بحثت جاهدا عن أي دولة لجأت لصندوق النقد الدولي أو اتبعت سياساته ونجحت في الخروج من أزماتها الاقتصادية سالمة، أو حتى تمكنت من التقدم خطوات ملحوظة، ويمكن أن ندرس حالتها كنموذج لنجاح سياسات الصندوق بغية دعم التوجه العربي الكبير نحو النقد الدولي في الآونة الأخيرة، وفي الحقيقة حتى الآن فشل بحثي عن هذا النموذج.
ولكني في الوقت ذاته وجدت نماذج صارخة لدول لجأت للصندوق وكانت سياساته بمثابة دفعه نحو الهاوية، الأمر الذي أثار قلقي على كثير من الدول العربية “النامية” التي تلهث الآن خلف مساعدات عاجلة من الصندوق، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل، هل سيكون مصير هذه الدول هو نفس مصير البلدان التي دمرتها سياسات النقد الدولي؟.
في البداية يجب أن نعرف أن الوضع في غاية الخطورة فتدمير صندوق النقد الدولي لاقتصادات الدول النامية ليس محض خرافات كما يقول البعض، بل هو واقع قديم حديث تعيشه الكثير من الدول الآن، وليس ما قاله عالم الاقتصاد الشهير، ميشيل تشوسودوفيسكي ببعيد، حيث أكد أن “النقد الدولي” يمكن أن يترك الدولة أفقر مما كانت عليه من قبل، ولكن مع ديون أكبر ومجموعة حاكمة أكثر ثراءً، جوزيف ستيغلتش، أيضا كان قد سبق تشوسودوفيسكي في التأكيد على ضرر الصندوق على الدول النامية، موضحا أنه يجبر الدول على تبني سياسات لا علاقة لها بالمشكلة الاقتصادية.
“الاصلاحات الاقتصادية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي في تتسبب في رفع أعداد الفقراء وزيادة نسبة الأمية بالدول النامية”
ولعل المتابع لتجارب الصندوق يجده يعطي نفس التوصيات والنصائح لكل الدول التي يمنحها قروضه، وهو أمر عار تماما من الواقعية، حيث إن الواقع الاقتصادي للدول متناقض في بعض الأحيان، كما أن سياسات النقد التدميرية التي تسمى بالـ”الاصلاحات الاقتصادية” في الغالب تكون ذات فاتورة غالية ودائما ما ترفع أعداد الفقراء وتزيد نسبة الأمية.
وعندما ننظر إلى تجربة الإكوادور مثلا، والتي رواها جون بيركنز الخبير الاقتصادي الدولي صاحب كتاب “الاغتيال الاقتصادي للأمم”، قد ندرك كيف تقوم هذه المؤسسات المالية بإفقار الدول، حيث يحكي بيركنز في كتابه كيف يتم نهب الدول عن طريق هذه القروض.
قرصنة الاقتصاد الذي تحدث عنها بيركنز في كتابه تعتمد في الأساس على منح القروض للدول بهدف تنمية البنية التحتية، وبناء محطات لتوليد الكهرباء، ومد طرق رئيسية، وإنشاء موانئ ومطارات ومناطق صناعية، وذلك عن طريق هيئات المساعدات المالية الدولية والبنك وصندوق النقد الدوليين، ولكن بشروط دائما ما تنتهي بالدول إلى الهاوية، وكلما كانت القروض كبيرة وتضمن عجز الدولة المستدينة عن سدادها، كلما كان ذلك ضمانة للقراصنة لمزيد من النهب والفوائد.
أبعاد هذا الموضوع السياسية واسعة وتحتاج إلى الكثير من الوقت لسردها ولكن من الناحية الاقتصادية دائما ما يتم قياس الأمور بالنجاح والفشل، فهناك نماذج نجحت مع الصندوق وأخرى فشلت، وهذه نماذج على سبيل الذكر لا الحصر.
نماذج سقطت في الهاوية
يقول أ. د. يوسف خليفة اليوسف، في بحث حديث له متحدثا عن تجارب الدول النامية التي أغرقتها سياسات النقد الدولي،
إنه في عام 2002 أزالت غانا التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية طبقا لتعليمات الصندوق، وكانت النتيجة إغراق أسواقها بالمنتجات الأوروبية وضرر بالغ أصاب المزارعين، كما رضخت زامبيا كذلك لشروط الصندوق وأزالت التعريفة على وارداتها من الملابس التي كانت تعمل بها حوالي 140 شركة محلية للملابس وخلال فترة قصيرة لم يتبق من هذه الشركات المحلية سوى 8 شركات فقط.
ومن قبل غانا وزامبيا وبنفس السياسات، قامت بيرو بتخفيض تعريفتها الجمركية على القمح المستورد من الولايات المتحدة الدولة التي تقدم لمزارعيها دعمًا سنويًا يصل إلى 40 مليار في السنة، مما ألحق الضرر بمزارعي بيرو ودفعهم إلى إنتاج الكوكا الذي يستخدم في إنتاج الكوكايين كبديل للقمح.
