بعد مقدمة من الصور والمقاطع الأرشيفية من صحراء فلسطين “الجدباء” وكلمات للكاتب “مارك توين” يصف فيها بشاعة فلسطين التي زارها عام 1867، يُطل علينا وجهًا أمريكيًا في وثائقي Made in Israel ليُطمئنا أنه لو كان مارك توين بيننا اليوم لغمرته السعادة وهو يرقب الأشجار والبساتين في فلسطين والمشاريع الزراعية الرائدة عالميًا هناك، وكأن فلسطين كانت فعلاً أرضًا قاحلة قبل وصول اليهود وإنشائهم للكيبوتسات الصهيونية، بل كأنهم اليهود هم أول من زرع الأرض وكأن يافا لم تعرف البرتقال قبلهم وكأن الجليل لم يكن أخضر من قبل وكأن شيئًا لم يكن.
العبث كُل العبث أن ننكر بأن إسرائيل تتفوّق في مجال الزراعة، على الأقل أكثر بكثير من الدول العربية، فقد باتت اليوم سباقة في دعم المشاريع الزراعية في العالم وفي إفريقيا بشكل خاص، بعد أن استطاع الخبراء الزراعيين أن يصلوا إلى حلب 10 آلاف لتر من الحليب من كل بقرة سنويًا، واستطاعوا تطوير أصناف من الطماطم تُعتبر من أطول أصناف الطماطم عُمرًا، كما أنك لو زُرت حانوتًا في أوروبا فليس غريبًا أن تجد هناك الأفوكادو والحمضيات والتمور الإسرائيلية التي تُباع حتى في حوانيت المسلمين في الغرب وفي شهر رمضان بالذات.
فضل الألمان على الصهاينة الأوائل
ولكن ماذا تُخبئ هذه الإنجازات في جعبتها؟ الحقيقة أن مفهوم الزراعة والاستيطان مُرتبط جدًا ببدايات الحركة الصهيونية والترويج للهجرة إلى أرض “إسرائيل” التي ارتبطت عندهم بمفهموم إعادة إحياء الأرض من خلال العمل والزراعة كما يُمكن أن نقرأ في كتاب “دولة اليهود” لثيودور هرتسل، ولو تأملنا أولى المستوطنات الصهيونية مثل مستوطنة بيتاح تكفا التي تأسست في آواخر القرن التاسع عشر لوجدناها تأسست على أطراف نهر العوجاء، وهي المنطقة التي انتشرت فيها المستنقعات والأمراض في تلك الفترة، ولذلك فشلت محاولات الاستيطان الصهيونية الأولى فيها.
وبالتالي لجأ هؤلاء المستوطنين اليهود إلى خبرة المستوطنين الألمان الذين كانوا قد سبقوهم في الاستيطان في أرض فلسطين منذ عام 1861 تقريبًا وكانت لهم مستوطنة قرب يافا لا زالت آثارها حتى اليوم وتُدعى “سارونا” وهم الذين جلبوا معهم ذروة ما وصلته الهندسة الألمانية في ذلك الوقت، وقد استفاد الصهاينة كثيرًا من الألمان “الهيكليين” في مجال الزراعة وكيفية ري الأرض بالمضخات!
“اغتيال المدينة”
مؤسف جدًا، أن أفلام الدعاية الصهيونية تلقى رواجًا وتفاعلاً ضخمًا، وللمقارنة فإن عدد مشاهدات فيلم “صُنع في اسرائيل” بلغ أكثر من مليون مُشاهدة على اليوتيوب بينما لم ينل فيلم “اغتيال المدينة” للمخرج رامز قزموز عُشر هذه المشاهدات، مع أنه يُعتبر من أرقى الأفلام التي تناولت قضية فلسطين بشكل مُختلف وغير تقليدي، حيث تناول الفيلم الإنتاج الزراعي والصناعي وكذلك الأدبي في فلسطين قبل النكبة.
