رأينا أعدادًا لم تكن قليلة لرفض سياسات النظام القائم؛ وفي اليوم التالي خرج الفريق السيسي ببيان يهدد فيه بانقلاب على الرئيس. إلا أن رد فعل الرئيس لم يكن على قدر مستوى التهديد الجدي بالانقلاب.
وحدث الانقلاب – بالفعل – ليلة الثالث من يوليو عقب بيان الدكتور مرسي؛ وأًعلِـن مساء الثالث من يوليو في حضور عدد من القوى المدنية ..!
درس التاريخ:
قال المهندس خيرت الشاطر في حواره مع جريدة الشروق في 2011: ” نتخوف من أن يؤدي وجودنا على رأس السلطة إلى أن يغير الجيش موقفه ونكون السبب المباشر في قتل الحياة الديمقراطية في مصر، والمؤسسة العسكرية قالت إنهم سعداء بعدم ترشيح أحد منا للرئاسة، والبلد واقعة؛ ولا يمكن لفصيل واحد أن يتحمل المسئولية بمفرده، والإخوان تعلموا من درس الجزائر وغزة بسبب الوصول السريع للسلطة. ولن نعيد الكرة في مصر، وهناك تخوف كبير منا ولا يمكن أن ننظر تحت أقدامنا ونبحث عن مصلحة الجماعة فقط حتى نصل للحكم. ” [1]
أما وأن رئيس البلاد أصبح من الجماعة فلا داعي للحديث عن الماضي … ولكن بعد وصول الدكتور مرسي إلى سدة الحكم لم يكن قادرًا – فعلًا – على إدارة شئون البلاد؛ وكان من الممكن تدارك خطأ الجماعة بدعوة الرئيس لانتخابات رئاسية مبكرة؛ وقد دعاه إلى ذلك رموز تدافع عن شرعيته في الوقت الراهن ( كالكاتب محمد القدوسي )[2]. إلا أن سياسة الجماعة – في مصر – لا تعرف التنازلات .. !
وبالنظر للتاريخ القريب نجد أن بعض التنازل قد يعطي فرصة لنجاح في المستقبل؛ فكما كان يعلمنا الإخوان وقت الانتخابات النيابة أنه ” قد نرجع خطوة للخلف؛ مقابل التقدم خطوتين للأمام ” … فعلى سبيل المثال؛ عندما انقلب الجيش التركي على عدنان مندريس أول رئيس وزراء تركي منتخب ديموقراطيًا إسلاميّ التوجه … فما كان من أنصاره إلا قبول الأمر الواقع؛ واندمجوا في الحياة السياسية ما بعد مندريس؛ حتى ظهر نجم الدين أربكان الذي رأس وزراء تركيا … وعند الانقلاب عليه انقلابًا أبيض تقبل الأمر ودخل السجن وأسس حزبًا جديدًا ودخل انتخابات بعدها حتى مات وهو مطاح به من قِبل الجيش؛ وبعد ذلك … تعامل إخوان تركيا بسياسة الوصول لرأس الهرم من أسفله؛ فرجب طيب أردوغان كان عمدة أسنطبول قبل تولي رئاسة الوزراء؛ ثم وصل إلى رأس السلطة في تركيا ديموقراطيًا.
فالشاهد أن تعامل السلطة في مصر قبيل انقلاب الثالث من يوليو لم يكن على درجة عالية من الحرفية أو حتى حسن تقدير الأمور … والحالة المصرية أرقى من الحالة التركية؛ ففي مصر سمح الجيش للرئيس بإجراء استفتاء على بقائه من عدمه؛ أما في تركيا انقلب الجيش على القادة السياسية دون ترك اختيار لهم.
إعلان انقلاب الثالث من يوليو:
من المعلوم أن إعلان الانقلاب في مصر كان بحضور عدد من القوى المدنية؛ وقد دُعي لحضور اللقاء الدكتور سعد الكتاتني ولكنه لم يحضر نتيجة عناد الإخوان المعروف؛ ولكن حساب القوى يستلزم التقديم والتأخير حسب تجدد
الأوضاع. وكان ممن ظهر وقت إلقاء البيان؛ المهندس جلال المُرة أمين حزب النور … وهنا قد نعذر الحزب الذي وافق على أمر قد لا يرتضيه نتيجة ما ذكرنا من ضرورة تقديم التنازلات أحيانًا؛ ولكن هنا لا يمكن أن نتغافل كرهًا موروثـًا بين الإخوان والسلفيين كان دافعًا لاستعداد السلفيين قبول ضغوط العسكر .. !
