في أول تعليق له على الاتفاق النووي مع القوى الغربية قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف إن اكبر انتصار حققته إيران من هذا الاتفاق هو إثبات أن المشكلات مع إيران لا تحل إلا عن طريق الحوار وليس من خلال استخدام الأساليب القسرية، والقراءة التقديرية لهذا التعليق تشير إلى أن صانع القرار الإيراني يدرك أن القوى الغربية لو أتيح لها تحقيق أهدافها المتعلقة بالملف النووي الإيراني بالوسائل الإكراهية لما لجأت إلى الوسائل الودية على الرغم من الانتقادات داخل القوى الغربية لهذا الاتفاق وخاصة تلك الانتقادات التي وجهها الجمهوريون لسياسة أوباما الخارجية حيال الملف الإيراني.
إن نجاح إيران في إدارة علاقاتها مع القوى الكبرى المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط من حيث إقامة تحالفات وثيقة مع بعضها كروسيا والصين وطرح مشاريع منافسة لبعضها الآخر كالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى تطويرها لنموذج فعال للصعود الإقليمي في المنطقة والذي تستهدف من خلاله تطوير مكانتها الاستراتجية من وضع الفاعل الإقليمي إلى وضع القطب الإقليمي، بالإضافة إلى التوظيف المتكامل للقوة في السياسة الخارجية من عناصر القوة الصلبة إلى عناصر القوة الناعمة، فهذه التفاصيل كلها تستدعي طرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن نفهم السياسة الخارجية الإيرانية؟
أولاً: أثر مفهوم الصورة في السياسة الخارجية للدول
في علم النفس الاجتماعي هناك اتجاهان رئيسان في تحليل سلوك الأفراد، ويركز الاتجاه الأول على فكرة السياق، أي أن سلوك الفرد هو في النهاية ناتج عن تحليل موضوعي للسياق الذي يوجد فيه، أما الاتجاه الثاني فيركز على خصائص شخصية الفرد في حد ذاتها، وفي مجال السياسة الخارجية هناك تقسيم مشابه، فأحد الاتجاهات يركز في شرحه للسلوك الخارجي للدول باعتباره نتاج التحليل الموضوعي للبيئة الدولية، وتحديدًا ما تعلق بتوزيع القوة في هذه البيئة أو ما يسمى بالقيود والفرص التي تفرضها البيئة على سلوك الدولة، بينما يركز الاتجاه الثاني في شرح سلوك الدول من خلال الصور التي تحملها الدولة عن كل ما يقع في العالم الخارجي.
والصور هي انطباعات ثابتة تكونها الدولة عن نفسها وعن الدول الأخرى، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية: فأولاً هناك صور العلاقات وهي الانطباعات التي تحدد طبيعة العلاقات مع الدول الأخرى من حيث العداء والصداقة أو القوة والضعف أو الالتزام الأخلاقي، وتعتبر صورة العلاقات من أهم المحددات في فهم السياسة الخارجية للدول تجاه بعضها البعض، فالولايات المتحدة على سبيل المثال تقسم دول العالم وفقًا لخمس صور أساسية: صورة الدول الحليفة، وصورة الدول العدوة، وصورة الدول المعتمدة على الولايات المتحدة، وصورة الدول المعتمدة على الأعداء، وصورة الدول المحايدة.
ثم هناك صور الثقافات بمعنى الانطباعات الثابتة التي تحملها الدول عن ثقافتها القومية وعن الثقافات القومية لغيرها من الدول، هل هي ثقافات عدوانية أم مسالمة، هل هي ثقافات منفتحة أم منغلقة، هل هي ثقافات ليبرالية أم غير ليبرالية، هل هي ثقافات مثالية أم براغماتية، ثم هناك ما يسمى بصور الأدوار وهي الانطباعات التي تكونها الدولة عن الأدوار التي تقوم بها أو التي يقوم بها الآخرون وتتجلى صور الأدوار على المستوى الإقليمي أكثر منها على المستوى الدولي.
ثانيًا: إيران والسياسة الخارجية لدول العالم الثالث
قد ترى وجهة نظر معينة أن إيران تتصور نفسها إحدى دول ما يسمى تجاوزًا بالعالم الثالث وبالتالي هي تتصرف على أساس الانتماء لهذه الدول والتي لها من الخصوصيات ما يجعل سياستها الخارجية أيضًا تبنى وتنفذ في إطار خاص، فمن جهة فإن مفهوم الدولة القومية في هذه الدول هو مفهوم حديث لا يتجاوز الستين عامًا، بمعنى أن هذه الدول لا تزال في سياق البحث عن مكان لها في الأنظمة الدولية المتعاقبة، وقد تم اختبار سلوك هذه الدول في نظاميين دوليين مختلفين هما نظام الثنائي القطبية في فترة الحرب الباردة ونظام الأحادية القطبية بعد نهاية الحرب الباردة، ولم تتح الفرصة لاختبار سلوك هذه الدول في نظام تعددية قطبية لأن هذا النظام لم يستقر بعد في الواقع الدولي، ومن جهة أخرى فإن ضعف بنية هذه الدول يجعلها تعطي الأولية للانكفاء على القضايا الداخلية بدل التورط في القضايا الدولية.
من خلال هذين المرتكزين يمكن القول أن ما يحرك دول العالم الثالث هو بحثها عن الاستقلالية كقيمة سياسية مركزية، كما أن أهداف هذه الدول لا تعرف استقرارًا نظرًا لتأثرها بتغير السياسات والتي تخضع لميولات نظم الحكم، يضاف إلى ذلك أن المؤثرات الداخلية تلعب دورًا كبيرًا في توجيه السياسة الخارجية لدول العالم الثالث وخاصة ما يتعلق بالخوف من تفكك الدول أو إعادة إحياء الظاهرة الاستعمارية، أما عن الاستراتجية المفضلة لدول العالم الثالث فهي استراتجية مسايرة الركب على اعتبار أن قدرات هذه الدول لا تسمح لها بمواجهة سياسات القوى الكبرى بشكل مباشر.