حيث تُشير سعاد قرمان الفلسطينية وهي من عائلة ثرية في حيفا، أنه كان لعائلتها شركات كثيرة قبل النكبة ومنها محلبة كبيرة كانت تستورد البقر الهولندي والتي كانت على أحدث طراز ومع “محلبة أوتوماتيكية” وليس باليدين كما تقول سُعاد، وشاهد آخر هو إسماعيل أبو شحادة والذي التقيته في بيته أكثر من مرة وقد ظهر في فيلم “اغتيال المدينة” وأفلام أخرى كثيرة، كونه قارئًا مُميزًا ومُطلعًا على الصناعات في عصره، حيث إنه عمل في مجال المضخات المائية والزراعة وكان يؤكد في كل مرة كيف كانت شركة السكب الفلسطينية تصنع المضخات وكيف كان العمال يأتون من كل الأقطار العربية للعمل في فلسطين وبالأخص في الميناء وفي بيّارات البرتقال.
سرقة المياه!
وبينما تبدو إسرائيل اليوم كالأم الحنون على الأفارقة الفقراء، فإن الكاتب الألماني “كلمنس ميسرشمد” يُشير في كتابه “آخر شفة ماء” إلى حقائق كثيرة مُتعلقة بالنهب الإسرائيلي للمياه، مثل صدور القرار العسكري الإسرائيلي رقم (92) عام 1967، والذي ينص على نقل السلطة على الموارد المائية للقائد العسكري في المنطقة، ثم قرار (158) في نفس العام الذي يمنع البناء غير المرخص لإنشاء أي من البنى التحتية للمياه، ولم تقف المُشكلة عند هذه القرارات لأنه وبعد اتفاقية أوسلو أصبحت سياسة الإسرائيليين كما يقول الباحث الألماني: “ما هو لي فهو لي، وما هو لكم فهو لنا” وهو ما يعيشه الفلسطينيين في منطقة الأغوار بشكل يومي حيث تتحكم إسرائيل بمياههم وتحرمهم منها، لدرجة أن رئيس برلمان الاتحاد الأوربي لم ينتقد شيئًا في إسرائيل كما انتقد سرقتها للمياه قائلاً: كيف يُمكن للإسرائيلي أن يستهلك يوميًا 70 لترًا من المياه بينما لا يسمح للفلسطيني إلا بـ 17 لترًا؟
مُقاومة التصحر
يستحيل أن تقرأ عن إنجازات إسرائيل الزراعية ولا تقرأ عن إنجازاتها في مقاومة التصحر، ففي موقع وزارة الخارجية الإسرائيلي وفي أحد التقارير يفتخر الكاتب بقدرة إسرائيل الخارقة على تحويل أراضي الصحراء القاحلة إلى أرض صالحة للزراعة، والمهم في التقرير أنه يعود بنا إلى أجداد “اليهود” الذين عاشوا في صحراء النقب قبل 2000 عام ويُمكن اعتبارهم مصدر إلهام في مُقاومة التصحر، كما يُشير التقرير إلى أفكار أخرى مميزة ولكنه يتناسى أخطر فكرة.
فكرة أيهما أولى، الإنسان أم الشجرة؟ فغابة يتيّر، التي تُعتبر أكبر غابة في إسرائيل وتقع في واحدة من أكثر المناطق جفافًا في العالم، هذه الغابة تقع على أراضي قريّة عتيّر البدوية، ولكن الصهاينة اطلقوا عليها اسم يتيّر الإسرائيلي فهم لا يعترفون بالقرية أصلاً، وتنوي إسرائيل حاليًا تهجير أهلها لتخضير الصحراء وزراعة المزيد من الشجر في غابة يتير، وبحسب المخطط فإن غابة يتير يُفترض أن تمتد على مساحة 124500 دونم، وبالتالي فهي ستشمل قرية عتيّر التي يُنظر إليها في المخطط وكأنها بلا سكان ويتجاهلها تمامًا علمًا بأن عدد سكانها حوالي 500 شخص وبالتالي فإن المخطط يُعطي الضوء الأخضر لهدم القرية وترحيل أهلها من أجل غرس الشجر.
ثم بعد ذلك يُحدثونك عن “المعجزة الزراعية”!