مذبحة الحرس الجمهوري .. وعد ووعيد:
وقعت مذبحة الحرس الجمهوري صبيحة الثامن من يوليو لتكون وعيدًا للإخوان بأن فضوا اعتصاماتكم؛ كانت رسالة موجهة للإخوان مفادها أن المؤسسة العسكرية لم تعد طرفًا حياديًا بعد اليوم؛ وأن استمرار الاعتصامات لن تزيد جماعة الإخوان إلا حصادًا لأرواح أبنائها … لكن الجماعة استمرت في طريقها لاتخاذها القرار المسبق بانتهاج الطريق الثوري ورفض كل المفاوضات والمبادرات التي لا تتضمن عودة الرئيس مرسي.
وبالتأكيد هذا خيار صعب؛ أن تختار بين تجنب سفك الدماء وتتنازل عن حقوقك؛ وبين التضحية مقابل اتخاذ حقوقك كاملة … والإخوان كجماعة إصلاحية محافظة تُوقِع لها أن تختار الخيار الثاني؛ إلا أن كون الرئيس المنقلب عليه كان عضوًا منها جعلها تراهن على استمرار الحراك الثوري .. أو لمعرفتها خطأها في مواقف سابقة كمحمد محمود مثلًا.
أما الوعد فكان من حزب النور الذي قال رئيسه تعقيبًا على المذبحة:” قرر حزب النور انسحابه الكامل من المشاركة السياسية فيما يسمى خارطة الطريق التي أعلنها الفريق عبد الفتاح السيسي وكذلك وقف التعامل مع المستشار عدلي منصور- رئيس المحكمة الدستورية العليا – كرئيس مؤقت للجمهورية. ” [3] وقد كان قرارًا مُوفـَّـقـًا كرد فعل على المذبحة.
إلا أن الحزب لم يلتزم بقراره حتى. فلقد وافق الحزب على دخول لجنة الخمسين فيما بعد .. !
والعجيب أن حزبًا بحجم حزب النور – ثاني أكبر حزب مصري حسب انتخابات مجلسي الشعب والشورى – لا يلتزم بقراراته؛ خاصة في مثل تلك المواقف .. !
الأحزاب أم أحد ؟؟!!
بهذا الاستفهام عنون الدكتور راغب السرجاني مقاله في الحادي والعشرين من يوليو – الذي قارن فيه بين موقفي النبي – صلى الله عليه وسلم – في غزوتي الأحزاب وأحد.
وجاء في آخر المقال: ” ولعله من المهم جدًا أن ندرك أن انسحاب الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن معناه أنه تخلى عن نصرة الحق، أو أنه شك في كون الحق معه أو مع عدوه، ولكن كل ما في الأمر أنه وجد أن انسحابه الآن سيكون أحفظ للحق بحفاظه على بعض المؤمنين الذين يمكن أن يعيدوا الكـَرَّة مرة أخرى في المستقبل في ظروف أفضل، فلم يكن الأمر إذن هروبًا من الميدان، ولكن كان تحرفًا لقتال، وتحيزًا إلى فئة. ويبقى السؤال الذي يجب أن تجيب عنه الحركة الإسلامية بمنتهى الوضوح والشفافية:
هل نحن في الأحزاب فنثبت حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً؟
أم نحن في أحد فننسحب ونـُهدِّئ من الأمور، ونتحمل النتائج الصعبة لأننا كنا السبب فيها، ونفتش عن أمراضنا القلبية ونعالجها، ثم نعيد الكرَّة مرة أخرى على منهاج النبوة؟
المسألة في رأيي اجتهادية، وإجابة هذا السؤال هي التي ستحدد المسار، وهذا لا يحتاج إلى علم فقط، بل يحتاج كذلك إلى ورع وتقوى وقدرة على تحمل المسئولية، وشجاعة في اتخاذ القرار المناسب ولو كان شديد المرارة. ” [4] ا.هـ
والتاريخ يخبرنا أن الانسحاب في عهد النبوة لم يقتصر على غزوة أحد فقط؛ فغزوة مؤتة كانت أبلغ من غزوة أحد. فخالد بن الوليد لما رأى جيشه ينهزم قرر الانسحاب؛ واستقبله أطفال المدينة بإلقاء الحجارة وهتافاتهم ” يا فرار يا فرار “؛ فدافع الرسول – صلى الله عليه وسلم – عنه وقال ” بل هم الكرار إن شاء الله “؛ ففي بعض الأحيان يكون الانسحاب هو الاختيار الأنسب كما ذكرنا في تركيا.
