بدايةً، وقبل وجود الفكر الاعتزالي وظهوره، كان قد سبق ذلك ظهور الفكر العقلاني في العهد الأموي في أكثر من مكان في الدولة الإسلامية، وقد كان ذلك على أيدي أشخاص مثل: عمرو المقصوص، والجعد بن درهم، وغيلان الدمشقي، والجهم بن صفوان وغيرهم، ثم فيما بعد انتشرت أفكار هؤلاء الأشخاص في أنحاء الممالك وألهمت شخصيات بارزة، أمثال: واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وأبي الهذيل العلاف، وإبراهيم النظّام وغيرهم، إلى أن أصبحت هذه الأفكار بمثابة بذور ونقطة انطلاق لفكر المعتزلة.
سبب تسميتهم بالمعتزلة
هناك أكثر من قول ورأي في هذا الشأن، إلا أن الرأي الأكثر شيوعًا هو أن تسميتهم جاءت بعد اعتزال واصل بن عطاء لمجلس شيخه الحسن البصري بعد جدال دار بينهما حول الحكم على “مرتكب الكبيرة”، حيث إن واصل لم يقتنع بأنه ليس كافرًا وقال هو في “منزلة بين منزلتين” أي لا مؤمن ولا كافر، وبسبب هذه الإجابة اعتزل مجلس الحسن البصري، وقام بتأسيس حلقة علمية وأصبح له أتباع ومقتنعون باجتهاداته، وحينها قال الحسن البصري “اعتزلنا واصل”، ومن هنا سميت هذه الفرقة باسم المعتزلة.
أهمية الفكر الاعتزالي وأهم ملامحه
تنبع أهمية المعتزلة من كونهم ركزوا على قيمتين أو مبدأين أساسيين:
- حرية الاختيار للإنسان ومسؤوليته عن أعماله.
- إعطاء مكانة كبرى للعقل البشري.
وهو ما يتجلى في جل أفكارهم التي أكدت على هذه المبادئ، وركزت عليها ودافعت عنها، وفي معرض تبنيهم لهذه الأفكار ودفاعهم عنها، خاضوا الكثير من المناظرات التي وثقتها لنا الكثير من كتب التراث الإسلامي وخصوصًا تلك التي تناولت الفرق والمذاهب ككتاب “الملل والنحل” للشهرستاني، وكتاب “الفرْق بين الفرق” لعبد القاهر البغدادي، وكتب الإمام الجاحظ وخصوصًا كتابيّ رسائل الجاحظ، والحيوان، حيث تناول الكثير من أفكارهم في كتبه، وكذلك كتب القاضي عبد الجبار وخصوصًا كتابيّ “شرح الأصول الخمسة” و”المغني في أبواب التوحيد والعدل” والذي يعد أهم الكتب التي تناولت الفكر الاعتزالي بالشرح والتفصيل على الإطلاق.
ومن المناظرات ما كانت فيما بين أتباع المذهب أنفسهم، وهذا مما يدل على مساحة الحرية الواسعة التي كانوا يتمتعون بها تحت مظلة المذهب الواحد، حيث لم يكفروا بعضهم البعض ولم يدعوا لقتل بعضهم رغم وجود اختلاف كبير بينهم في كثير من الآراء، إلا ما ندر من مثل هذه التصرفات التي كانت في معظمها مجرد رد فعل وناتجة عن لحظة غضب لا أكثر.
وكذلك يذكر لنا التاريخ أن شخصية مثل “ابن الرواندي” الذي كان معتزليًا ثم خرج على المعتزلة وحاربهم وألّف كتابًا شنّع به عليهم أسماه “فضيحة المعتزلة”، ومع كل ما بدر من جهته إلا أن المعتزلة اكتفوا فقط بالرد عليه بأن قام أحدهم وهو أبو القاسم الخياط بتأليف كتاب أسماه “الانتصار في الرد على ابن الرواندي”، ومن ناحية أخرى فمن المناظرات ما كانت مع خصومهم من أهل المذاهب الأخرى كالسنة والشيعة والجهمية والمرجئة… إلخ.
ولتكوين صورة أوضح عن هذه الفرقة وهذا الفكر العقلاني، سأقوم بسرد بعض هذه الأفكار والآراء التي ميزت هذه الفرقة عن غيرها من الفرق، والتي تعد من أبرز ملامحها:
أولًا: اعتمدت المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل تحت شعار “العقل أول الأدلة”، وقالوا بأن العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي، فيما يعرف بـ “التحسين والتقبيح العقليان.”
