على مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات الأخبار، تغص الصفحات بالحديث عن معركة جديدة في حلب تتصاعد أحداثها “المفاجئة” بين البارحة واليوم، لكن وفق ما كنت ذكرته في مادة سابقة “حلب: معركة الخروج من المأزق“، فإن هذه الأحداث التي تجري الآن ليست متوقعة فحسب، بل إنها ضرورية كذلك لاكتمال السيناريو الذي تم رسمه منذ أوائل هذا العام لاستغلال وضع حلب في الخريطة السياسية.
الحصار
منذ بدايات العام الحالي، ركزت قوات النظام السوري على حصار الجزء الشرقي من حلب بالعمل على أربع محاور في آن واحد لإغلاق ما يعرف بطريق “الكاستيلو” وهو المنفذ الأخير الذي يصل حلب الشرقية بالريف الشرقي الشمالي المفتوح على الحدود التركية.
بعد تكرار الضغط الجوي الروسي وسياسة الأرض المحروقة في تلك المناطق، وخصوصًا مع القصف المدفعي المزدوج (من جمعية الزهراء وكلية المدفعية في الغرب وتلة الشيخ يوسف والمنطقة الصناعية في الشرق)، كان واضحًا الإصرار على حصار حلب الشرقية بالكامل ومن ثم إبادتها بشكل أو بآخر.
كان الوصول إلى قرية “حردنتين” بشكل أساسي هدفًا استراتيجيًا لقطع الطريق بين مارع وإعزاز في الشمال وحلب وضواحيها الشمالية، أما وصول قوات الجيش السوري إلى مشارف نبل والزهراء ومن ثم فك الحصار عنهما فلم يكن الهدف الأهم، بل يغلب الظن أنه لو كان ثمة سبيل إلى الإبقاء عليه واستغلاله سياسيًا وإعلاميًا مع قطع طرق إمداد المعارضة في الوقت ذاته، لما تأخرت السلطات السورية في اتباع هذا الخيار.
استغرقت قوات المعارضة فترة للملمة نفسها واستيعاب الصدمة، وتلت ذلك عدة محاولات لفتح طريق الكاستيلو مجددًا، لكنها بقيت غير ذات جدوى بين كر وفر، وساهم في ذلك وضع داخلي صعب بين فصائل مختلفة من المعارضة، وضغط كبير على الفصائل في ظل التناحر الروسي الأمريكي حول “أولوية محاربة داعش” من جهة، و”تعريف المعارضة المعتدلة” من جهة أخرى.
ما بعد الحصار
استغل الجيش السوري وحلفاؤه الروسيون الضعضعة التي خلفتها محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا قبل 15 يومًا، والتي أدت إلى انشغال نسبي بالوضع الداخلي التركي، ووجد فيها النظام السوري فرصة سانحة للانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية، أي من الحصار إلى مقدمات الإبادة، فبدأت حملات منظمة تستهدف بشكل أساسي الخدمات العامة، بما في ذلك المشافي والنقاط الطبية ومزودي الخدمات الأساسية، فيما كانت أغلب الفصائل في حلب مجمدة ومجردة من الدعم، واستمر ذلك حتى بعد الفوضى العالمية التي لفت موضوع الانقلاب التركي، وساهمت آنيًا في تعطيل أي سعي متعلق بمسألة حصار حلب، ولذلك كان لا بد من البحث عن خطط بديلة.
معركة فك الحصار
لا يمكن إهمال الصلة بين غرفة العمليات الضخمة التي تشكلت منذ أيام لتحرير حلب، وبين إعلان جبهة النصرة الذي سبقها، والذي تضمن فك الارتباط عن القاعدة (جدلًا) واتخاذ مسار يبدو أكثر ربطًا لجبهة النصرة بالبعد المحلي مقارنة بالبعد العالمي لتنظيم القاعدة.