هذه الدول نماذج تكشف كيف قضت سياسات النقد الدولي على مصادر الدخل الرئيسية لهذه الاقتصادات وذلك تحت مسمى “الإصلاحات”، هذه السياسات أنتجت جبالًا من الديون على كاهل الدول النامية أممممممةنرةبةمرتفعة من 130 مليار دولار عام 1973 إلى 3.2 تريليون عام 2006، ما أجبر هذه الدول على توجيه كل مواردها تقريبا نحو سداد فوائد الديون فقط.
اليونان كذلك أحد أبرز ضحايا النقد الدولي الذي لم تستطع سياساته إنقاذها من دوامة السقوط، ولكنها حالة خاصة تحتاج للمناقشة على حدة.
نماذج تمكنت من النجاح
على الجانب الآخر، هناك بعض الدول تمكنت من الفرار من هاوية النقد الدولي والنجاة من سياسات الصندوق، ولعل تركيا وماليزيا وبولندا، أبرز هذه النماذج، وقد تمكنت هذه الدول من استخدام قروض الصندوق في التنمية الداخلية، وخرجت من مأزقها الاقتصادي، ولم تستمر في الاقتراض، كما تعاملت هذه الدول مع القرض على أنه أحد وسائل دفع الاقتصاد إلى الأمام، وليس الوسيلة الوحيدة نحو النمو الاقتصادي، هذه الدول أيضًا تمكنت بالوصول مع الصندوق إلى أقل شروط، حيث إنها كانت تمتلك رؤية اقتصادية واضحة.
“استطاعت بالنهاية تركيا التحرر من قبضة صندوق النقد الدولي سددت آخر ديونها نهاية العام الماضي”
ففي تركيا، وبعد أن تسببت شروط الصندوق في أزمة خانقة، ووسعت الفجوة بين الطبقات، تمكنت أنقرة – بعد مفاوضات حادة- من تقليل شروط الصندوق متبنية برنامجا متكاملا للإصلاح الاقتصادي تتناسب طبيعته معها، واستطاعت بالنهاية أن تتحرر من القروض وسددت آخر ديونها للنقد نهاية العام الماضي وباتت تمتلك اقتصادا واعدًا.
أما ماليزيا، التي نهجت سياسات حكيمة تمكنت من خلالها من التخلص من ديون الصندوق، حيث قال مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا الأسبق عن تجربته مع صندوق النقد الدولي إن ماليزيا مثل بقية الدول اقترضت من “النقد الدولي”، لكنها قررت عدم السير على أجندة الصندوق أو قبول نصائحه، وبالفعل صمدت وتمكنت من إعادة هيكلة الديون.
من جانبها، استطاعت بولندا أيضا أن تستغل قروض الصندوق استغلالًا أكثر من رائع ويمكن وصفها بالنموذج الناجح الذي استفاد من الصندوق.
“أكثر من 4 دول عربية تسعى للحصول على قروض من الصندوق”
بالمقابل وفي الآونة الأخيرة كشفت الكثير من الدول العربية عن مفاوضات مع الصندوق للحصول على قروض، وكانت آخر هذه الدول مصر التي تتفاوض على دعم مالي قدره نحو 12 مليار دولار، فيما اتفقت بالفعل كلا من المغرب والعراق، على الحصول على قروض من الصندوق، كما خلصت دول الخليج إلى تنفيذ توصيات “النقد الدولي”، للخروج من أزمة هبوط أسعار النفط، فيما تواصل السودان مباحثاتها دون التوصل لاتفاق.
بلا شك، فإن الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعيشها المنطقة تجبر البلاد على البحث عن بدائل تمويليه جديدة، الأمر الذي يجعلها فريسة لسياسات صندوق النقد الدولي، وهذه السياسات قد تودي بالمنطقة التي تعاني من التوترات السياسة إلى هاوية الديون من ناحية، وتوسع الفجوة بين الطبقات من ناحية أخرى.
ما يجعلني أفترض أن اللجوء العربي للصندوق سيكون ضمن النماذج التي دفعتها سياسات النقد الدولي إلى الهاوية هو أن الأوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية بالمنطقة، لن تسمح بتحقيق طفرة اقتصادية يمكن من خلالها الوقوف أمام الصندوق وتحدي شروطه كما فعلت تركيا وماليزيا، كما أن دول المنطقة لا تملك خططًا اقتصادية واضحة للسيطرة على الأزمات.
الأهم من كل هذا، هو أن الصندوق يطرح نفس سياساته التقشفية المعروفة لعلاج أزمات المنطقة وهي لا تتناسب مع الوضع العربي، كما أن برامج الصندوق تتسم بالسطحية وتستهدف تقليص العجز الرقمي بالموازنات العامة وموازين المدفوعات، وذلك بغض النظر عن المعاناة الحقيقية التي يعيشها فقراء هذه الدول، ودون الاكتراث لأي تداعيات سلبية.
مع هذه المعطيات، نجد إصرارًا كبيرًا من الحكومات العربية على خوض هذه التجربة المريرة التي يحذر منها الجميع، لكن الحكومات تجد هذه التجربة حلا مناسبًا للنهوض من الكبوة الاقتصادية الحالية في ظل تردي الأوضاع، لكن –للأسف- فإن جميع الشواهد تقول إنها خطوة لا تتعدى كونها محطة ما قبل الهاوية.