ثانيًا: كانت المعتزلة حذرة من ناحية قبول الأحاديث النبوية الشريفة، وشكوا في قيمتها الثبوتية، فلم يستخدموها في مصنفاتهم، إلا في حدود ضيقة، وذلك بسبب انتشار الوضع والكذب في الحديث في زمانهم، فوضعوا قواعد صارمة لقبول الأحاديث، مما ترتب عليه في نهاية المطاف أنهم أخذوا بيسر يسير جدًا من الأحاديث النبوية.
ثالثًا: يؤمن المعتزلة أن الإنسان مسؤول عن كل ما يفعل، وأن مسؤوليته تقتضي أن يكون حرًا في اختيار طريقه وأفعاله ومعتقداته، وإلا فستكون محاسبته على ما لم يكن له خيار فيه، ظلم.
وهذا مما لا يستقيم عندهم مع عدالة الله سبحانه وتعالى، فالله منزّه من أن يضاف إليه شرّ أو ظلم، فاتفقوا على أنّ العبد خالق لأفعاله أي أنه حر تمامًا في قيامه بها خيرها وشرّها، مستحق على ما يفعله ثوابًا أو عقابًا في الدار الآخرة.
رابعًا: خلق القران: يرى المعتزلة أنّ القرآن الكريم هو كلام الله عز وجل، مخلوق له وليس بقديم، وأن وصفه بالقدم فيه إثبات أن مع الله تعالى قديمًا آخر، على اعتبار أن الله هو الوحيد القديم الأزلي، ولم يكن معه أحد قبل بدء الخليقة.
ويقولون إن المسلمين الذين يعتقدون أن القرآن الكريم هو كلام الله الأزلي، وليس مخلوقًا من مخلوقات الله – حيث إن كل ما عدا الله فهو مخلوق -، لا يختلفون كثيرًا عن المسيحيين، الذين يقولون إن المسيح هو كلمة الله المنبثقة من الأب منذ الأزل، وذلك مما لا يتفق مع تصورهم للتوحيد الذي يعد حجر الأساس في العقيدة الإسلامية.
ولتوضيح ما يقع من لبس في كثير من الأحيان حول مصطلح “خلق القرآن”، فهذا المصطلح يعني ببساطة أن القرآن محدث أي حديث وليس قديم وأزلي، حيث لم يسبق له وجود قبل أن أنزل بواسطة الوحي على النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – فالخلق في لغة العرب يأتي بمعنى الإحداث، فنقول مثلًا خلق فعله: أي قام به وأداه بنفسه، وهنا يأتي مصطلح “القرآن مخلوق” بمعنى أنه محدث.
خامسًا: أنكروا شفاعة النبي – صلى الله عليه وسلم – لأهل الكبائر من أمته، ورفضوا فكرة أن الله سيتجاوز عن المعاصي والكبائر التي يرتكبها الإنسان كالقتل والسرقة والزنا… إلخ، وأنكروا كرامات الأولياء، وقالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لأشتبه الولي بالنبي!
سادسًا: نتيجةً لإمعان العقل عندهم، كان الإمام المعتزلي عبد الرحمن بن كيسان يقول في معرض رده على آراء لفقهاء آخرين: “إن دية المرأة كديّة الرجل، وإن نكاح الصغار لا يجوز”، وأيضًا كان الإمام ثمامة بن الأشرس لا يجيز السبي، ويستشهد بالآية “فإما منا بعد وإما فداء” أي أن تمن عليهم بإطلاقهم، أو تفتديهم بأسرى لك.
كما اتّفقوا على نفي رؤية الله بالأبصار في الجنة، ونفي التشبيه عنه من كلّ وجه، وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، مؤسسين كلامهم هذا على قوله تعالى: “لا تدركه الأبصار”، ومؤولين الآية الكريمة: “وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة” أي أن النظر جاء هنا بمعنى الانتظار، فالمؤمنون ينتظرون الوعد الذي وعدهم الله به في الآخرة، وليس بمعنى النظر البصري كما ذهب خصومهم.
وكان إبراهيم النظّام، أستاذ الجاحظ وأحد أكبر مفكري المعتزلة، وأصحابه “وهم من أكابر المعتزلة” ينكرون حد الرجم، كما أنكر أبو مسلم الأصفهاني النسخ في القرآن، وعن الإجماع يقول النظّام: “إن الإجماع ليس بحجة في الشرع، وكذلك القياس في الأحكام الشرعية لا يجوز أن يكون حجة”.
