“المعجزة” و”مصر بتفرح” و”محلاك يا مصر” و”مصر تصنع التاريخ” و”رئيسنا ملاح ومعدينا” و”مصر تتحدث عن نفسها” و”هدية أم الدنيا لكل الدنيا”، بهذه المانشيتات التي تصدرت الصحف المصرية صبيحة يوم السادس من أغسطس 2015، استقبل المصريون خبر افتتاح الممر الملاحي الجديد لقناة السويس بفرحة عارمة، وعقدت الآمال، وبنيت الأحلام، ونسجت خيوط الأمنيات، وارتفع منسوب الطموحات لدى المواطن بصورة لم يسبق لها مثيل.
فها هو الحلم قد تحقق، وها هي الحياة الكريمة تطرق أبواب المقهورين من أبناء هذا الشعب، فمنذ اليوم لن يصبح هناك بأرض الكنانة فقير ولا محتاج، لاسيما وقد نجح الإعلام المصري في الحصول على جائزة الأوسكار في “غسيل مخ” المواطنين، بعدما استطاع – وبجداره – تخدير المواطنين بمسكنات الحلم، مستغلاً تعطشه لبصيص أمل في حياة أفضل ليعزف على هذا الوتر تمجيدًا لشخص عبدالفتاح السيسي الذي قدمه الإعلام حينها بـ “الملاح الذي سيعبر بمصر إلى قاطرة التقدم والتنمية”.
وبعد مرور عام على هذا المشروع “المعجزة” الذي عزف فيه المصريون أجمل سيمفونية للعالم بتبرعه بـ “64” مليار جنيه بما يعادل حينها “8.2”مليار دولار، في أقل من أسبوع، لبناء هذا الصرح التاريخي، يبقى السؤال: هل لبّى الممر الملاحي الجديد لقناة السويس أحلام المصريين؟ وهل وجد المقهورون من أبناء هذا الشعب ضالتهم في حياة أفضل وعيشة كريمة بعد إتمام هذا الكيان التاريخي كما عزفت أبواق الإعلام؟ وهل كان رفع الروح المعنوية للشعب تساوي وحدها حجم ما أنفق في هذا المشروع وتروي ظمأ المتعطشين لحياة أفضل؟
8.2 مليار دولار: أين ذهبوا؟
بالرغم من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي كانت تعاني منها مصر – ولازالت – خلال العام الماضي، ومدى حاجتها القصوى للدعم من أجل تمويل مشروعاتها الصغيرة والقومية القادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، في ظل تراجع مستوى المعيشة، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة نسبة البطالة، وتردي منظومة الخدمات الصحية، فضلاً عن تراجع الاحتياطي النقدي نتيجة انخفاض عائدات السياحة والمصريين بالخارج، كذلك هروب المستثمرين من مصر، إلا أن كل هذا لم يثن الحكومة المصرية عن قرارها في المضي قدمًا نحو بناء ممر ملاحي جديد لقناة السويس.
دراسات الجدوى المعدة أكدت عدم جدوى هذا الممر في الوقت الراهن لاسيما بعد الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم أجمع، مما ينعكس سلبًا على حركة التجارة العالمية في قناة السويس، ومع ذلك أصر الرئيس المصري على تقديم “هديته” للعالم بتوسعة الممر الملاحي الأهم في العالم مهما كان الثمن.
وبالفعل بدأ الإعلام “المطبل” التسويق الجيد لهذا المشروع بصورة رفعت سقف طموحات وأحلام المواطنين بدرجة غير متوقعة، إلى الحد الذي توهم فيه البعض أن مصر ستصبح خلال عام واحد فقط أفضل من اليابان ودول أوروبا، وهو ما دفع المواطنين إلى بذل الغالي والنفيس لإتمام هذا المشروع من خلال شهادات استثمار بفوائد 12% ليجمع المصريون “8.2”مليار دولار في أقل من ثمانية أيام.
وبحسب تصريح لمصدر ملاحي بهيئة قناة السويس، أكد خلاله أن التكلفة التقديرية للممر الملاحي الجديد بلغت 8.2 مليار دولار، أي ما يعادل 64 مليار جنيه، فضلاً عما يقرب من 1.2مليار دولار قروض من البنوك لإتمام المخطط الإجمالي للممر، والذي يبلغ طوله 72 كيلومترًا، ويشمل حفر المجرى الملاحي الجديد بطول 35 كيلومترًا وبعمق 24 مترًا وعرض 320 مترًا، وبغاطس 66 قدمًا، بالإضافة إلى توسيع وتعميق مناطق التفريعات الغربية الحالية بطول إجمالي يبلغ 37 كيلومترًا وبعمق 24 مترًا بغاطس 66 قدمًا.