ولكن الإخوان – مرة أخرى – استمروا في اعتصامهم .. وحتى إن صحت الأخبار أن العسكر وافق على بعض شروط تحالف دعم الشرعية دون عودة الدكتور مرسي ولكن التحالف رفض؛ فهذا يدل على عناد منهم؛ لأنه من المنطقي عدم عودة الحال إلى ما قبل الثالث من يوليو – وهذا ما يسعى إليه التحالف في الوقت الراهن -.
وكان على الإخوان آنذاك أن تقرأ التاريخ؛ فأشبه حالة بالحالة المصرية كانت الجزائر … ففي أعقاب انقلاب عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين؛ قرر مناصرو ” الشرعية ” الإسلاميون الاعتصام في الميادين حتى إنهاء الانقلاب؛ ولكن الرياح أتت بما لا تشتهيه السفن … فبعد شحن الشعب ضد التيار الإسلامي؛ أخذ الجيش في الفتك بهم وقتل مائة ألف منهم، وها نحن نرى الآن ما آلت إليه دولة الجزائر ما بعد فتك الانقلاب بمعارضيه.
والمراقب لتجربتي إسلاميي تركيا والجزائر؛ يرى أن تجربة تركيا أفضل من حيث المكاسب والخسائر في نفس الوقت.
وبالتأكيد أن التضحية بشخص الدكتور مرسي – ليس بالقتل وإنما بجعله رئيسًا سابقًا – سيكون أهون بكثير من التضحية بآلاف الشباب بالقتل.
من الحقائق التاريخية أن رئيس فنزويلا السابق هوغو تشافيز عاد إلى قصر الرئاسة بعد انقلاب عام ألفين واثنين دام بضعة أيام؛ ونعم … انحدر الانقلاب بسبب ضغط الشارع؛ لكن الفارق بين حالتي مصر وفنزويلا .. أن الرئيس تشافيز كان له حضور جماهيري واسع لاتجاهه الاشتراكي المهتم بالفقراء؛ وكان الانقلاب بعد تولي تشافيز السلطة بثلاث سنوات ولوجود مواليين له في الجيش؛ وهو ما لا يتوفر في حالة الرئيس مرسي.
يقول الدكتور بشير عبد الفتاح في مقاله : هل يكون مرسي شافيز مصر ؟ ” أما في حالة الرئيس مرسي فالوضع جد مختلف، لأن الجيش المصري على قلب رجل واحد، حتى فيما يتعلق بالإطاحة به، وليس به انقسامات يمكن لمرسي الاستفادة منها، في حالة تتشابه كثيرا مع تجربة مبارك في فبراير 2011، مع فوارق مهمة، تتمثل في كون الرئيس مرسي منتخبًا بإرادة شعبية، فضلًا عن وجود تأييد شعبي للرئيس مرسي على الأرض لا يمكن تغافله. ” [5]
والواضح أن قادة منصة رابعة لم يستطيعوا استغلال ذلك الحشد؛ أو يحسنوا تقدير الموقف حسن التقدير.
وإحقاقًا للحق؛ فإن حزب النور أثناء الاعتصام لم يدعُ أنصاره للاحتشاد لنصرة قضية رآها محسومة؛ ولكنه في ذات الوقت لم يدعُ المعتصمين للانسحاب لتركه كوسيلة ضغط؛ كما أنه حاول التوسط هو وغيره ( كالشيخ محمد حسان ) إلا أن العسكر رفض عودة الرئيس مرسي لإداء مهامه رئيسًا للبلاد؛ والإخوان تمسكوا بعودته … !