وفي إعلاء شأن المرأة، يقول الجاحظ: “ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين، أو بأكثر، ولكنا رأينا ناسًا يزرون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن، وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال، فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن”، وكذلك فقد قال الفقيهان المعتزليان أبو بكر الأصم وابن علية: “إن دية المرأة مثل دية الرجل”.
وللاستزادة حول أفكار وآراء مفكري وأشخاص المذهب، أنصح بقراءة كتابيّ “المعتزلة” و”معتزلة البصرة وبغداد” لرشيد الخيّون، وكتاب “القرآن والفلسفة” لمحمد يوسف موسى.
إبراهيم النظّام
في معرض حديثنا عن مفكري المعتزلة، رأينا أن نسلّط الضوء على أحد الشخصيات البارزة آنذاك، والتي كان لها دور كبير جدًا في بلورة وتطوير الأفكار الاعتزالية، وهو الإمام الكبير: أبو إسحق “إبراهيم بن سيّار النظّام”، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ ميلاده ووفاته والأرجح أنه عاش بين (140-210) هجريًا، وفيما يخص كتبه ومؤلفاته، فقد كان غزير الإنتاج إلا أنه وللأسف فقد استطاع أهل الحديث إتلاف كل مؤلفاته، ويذكر الأشعري بعض كتبه، ومنها “كتاب الجزء، كتاب العالم، كتاب الحركة، كتاب التوحيد”.
ويعد من أكبر شخصيات المعتزلة، ويقول عنه أحمد أمين في كتاب ضحى الإسلام: “وقد كان المعتزلة بعده عيال عليه”، ويقول تلميذه الجاحظ واصفًا إياه: “الأوائل يقولون: في كل ألف سنة رجل لا نظير له! فإن كان ذلك صحيحًا فهو أبو إسحق النظّام”، أمّا المستشرق هورتن فيقول “النظّام أعظم مفكري زمانه تأثيرًا بين أهل الإسلام، وهو في الوقت نفسه أول من يمثل الأفكار اليونانية تمثيلًا واضحًا.”
وقد يثور فضول القارئ، لمدى احتفاء جل من يكتب أو يقرأ عن المعتزلة بهذا الرجل، ولماذا يتم تقديمه بهذا الشكل من الإكبار والإجلال؟ وللإجابة على ذلك، سأقوم بسرد بعض أفكار هذا الرجل الذي كان وبحق سابقًا لزمانه بمراحل طويلة!
بدايةً لقد كان النظّام يؤسس لأمرين، هما: الشكّ والتجربة، حيث يقول: “الشاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط، حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره، حتى يكون بينهما حال الشك”، وفي التجربة فقد استخدم المنهج التجريبي للتعرف على الحقائق، ومن ظريف تجاربه، نذكر تجربة له قام بها لمعرفة أثر الخمر على الحيوانات حيث سقى بعض الحيوانات الخمر، وسجّل ملاحظاته عن ذلك، ومن ملاحظاته أن الظبي كان أكثر الحيوانات تأثرًا بالخمر!
ومما تمخّض عن منهجه في الشك والتجربة وإعمال العقل في التفكير والتأمل والملاحظة، أن كانت له أفكارًا رائدة، سبق بها كثيرًا من العلماء والمفكرين، حيث سبق “لافوازيه” في حفظ المادة، و”مندلييف” في مصونية المادة، وسبق ديكارت في مدرسة الشك، ومن هذه الأفكار:
1. في حفظ المادة يقول: “إن نار المصباح لم تأكل شيئًا من الدهن ولم تشربه، وأن النار لا تأكل ولا تشرب ولكن الدهن ينقص على قدر ما يخرج منه من الدخان والنار الكامنين، اللذين كانا فيه، وإذا خرج كل شيء فهو بطلانه”. (من كتاب الحيوان للجاحظ، ج 5).
2. وعن الطعوم والروائح يقول: “أما الطعوم والروائح وما إليها فهي أجسام لطيفة” (من كتاب الملل والنحل، للشهرستاني، ج1)، وهو ما نعرفه اليوم من أنها أجسام مادية أي جزيئات.
3. في تفسيره لدورة المياه: “ثم تعود تلك الأمواه (المياه) سيولًا تطلب الحدور (الحدور: مكان ينحدر فيه، المنحدر)، وتطلب القرار، وتجري في أعماق الأرض، حتى تصير إلى ذلك الهواء، فليس يضيع من الماء شيء، ولا يبطل منه شيء، والأعيان قائمة، وكأنه منجنون (الدولاب التي يسقى عليها) غرف من بحر وصبّ في جدول يفيض إلى ذلك النهر” (من كتاب الحيوان للجاحظ، ج 5).