وفي حفل أسطوري حضره زعماء بعض دول العالم، وممثلين عن طوائف الشعب المصري المختلفة، استقل السيسي يخت “المحروسة” ليقدم نفسه للعالم بثوب جديد، في محاولة لكسب المزيد من الدعم لنظامه السياسي، خاصة بعد الجدل المثار حول شرعية وجوده عقب الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو2013.
وتغنى المصريون ليل نهار، وعزف الإعلام على أوتار الأماني والأحلام، واستعرض الخبراء والمحللون عضلاتهم على شاشات الفضائيات للصورة التي ستكون عليها مصر مع أول يوم لها بعد تقديم هديتها للعالم، وعلى عكس العادة بات الخبر الرئيسي في معظم الصحف والفضائيات حول عدد السفن المارة من الممر الملاحي الجديد وذلك في تصريحات رسمية من رئيس هيئة القناة الفريق إيهاب مميش، ليرتفع معها منسوب أحلام المواطن، لاسيما بعد تصريحات السيسي من أن بلاده قد استرجعت كلفة إنشاء الممر الجديد في أسبوع واحد فقط، حين قال خلال ندوة نظمها الجيش المصري: “إذا كان على الـ 20 مليار اللي إحنا دفعناهم، إحنا جبناهم تاني”، كذلك ما وعد به مميش بتحقيق إيرادات ثانوية بنحو 13.3 مليار دولار حتى 2030، بمعدل نمو اقتصادي عالمي 10%، وفجأة ومع أول شهر من افتتاح هذا الصرح الكبير، الإيرادات تتراجع، الرسوم تنخفض، الأحلام تتبخر، فماذا حدث؟
تراجع الإيرادات: مسؤولية من؟
أكثر المتشائمين ما كان يتوقع تراجع إيرادات قناة السويس بهذه الصورة الملحوظة بعد أقل من شهر واحد من افتتاح الممر الجديد الذي زاد في توسعتها بصورة معقولة، ففي تقرير صادم للبنك المركزي المصري عن إيرادات قناة السويس الجديد خلال هذا العام، كشف عن تراجع ملحوظ في الإيرادات للعام المالي الثاني على التوالي، برغم إنفاق 8.2 مليار دولار على التوسعات الجديدة للقناة، لرفع إيراداتها.
البنك أكد في تقريره الصادر نهاية إبريل الماضي، أن رسوم مرور السفن عبر قناة السويس، تراجعت بما يقارب 2.1 مليار دولار، خلال النصف الأول من العام المالي الجاري (2015 – 2016)، لتحقق ما يزيد على 2.646 مليار دولار، مقارنةً بإيرادات تجاوزت 2.857 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام السابق، كما توقعت موازنة الهيئة العامة للقناة ارتفاع جملة التكاليف والمصروفات الخاصة بها خلال العام المالي الجديد 2016-2017 بنحو 30% لتبلغ 32 مليار جنيه بدلاً من 24.6 مليار جنيه خلال العام المالي الماضي.
كما أن تراجع معدلات التجارة العالمية دفع هيئة قناة السويس إلى تخفيض رسوم المرور بها أسوة بما حدث في قناة بنما وغيرها، وهو ما ساهم في تراجع إيرادات القناة بصورة ملحوظة، ففي مايو الماضي، خفضت القناة رسوم المرور بنحو 30% لسفن الحاويات القادمة من ميناء نيويورك والموانئ الواقعة جنوبه العابرة إلى موانئ جنوب شرق أسيا “ميناء بورت كيلانج والموانئ الواقعة شرقه”، ثم عاودت التخفيض في نفس الشهر بنسبة 68%، ليشمل السفن الوافدة من موانئ الساحل الشرقي الأمريكي والمتجهة لموانئ منطقتي جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا، بعد تراجع عدد السفن المارة في القناة، وهو ما أشار إليه تقرير صندوق النقد الذي خفض فيه توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي ليصل إلى 3.1% و3.6% خلال 2015 و2016 على التوالي، وأيضًا وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني، التي ذكرت أن مضاعفة إيرادات قناة السويس تعتمد على فرضية الانتعاش الحاد في التجارة العالمية، ومضاعفة عدد السفن التي تعبر القناة إلى 97 يوميًا مقابل 50 تقريبًا في الوقت الحالي، الأمر الذي تستبعد الوكالة تحققه بسرعة.
وبالرغم من تحذير الخبراء والمحللين من الآثار الناجمة عن عدد من العوامل الخارجية في تراجع إيرادات القناة، ومنها انخفاض أسعار البترول، إضافة إلى تحويل 320 سفينة عالمية مسار رحلتها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، فضلاً عن تراجع معدلات التجارة العالمية والتي تبلغ قيمتها نحو 12 تريليون دولار، بنسبة 1.8% مما يعني خسائر فادحة في إيرادات القناة، لكنه لم يؤخذ بهذه التحذيرات، وهو ما تسبب في هذه الأزمة.
