”
ما هو حسابك على شبكة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”؟ سؤال أصبحت تسمعه بين الفينة والأخرى، وقد يطرحه عليك العديد من الأصدقاء ممن كنت تعرفهم في مراحل الطفولة، إذن أصبح يتوجب عليك أن تمتلك حسابًا شخصيًا على تلك الشبكة الاجتماعية لكي تستطيع أن تتماشى مع من حولك من الأصدقاء أو الزملاء أو عامة الناس، وكأنه أصبح فرضًا عليك أن تبرز رأيك الشخصي عبر تلك الشبكة في كل قضية تحدث سواء أكان ذلك على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الدولي، بحيث يتوجب عليك الرصد والمشاركة والتحليل لكل ما هو صغير وكبير من أحداث متعاقبة لا تنتهي أحداثها ولا تهدأ وتيرتها، وذلك لتأثرنا بها وارتباطها بحياتنا اليومية، فأصبحنا نتفاعل عبر تلك الشبكة بأوقات جنونية قد تصل مدتها لأكثر من 8 ساعات يوميًا، فيكون جل تركيزنا مُنصب على قضية أو مشكلة مثارة عبر تلك الشبكة، ويكون ذلك على حساب حياتنا الفعلية الواقعية.
الحياة الاجتماعية ما بين الواقع الافتراضي والواقع الفعلي
إذن تجمعنا حياة افتراضية عبر شبكة اجتماعية تحتوي على العديد من الأصدقاء الذين قد يصل عددهم إلى 5000 صديق، ممن يحملون أفكارًا وتخصصات وتوجهات وعادات وتقاليد متنوعة، فكل شخص من هؤلاء الأصدقاء يبوح عبر تلك الشبكة بمشاعره وأحاسيسه وأفعاله وسلوكياته وتصرفاته في الحياة اليومية، وكل شخص يحاول أن يظهر بالوجه الحسن، بحيث تشعر أن الغالبية العظمى من أصدقائك عبر تلك الشبكة هم أناس طيبون يحبون الخير، ويتصرفون بلباقة، وهم من أفضل الأشخاص في المجتمع.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هل جميع أصدقائنا تتشابه سلوكياتهم الافتراضية بحياتهم الواقعية؟ سؤال أنت وحدك من تعلم إجابته، فلو أنك تفحصّت واقعهم الفعلي لوجدت عكس ما كنت تتوقع إلا ما رحم ربي، فتجد أن حياتهم الواقعية تخلو من الأهداف والطموحات، وهم من الأشخاص الذين يتخذون من هذه الشبكة فقط مكانًا لإضاعة الوقت، ولأجل التفريغ عن نفسياتهم المحبطة أملًا في تحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه في الحياة الواقعية ولو لفترة مؤقتة، أو لأجل الهروب من مشاكل حياتهم الفعلية التي لم يكن بمقدورهم مواجهتها والتغلب عليها.
ماذا فعل بنا الفيسبوك؟
لو رجع بنا الزمان للوراء قليلًا، لأدركنا قيمة التواصل الاجتماعي الحقيقي والفعلي ما قبل الفيسبوك، فقديمًا كل شخص كان يتمتع بشخصيته الحقيقية المعروفة والمألوفة للجميع، وكان التواصل عبر الزيارات واللقاءات الاجتماعية المليئة بالمشاعر الحقيقية غير المصطنعة.
لكن اليوم الفيسبوك يصنع منا شخصيات بوجوه متعددة لا تعلم إن كانت مشاعرها وتفاعلاتها عبره حقيقية صادقة أم أنها مصطنعة لأجل اعتبارات مختلفة، ولعلك في الآونة الأخيرة شاهدت بنفسك كيف يقوم العديد من الأصدقاء عبر تلك الشبكة بإبراز أدق تفاصيل أعمالهم اليومية سواء بقصد أو بدون قصد، ومنها تصوير ونشر الطعام قبل أكله، وأيضًا النشر أثناء ممارسة العبادات والشعائر الدينية المختلفة، والنشر للخلافات الشخصية بين الأصدقاء وكتابة كلمة “مقصودة” والنشر للخلافات الأسرية بين الزوجين، فأصبحت تلك الشبكة تطرق أبواب بيوتنا لتدخلها دون استئذان لتعرّي وتكشف أسرارنا وخصوصياتنا دون أن نعلم ذلك، وهذا كان له انعكاس واضح في افتعال العديد من المشكلات الاجتماعية المتراكمة.
الانجرار نحو العزلة الاجتماعية
لا أحد يُنكر مدى تعلقه بتلك الشبكة الاجتماعية، ولا أحد يُنكر أن الفيسبوك أصبح يتغلل في حياتنا اليومية، ويسرق من أوقاتنا ساعات كثيرة لا نعلم كيف تمضي بهذه السرعة الهائلة، لذلك أصبحت حياتنا الواقعية أسيرة عبر تلك الشبكة، حتى وصل بنا الحال إلى تأدية واجباتنا الاجتماعية مثل التهنئة بالسلامة، ومواساة المريض، وتعزية المتوفى، والمباركة بالنجاح، كل ذلك عبر تلك الشبكة، وكأننا تناسينا حياتنا الحقيقية، والأمر الذي يثير الدهشة أننا أصبحنا نعيش غرباء عن بعضنا البعض داخل الأسرة الواحدة، أصبحنا ننطوي على أنفسنا دون الاختلاط والتواصل مع العالم الخارجي، أصبحنا نجلس في مكان واحد ولكن عيوننا وأذهاننا تترقب وترصد وتتفاعل مع تلك الشبكة.
ولتأكيد ما سبق، لعلك تلاحظ أنه عندما يأتي عليك ضيوف لأجل “صلة الرحم” أن أول شيء يطلبوه منك هو الرقم السري لشبكة الـ Wi- Fi، فهذه الشبكة “الفيسبوك” صحيح أنها وُجدت في الأصل لأجل التواصل الاجتماعي ولكن الاستخدام المفرط لها جعل منها شبكة للانقطاع الاجتماعي.
تحقيق التوازن بين الحياة الافتراضية والحياة الواقعية
لكي نستطيع أن نحقق الاستفادة الكاملة من هذه الشبكة، ويكون استخدامنا لها استخدامًا سليمًا، يجب علينا أن ندرك أن حياتنا اليومية الواقعية أهم بكثير من حياتنا الافتراضية عبر شبكة الفيسبوك، ويجب علينا تأدية واجباتنا الاجتماعية على أكمل وجه ممكن ويكون دور شبكة الفيسبوك دورًا تكميليًا للحياة الواقعية، وعلينا التمتع بقدر من الوعي الفكري والمسؤولية لتحديد ما الحد المسموح بنشره عبر تلك الشبكة لكي نتفادى التطرق والخوض في خصوصياتنا وأسرار حياتنا اليومية.
وفي نهاية مقالي لا يسعني إلا أن أقول أنك أنت وحدك من تُحدد مدى استفادتك من هذه الشبكة على القدر الذي تنظم به وقتك وأنت، وحدك الذي تستطيع أن تتحكم في سلوكياتك الواقعية قبل أن تعكسها وتترجمها عبر الحياة الافتراضية.