4. وعن الغلاف الغازي والضغط الجوي يقول: “لأمر ما، حصر الهواء في جوف هذا الفلك، ولا بد لكل محصور من أن يكون تقلبه وضغطه على قدر الحصار، وكذلك الماء إذا اختنق” (من كتاب الحيوان للجاحظ، ج 5).
5. وعن النظام السياسي في الدولة، والعقد الاجتماعي: “الكلام في طرق الإمامة وقد اختلف فيه … وعند المعتزلة أنه العقد والاختيار” (شرح الأصول الخمسة 754).
6. وعن الصوت يقول: “الكلام جسم لطيف منبعث من المتكلم، ويقرع أجزاء الهواء، فيتموج الهواء بحركته، ويتشكل بشكله، ثم يقرع العصب المفروش في الأذن، فيتشكل العصب بشكله، ثم يصل الخيال، فيعرض على الفكر العقلي، فيفهم” (الشهرستاني)، وفي معرض آخر يقول: “لا بد في السمع من وصول الهواء الحامل للصوت إلى الصماخ (قناة الأذن)، وإلا فإن الصوت لا يسمع.”
7. أما وفي تفسير القرآن: فقد كانت له طريقته الخاصة، وهي تقوم على أصول تتضح فيها الروح الفلسفية لديه، ويمكن استخلاصها من جملة ما وصل إلينا عن النظّام في ذلك، ومن أهمها:
- عدم البعد في التأويل عن المعنى الذي تدل عليه الألفاظ بحسب عادة العرب في تعبيرهم.
- ترك التكلّف والجري وراء الغريب من التأويل.
- محاولة الوصول إلى معنى الألفاظ بشكل كلي إجمالي؛ ولذلك لم يكن يعجبه صنيع من يحاول أن يجد للّفظ الواحد معان بمقدار تكرره في الآيات.
- محاولة تبيين معاني القرآن وما فيها من أحكام ودلالة عقلية منطقية وحجة خفية.
والكثير الكثير من الإبداعات والآراء المميزة التي انفرد بها هذا الرجل وتميز بها عن كثير من معاصريه آنذاك، ولا يكفي المقام هنا لسردها بالتفصيل، ولكن للاستزادة حول هذا الأمر أنصح بقراءة كتاب “إبراهيم النظّام وآراؤه الكلامية الفلسفية” لمحمد عبد الهادي أبو ريدة.
الأصول الخمسة لعقيدة المعتزلة
1. التوحيد: ويقصدون به إثبات وحدانية الله ونفي المثل والشبيه عنه، وقالوا إن صفاته هي عين ذاته فهو عالم بذاته قادر بذاته وليس بصفات زائدة عن الذات، وأنه لا جسم، ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا دم ولا لحم ولا جوهر ولا عرض… إلخ.
2. العدل: أساس هذا الأصل هو فكرة الحرية والاختيار، أي مسؤولية الإنسان عن أفعاله، ومناهضة فكرة الجبر التي تجرد الإنسان من إرادته الحرة، حيث رأوا أن الحكام الظلمة استغلوا فكرة الجبر، فكانوا يظلمون ويقتلون متذرعين بأن الله هو من كتب لهم ذلك وفرضه عليهم (قضاءً وقدرًا)، فمن هنا وقف المعتزلة ينكرون فكرة الجبر ويؤكدون على أن الله عادل وصفة العدل تقتضي أن لا يؤاخذ الفرد بجريمة اضطر لفعلها، ونفوا أي شائبة أو شر أو ضرر من الله، حيث أكدوا على أن الله لا يصنع الشر ولا يريده، ومن جانب آخر يؤكدون على حرية الفرد المطلقة في خلق أفعاله، أي القيام بها بملء إرادته إن خيرًا وإن شرًا، ويقصدون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة.
3. المنزلة بين المنزلتين: يعتقد المعتزلة أن مرتكب الكبيرة في الدنيا لا يسمى مؤمنًا ولا يسمى كافرًا، بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصرًا على فسقه كان من المخلّدين في عذاب جهنم.
4. الوعد والوعيد: ويقصدون به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحدًا منهم من النار فهم مخلّدون فيها، وأن ما وعد الله به عباده المؤمنين فإنه سيحققه لهم لا محالة، فالوعد بالثواب، والوعيد بالعقاب لا يمكن أن يتخلّفا، وكل امرئ بما كسب رهين.
5. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يوجبون بمقتضاه الخروج على الأئمة والخلفاء وولاة الأمر إذا ارتكبوا الكبائر وأساؤوا في حكمهم إلى الشعب، وإن كانوا مؤمنين، وهذا الأصل عندهم من فروض الكفاية.
تبنّي السلطة لمذهب المعتزلة ثم انقلابها عليه
ازدهر مذهب المعتزلة بسبب تعاملها الإيجابي مع الفكر البشري، خاصة الفلسفة اليونانية، عندما نشطت الترجمة في عهد المنصور وبلغت ذروة ازدهارها في عهد المأمون الذي كان معتزليًا (188-218) هجريًا، وأصبح الاعتزال المذهب الرسمي للدولة وبعد المأمون جاء المعتصم فالواثق وقد تبنيا مذهب المعتزلة.
وبعد وفاة الواثق تولى المتوكل الخلافة، ثم انقلب على مذهب الدولة، فأظهر الميل إلى “أهل الحديث” وأقال رجال الدولة من المعتزلة وكتب بذلك إلى الأمصار، وقتل قاضي القضاة في مصر “أبي الليث.”
وقد كان انقلاب المتوكل على المعتزلة قد أورث الدولة سلسلة انقلابات، وأصبح المذهب خارج سياق الصراع، وانتقل من السياسة إلى الأيديولوجيا، وتعرض المعتزلة للقتل والسجن من قبل القوى الثلاث “السلطة والأشاعرة وأهل الحديث” وأحرقت كتبهم وحوربت أفكارهم ووصفوا بالزندقة والكفر.
ولم يعد للمعتزلة في أيامنا أي وجود كفرقة دينية أو مذهب إسلامي مستقل، وهذا لا يعني انعدام الفكر الاعتزالي نهائيًا من عقول المسلمين، فنحن نرى ميولًا في بعض أوساط المثقفين نحو المنهج العقلي الذي يتميز به المعتزلة، ولكن يا ترى هل سيكون لتبني ثلة واسعة من المثقفين لمنهج المعتزلة دورًا في إعادة بعث أفكار وقيم ومنهجية المذهب من جديد؟ فلنترك الإجابة للزمان.
ومما قاله الأستاذ أحمد أمين عن المعتزلة: “كان للمعتزلة منهج خاص أشبه ما يكون بمنهج من يسميهم الفرنج العقليين، عمادهم: الشك أولًا والتجربة ثانيًا، والحكم أخيرًا“. ويقول عن نظريتهم في الحرية: “وقالت المعتزلة بحرية الإرادة وغلوا فيها أمام قوم سلبوا الإنسان إرادته حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح“، وفي حق “النظّام” يقول: “أمّا ناحيته العقلية ففيها الركنان الأساسيّان اللّذان سبّبا النهضة الحديثة في أوروبا وهما: الشكّ والتجربة“، ويقول حول توحيد المعتزلة وتنزيههم: “وقد كانت نظرتهم في توحيد الله نظرة في غاية السموّ والرفعة، فطبّقوا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء) أبدع تطبيق، وفصّلوه خير تفصيل، وحاربوا الأنظار الوضعيّة من مثل أنظار الّذين جعلوا الله تعالى جسمًا.”
بعد تكفير المعتزلة وإقصائهم، برز وانتعش الفكر المضاد عند الإمام أحمد بن حنبل على فكرة “الاعتقاد بعجز العقل” وتم تقدم النقل على العقل، واعتماد كتاب “الرسالة للشافعي” كمصدر أول للفقه، وأصبح الحديث وحي ثان يليه القياس ثم الإجماع، وانشغل أهل الحديث في بحث الأسانيد، حتى جاء “البخاري ومسلم” وجمعا أصح الأحاديث المنسوبة للنبي بناءً على سند الرواة وليس بناء على نص الحديث، وتناقلت الأمة هذه الكتب بلا تعقل، وبما أن النقل أصبح مقدمًا على العقل، فقد تحوّل كل ما جمع في هذه الكتب إلى دين يتعبد به وعقيدة راسخة، حتى وإن كانت تتعارض مع القرآن ومع العقل.
وفي الختام فلنتأمل، كيف سيكون حالنا اليوم لو أن منهج المعتزلة العقلي في الشك والتجربة والبحث والتحقق قد كتب له البقاء والاستمرار إلى يومنا هذا؟