وفي قراءة سريعة لإيرادات قناة السويس منذ افتتاح ممرها التوسعي الجديد، يمكن القول أن الحديث عن طفرة في الإيرادات وانتعاش لخزينة الدولة من دولارات القناة أحلام بعيدة المنال، إن لم يصاحبها عدة استراتيجيات ممنهجة للنهوض بالقناة، بما يؤهلها لمنافسة موانئ عالمية أخرى، فقط إن توفرت الإرادة السياسية.
سبتمبر2015: وبعد شهر واحد فقط من افتتاح الممر الجديد، بلغت إيرادات القناة 448.8 مليون دولار، مقابل 462.1 مليون دولار في أغسطس، بتراجع قدرة 13.3 مليون دولار بسبب انخفاض عدد السفن المارة في سبتمبر إلى 1515 سفينة من 1585 سفينة فى الشهر السابق، وحين تقارن بنفس الشهر من العام الماضي 2014، فهناك تراجع بمعدل 4.6% مقابل 469.7 مليون دولار في سبتمبر من العام الماضي.
أكتوبر 2015: تراجعت إيرادات القناة بنحو 33.1 مليون دولار، محققة 449.2 مليون دولار، بتراجع نسبته 6.7%، مقارنة بنحو 482.3 مليون دولار في أكتوبر 2014. وبلغ عدد السفن المارة بقناة السويس خلال أكتوبر الماضي 1500 سفينة وبمتوسط 50 سفينة يوميًا وبنسبة تراجع 3.7%، مقارنة بأكتوبر 2014، الذي سجل مرور 1558 سفينة من القناة.
نوفمبر 2015: تراجعت إيرادات القناة إلى 408.4 مليون دولار، مقارنةً بـ449.2 مليون دولار في أكتوبر، مسجلةً بذلك أدنى مستوياتها منذ فبراير الماضي، عندما بلغت 382 مليون جنيه، كما تراجعت أعدد السفن المارة في نوفمبر إلى 1401 سفينة، من 1500 سفينة في أكتوبر.
يناير2016: بلغت قيمة إيرادات القناة 411.8 مليون جنيه، بتراجع قيمته 23 مليون جنيه، بنسبة 5.2%، كما تراجع عدد السفن المارة في القناة بصورة ملحوظة، وهي أول مرة يتم حساب إيرادات القناة فيها بالجنيه المصري.
فبراير2016: بلغت إيرادات القناة 3 مليارات و108 ملايين جنيه، بزيادة قدرها 370 مليون جنيه عن شهر يناير الماضي، وبنسبة 11.8%، نتيجة تزايد أعداد السفن المارة خلال الربع الأول من هذا العام.
مارس2016: بلغت الإيرادات 3 مليارات و477 مليون جنيه مقارنة بـ 3 مليارات و108 ملايين جنيه في فبراير من نفس العام، وأشارت تقارير ملاحية، إلى أن قناة السويس شهدت خلال شهر مارس عبور 1454 سفينة بحمولة 80 مليونًا و495 ألف طن، مقابل 1437 سفينة في مارس 2015 بحمولة 82 مليونًا و528 ألف طن.
وبالمجمل يمكن القول أن إيرادات قناة السويس بعد إضافة ممرها الجديد، بلغت خلال هذا العام 2.6 مليار دولار، بما يعني خسارة قدرها 120مليون دولار، بما يساوي مليار جنيه مصري، مقارنة بالعام الماضي، إضافة إلى عدم تحقيق الوعود التي تعهد بها رئيس هيئة قناة السويس مع مرور أول عام من افتتاح الممر الجديد والتي بلغت حسب تصريحاته 13.3مليار دولار.
بعد مرور عام: هل وجد الشعب ضالته؟
ها هو العام الأول لافتتاح الممر الجديد يلملم أوراقه معلنًا الرحيل ليترك أرقامًا وإحصائيات حولت الحلم إلى كابوس، والأمل إلى واقع مر، فهل وجد المصريون ما وعدهم رئيسهم وحكومته حقًا؟ وماذا جنت مصر من هذا المشروع في هذا التوقيت بالذات؟
السيسي نفسه أعلن أن الهدف من هذا المشروع في حينه كان رفع الروح المعنوية للمواطن المصري بعد سلسلة الإخفاقات التي عانى منها خلال الفترة السابقة، لكن لا شك أن هذه الخطوة في حينها ساهمت بشكل كبير في تقديمه للعالم بشكل مميز، حقق من خلالها العديد من المكاسب السياسية على المستوى الدولي لإضفاء المزيد من الشرعية على نظامه الحاكم، لكن هل شرعية السيسي ونظامه تستدعي خداع الشعب والعزف على وتر فقره وتعطشه لحياة أفضل ليساقوا عبر أبواق الإعلام المضلل إلى التبرع بـ “64” مليار جنيه في الوقت الذي كان المواطن فيه في أمسّ الحاجة للقليل من العيش؟