مذبحة رابعة .. نقطة تحول:
إن مذبحة رابعة العدوية تعد نقطة تحول بالنسبة للإخوان؛ فبعد مقتل ما لا يقل عن ألفين وخمسمائة معتصم في يوم واحد بات من غير البديهي تنازل الإخوان … بل حتى إن تنازل الإخوان عن استمرار الدكتور مرسي رئيسًا للبلاد حتى انتهاء فترة ولايته ( وإن كان يراه البعض أمرًا مفروغًا منه )؛ فإن نقطة اللاعودة التي وصل لها الإخوان تحتم
عليهم ألا يقبلوا بما هو أدنى من محاكمة كل من شارك في تلك الجريمة سواء بالتنفيذ أو الإشراف أو الأمر أو التحريض أو الفتوى أو حتى ” التفويض ” ..!
وإن حدث غير ذلك فسيوصم الإخوان بالمتخاذلين أيضًا.
أما على الجانب الأخر؛ فإن حزب النور لم يحرك ساكنًا جراء تلك المذبحة؛ اللهم إلا بيانًا هنا أو تصريحًا هناك يتبرأ فيه إلى الله – عز وجل – مما حدث ويقول انه حذر كثيرًا مما حدث؛ بل إن مقالات رموزه لم تأتِ على ذكر ما حدث إلا بالتلميح على أقصى تقدير … !
المادة 219 .. فصل الخطاب :
بعد ما أعلن الدكتور يونس مخيون رئيس حزب النور مقاطعة الحزب لما يعرف بخارطة الطريق [2]؛ وافق الحزب على المشاركة في لجنة الخمسين لتعديل الدستور !!
ومن وجهة نظر شرعية؛ فإن عليك السعي لا النتيجة كما في قصة أصحاب السبت الذين ” قالوا معذرةً إلى ربكم “؛ فإن نسبة 2% لن تمكنك من صنع ما تريد؛ ولكن عليك بالسعي؛ كما كان الإخوان يفعلون في المجالس النيابة قبل الثورة.
إن اتجاه تصويت حزب النور في استفتاء الدستور القادم ستوضح أهداف الحزب الحقيقة؛ فلو بقيت المادة مائتان وتسعة عشر أو ما يوازيها فإن هذا سيكون انتصارًا له ” أو لرغبة الانقلاب في بقائه “؛ أما إن لم يحدث ذلك واختار الحزب التصويت بـ ” لا ” فسيكون انتصر لأهدافه؛ أما إن اختار التصويت بـ ” نعم ” بحجة المضي قٌدمًا في خارطة الطريق فسيكون ذلك كاشفًا عن وجه خفيّ للحزب !!
ويجب التنويه هنا على دعوة المجلس الرئاسي للحزب الهيئة العامة للانعقاد لبحث دخول لجنة الخمسين من عدمه بسبب التشكيل غير المتوازن لها على حد وصفه … وهل كان يظن أن السلطة الحالية ستأتي بلجنة أكثر توازنًا مما أتت عليه تلك اللجنة ؟؟!!
والمدهش في الأمر أن تردد الحزب في دخول اللجنة لم يكن للتضامن مع من قـُتِلوا في رابعة وغيرها .. !
وإن كان يرى قادة حزب النور أنهم براء لأنهم حذروا الإخوان ونصحوهم مرارًا وتكرارًا لذلك اضطروا لتركهم؛ فلماذا لا يقومون الآن بنصح مسئولي السلطة الجديدة وتركهم ؟؟ لماذا يسعون إلى إيصال فكرة أن السلفيين ليسوا كالإخوان إلى القوى المدنية عن طريق التصريحات العجيبة ؟؟
قد يضطر الشخص منا إلى فعل شيء لا يرتضيه ويكون مجبَرًا عليه؛ ولكن أنا لا أعرف ما أهمية التصريحات التي يصرح بها قادة الحزب نكايةً في الإخوان أو لتحميلهم الخطأ ؟؟؟؟
والسؤال هنا لحزب النور .. ماذا تريد أن تفعل تلك السلطة حتى تتركها وشأنها وتقاطع – بحق – خارطة الطريق ؟!
وخلاصة القول أن تهور الإخوان وعنادهم أوصلنا لما نحن فيه الآن؛ وأن تخاذل السلفيين وجُبنهم لن يوصلهم إلى ما هو أفضل مما هم عليه الآن !! … وإن كان هذا لا يتعدى كونه رأيي الشخصي الذي كلما أفكر فيه أحس أني مصاب بـ ” انفصام في الشخصية ” !!!