لا نعرف بعد الآثار الدولية السياسية الممكنة لهذا التغير الشكلي (وهو موضوع يمكن التفصيل فيه لاحقًا) إلا أن الآثار الميدانية المباشرة على الأرض أدت إلى تجهيز غرفة عمليات كبيرة يقودها جيش الفتح مع فتح الشام “جبهة النصرة سابقًا” بالإضافة إلى عدد من الكتائب المحلية مثل نور الدين الزنكي، وهو أمر يكاد يناقض ما تدعيه “جبهة النصرة” من فك ارتباطها عن أي جهات خارجية، ويوحي أن هذه الحركة كانت ضرورية لاستكمال تجهيز غير قليل لهذه الغرفة وعمليتها الضخمة.
في تسجيل مصور، يقول أبو يوسف المهاجر الناطق العسكري باسم حركة أحرار الشام – باعتبارها إحدى فصائل جيش الفتح -، إنه بدأ الإعداد لخطة فك الحصار عن حلب منذ عشرين يومًا، وذكر في معرض إعلان بدء معركة تحرير حلب أنه “قد استكملت جميع مراحل الإعداد، وسيتم العمل على مراحل الخطة بدءًا من اليوم”.
هذه المرة لم تكن المعركة تهدف إلى إعادة فتح طريق الكاستيلو من جهة الشرق والشمال الشرقي، بل على العكس تمامًا تركز الهجوم على إيجاد طرق بديلة، فانصب التركيز على الجبهتين الجنوبية والغربية.
ماذا يعني ذلك؟ إنه باختصار يعني تحويل الحرب من مساحة وحيدة هي مساحة (الكاستيلو، المدينة الصناعية) إلى حرب مفتوحة على ثلاث جبهات على الأقل من جميع أطراف حلب، وبالتالي لا شك أن هذه الحرب ستكون طويلة وقاسية تمتد لعدة أسابيع، أما النتائج المأمولة فهي في حدها الأدنى بالطبع، إذ بينما يبدو من المستحيل استنزاف الجيش السوري ودعمه الجوي الروسي، يمكن على الأقل رفع مستوى إنذار ملف حلب مجددًا في الأروقة السياسية، وهو أمر حتى حينما حدث في الماضي لم يؤد إلى نتائج ملموسة ذات أهمية.
يلعب أيضًا التوقيت الحالي دورًا مهمًا في التأثير على مخرجات هذه الحرب المفتوحة، فمن ناحية أولى هناك تقلقل داخل أجهزة الدولة التركية بين إعادة تعيين وإعادة تأهيل مما سيؤثر على تدخلها الحالي، بينما يشتعل تنافس مرشحي البيت الأبيض في أشهره الثلاثة الأخيرة مما يستبعد أي قرارات مرحلية حاسمة في هذا التوقيت، وفي الوقت نفسه تستفيد روسيا من المسألتين، فتزداد قربًا من تركيا بينما تتأزم العلاقة التركية بالمعسكر الأمريكي على خلفية قضية “غولن”.
إذًا هل يمكن لمعركة كهذه فك حصار حلب؟ بعيدًا عن التوقعات والتكهنات بجزئيات التفاصيل، لا يبدو أن معركة كهذه (وفي موقع كمدينة حلب) مرهونة بتفاصيل صغيرة أو تحركات جزئية هنا أو هناك، سوف تستنزف هذه المعركة العسكريين والمدنيين، لكنها في نفس الوقت قد تؤدي إلى حصار مدينة حلب بشكل كامل (بعد أن بدأت الأخبار عن قطع طريق “أثريا-خناصر” صباح اليوم)، وبالتالي فإنها تفاقم اتساع المشكلة، وتشعل النار بين طرفين لا يبدو أن فيهما رابحًا أكبر أو خاسرًا أكبر، ستستمر المعركة أسابيع طويلة على أمل كلا الطرفين في أن يسمع صراخ الطرف الآخر أولًا.