إن فكرة الانتماء إلى دول العالم الثالث ليس لها تأثير كبير في السياسة الخارجية الإيرانية، إذ تتباعد هذه السياسة إلى حد كبير عن الإطار العام المفسر لسياسات هذه الدول، فإيران لا تحدد الاستقلالية كمحرك لسياستها الخارجية بل تتجاوز ذلك إلى تطوير مكانتها باستمرار في النظام الدولي، ومن جهة أخرى تستند السياسة الخارجية الإيرانية إلى أهداف قومية ثابتة بالرغم من وجود اختلافات فرعية حولها بين ثلاث تيارات سياسية داخل إيران وهي التيار الإصلاحي والتيار الثوري والتيار البراغماتي، يضاف إلى ذلك أن الجمهورية الإيرانية تبدي انغماسًا كبيرًا في القضايا الدولية وخاصة الإقليمية منها بالرغم من وجود قضايا داخلية ذات أهمية قصوى خاصة ما يتعلق بالقضايا الاقتصادية، ثم إن الجمهورية الإيرانية لا تعتمد بشكل رئيسي على استراتجية مسايرة الركب بل تبدي تحديًا واضحًا لسياسات القوى الكبرى وخاصة الغربية منها.
ثالثًا: الصور والسياسة الخارجية الإيرانية تجاه منطقة الشرق الأوسط
أشارت لحظات التدهور الاقتصادي الإيراني تأثرًا بالعقوبات الاقتصادية إلى وصول إيران إلى المرتبة 157 في مجال النمو الاقتصادي، وإلى وصول معدل البطالة إلى 38%، واحتلال إيران للمرتبة 161 في مجال التمتع بالحريات الاقتصادية، ومع ذلك استمرت إيران في توسيع أجندة استراتجيتها الإقليمية، فالأمر إذن لا يتعلق بالمنطق البسيط لحسابات التكاليف والعوائد، وإنما يتعلق بصورة محددة تحملها إيران عن منطقة الشرق الأوسط وتتصرف على أساسها وتشمل هذه الصورة كل مكونات المنطقة، فبالنسبة لصورة العلاقات مع الدول المؤثرة في منطقة الشرق الأوسط فتقسمها إيران إلى أربع صور أساسية: صورة الدول الأعداء مثل إسرائيل والسعودية والولايات المتحدة، وصورة الدول الحليفة روسيا والعراق وسوريا، صورة الدول المعتمدة على إيران مثل اليمن ولبنان وسلطنة عمان، وصورة الدول المعتمدة على الأعداء مثل الأردن ومصر والإمارات وقطر والكويت وتركيا، وينعكس هذا التقسيم في السياسة الخارجية الإيرانية تجاه منطقة الشرق الأوسط بالشكل التالي:
– تعميق العلاقات مع الدول الحليفة إلى أقصى درجاتها.
– تعطيل السياسات الإقليمية للدول العدوة.
– تعزيز النفوذ في الدول المعتمدة على إيران.
– استمالة الدول المعتمدة على الحلفاء أو على الأقل تحييدها.
كما تحمل إيران أيضًا صورًا ثابتة عن الثقافات القومية الموجودة في منطقة الشرق الأوسط والتي تقسمها بالشكل التالي: ثفافات متطرفة ومنغلقة والتي يمثلها كل من الثقافة اليهودية الإسرائيلية والثقافة الوهابية السعودية، وثقافات قومية براغماتية والتي يمثلها كل من تركيا والولايات المتحدة وعدد من دول الخليج، وثقافات قومية منفتحة والتي يمثلها الأردن ولبنان، أما الثقافة القومية الإيرانية فتراها إيران ثقافة قومية أخلاقية وبالتالي يجب العمل على نشرها.
كما تحمل إيران انطباعات ثابتة عن الأدوار التي تمارسها الدول الإقليمية، فبالنسبة لإيران فإنها تعرف نفسها في صورة الحامي الإقليمي وهي الصورة التي تحفز الدولة على تحمل مسؤولية الدفاع ضد كل المهددات الخارجية التي تؤثر على منطقة الشرق الأوسط، كما تعرف دول أخرى في صورة الوسيط الإقليمي وهي الدول التي توجه جزءًا كبيرًا من سياستها الإقليمية لتسوية النزاعات مثل الأردن و قطر والكويت، كما تعرف إيران دول أخرى من خلال صورة الموازن الإقليمي مثل تركيا والذي يجب العمل على استمالته، وأخيرًا هناك صورة دور الشرطي الإقليمي والذي تمثله كل من السعودية وإسرائيل والذي تنحصر مهمته في تنفيذ السياسات الأمريكية.
وبغض النظر عن دقة هذه الصورة التي تحملها إيران عن منطقة الشرق الأوسط فإنها تؤثر بشكل كبير على السياسة الخارجية الإيرانية اتجاه تلك المنطقة من خلال:
– هذه الصورة هي مرجعية للسلوك الإيراني والذي يغنيها عن جمع كم من المعلومات حول الأحداث المتواترة في المنطقة.
– هذه الصورة هي مبررات للسلوك الإيراني تجاه منطقة الشرق الأوسط، فكل ما تمارسه إيران من سياسات سواءً كانت مرغوبة من دول المنطقة أو غير مرغوبة تجد مبرراتها بالنسبة لإيران في تلك الصورة النمطية.
– أن هذه الصورة هي المحدد لطبيعة الاستراتجية الإقليمية الإيرانية.