يعتمد الباعة المتجولون على أماكن الاكتظاظ والنقاط الحيوية بالقرب من محطات القطار والحافلات لبيع بضاعتهم على عجالة دون اتاحة الفرصة للمشتري حتى يتفحص جودة بضاعته وبأزهد الأثمان لعدم حاجته لتغطية أي مصاريف إضافية من التي يتحملها أصحاب المحلات الكبرى.
وعادة يلجئ الباعة إلى التجول بعد الفشل في الحصول على مغازة يقومون من خلالها ببيع بضاعتهم، إما لسوء جودة بضائعهم أو لعدم قدرتهم على العمل خارج أجواء الفوضى.. وهكذا يفعل المعارضون السياسيون في دول الربيع العربي، فبعد فشلهم في تسويق مشاريعهم من خلال الآليات الديمقراطية المتعارف عليها وبعد فشلهم في الحصول على الشرعية من خلال صناديق الانتخابات، تجدهم يحملون مطالبهم بضاعة يتجولون بها من منبر لآخر منتهزين كل أزمة تمر على شعوبهم لاقناعها بأن الحل يكمن عندهم وبأن الخيار الذي اختاروه كان فاشلا.
والبارحة بدأ رسميا وعلى لسان رئيس الوزراء التونسي علي لعريض الحديث عن وجود انقلاب يحاك في تونس لإفساد مسار الانتقال الديمقراطي، ورغم تزامن عن محاولة الانقلاب على الشرعية في تونس مع ما تعيشه مصر من انقلاب عسكري، فإن ملامح الانقلاب في الدولتين تختلف عن بعضها البعض، ويمكن القول بأن القوى التي تقف خلف الانقلاب في مصر ليست هي الجهة التي تقف خلف الانقلاب في تونس وبأن آليات تطبيق الانقلاب في تونس ليست هي ذات الآليات التي اعتمدت للانقلاب على الشرعية في مصر.
فقبل قرابة 6 أشهر عاشت تونس عملية اغتيال أولى للمناضل السياسي اليساري شكري بلعيد، خرج بعدها رئيس الوزراء التونسي حينها حمادي الجبالي في خطاب اعلن فيه فشل حكومته ودعا إلى تشكيل حكومة كفاءات وطنية تكون خالية من المحاصصة الحزبية، وفي خطابه ذاك وجه الجبالي رسالة تصريح وتلميح إلى الجهة الضالعة في عملية الاغتيال فقال :”الرسالة الممضاة بالدم وصلت”.
وللرسالة الممضاة بالدم رمزية كبيرة إلى سنوات الظلام لدى الجزائريين لتسميتهم للاغتيالات برسالة الدم، وقلة هم الذين انتبهوا إلى أن رئيس الوزراء السابق كان يريد تحذير التونسيين من استعداد بعض الأطراف لتطبيق سيناريو السنوات السوداء التي عاشتها الجزائر في تسعينات القرن الماضي، ولم يذهب في ظن أحد من المتابعين إلى أن موقع رسالة شكري بلعيد يمكن أن يكون هو نفسه موقع الرسائل التي وجهت إلى الجزائريين طيلة عقد من الزمن.
ووجهت كل أصابع الاتهام إلى قوى الإرهاب متمثلة في تيار السلفية الجهادية الذي بدأ ينتشر حديثا في تونس والمنتمي فكريا إلى تنظيم القاعدة، ولكن توجيه الاتهام للجهاديين لم يجب على كثير من الأسئلة، فأهداف الجهاديين معلنة وأبرزها إقامة الخلافة ومحاربة قوى “الكفر” العالمية، ولسائل أن يسأل، إذا كانت هذه هي أهداف الارهابيين في تونس، إذن لماذا توقف الإرهاب بمجرد إعلان الجبالي عن حل الحكومة ؟ هل كان حل حكومة الجبالي من غايات تنظيم القاعدة في تونس؟..
وعاد الارهاب إلى تونس بعد أشهر، وفور اغتيال محمد البراهمي النائب في المجلس التأسيسي أعلنت وزارة الداخلية أن ننفذ عملية اغتيال البراهمي هو نفس منفذ عملية اغتيال بلعيد وهو بوبكر الحكيم المنتمي إلى تنظيم القاعدة وإلى تيار السلفية الجهادية.. ليعود التساؤل من جديد.. لماذا يغتال السلفيون محمد البراهمي وهو حاج ملتزم دينيا ليس له أي عداء للمشروع الإسلامي على خلاف عشرات النواب في المجلس التأسيسي التونسي الذين يجاهرون بعدائهم المطلق للإسلامين؟
وللإجابة على هذا التساؤل ذهب محللون إلى أن أبو بكر الحكيم تم تجنيده من قبل المخابرات الفرنسية خلال فترة سجنه في فرنسا بعد سجنه لمدة خمسة سنوات في القضية المعروفة بخلية العراق، الامر الذي يفسر سهولة التحرك التي تمتع بها الحكيم في تونس بعد عودته من فرنسا وتبرئته بعد سنة من عودته إلى تونس من تهمة تهريب الأسلحة إلى تونس التي وجهت له أشهر قبل اغتيال بلعيد.
وعلى اثر حادثي اغتيال بلعيد والبراهمي، حملت المعارضة طيلة هذه الفترة ذات المطالب مؤكدة على لسان كبار قياداتها أن الارهاب والاغتيالات لن تتوقف إلا بعد حل الحكومة وأن الاغتيال ستستمر طال ما استمر المجلس التأسيسي حتى تساءل متابعون على الفايسبوك:” ألم يلاحظ العقلاء ثقة المعارضة المفرطة في أن الاغتيالات ستتوقف في حال سقوط الحكومة وستستمر في حال بقاء الحكومة؟”.
وأجاب محللون على هذا التساؤل بالذهاب إلى أن المعارضة أو قياداتها على الأقل على علم يمخطط انقلابي تقوده قوى داخلية وخارجية مستعدة لنهج كل السبل للانقلاب على الشرعية في تونس ولاخراج الأحزاب الحاكمة من سدة السلطة التنفيذية والتشريعية للبلاد، الأمر الذي جعل عدد من نواب المجلس التأسيسي يقدمون على اعلان انسحابهم من المجلس التأسيسي ودخولهم في اعتصام مفتوح انطلاقا من يوم السبت الماضي أمام المجلس التأسيسي.
واستمر اعتصامهم حتى صبيحة يوم الاثنين عندما قامت قوات الشرطة والجيش بفض الاعتصام وتطويق المنطقة المحيطة بالمجلس التأسيسي بالأسلاك الشائكة، لتتلوها في ما بعد أخبار مسربة من خلال أمنيين أكدوا فشل محاولة انقلابية قادتها قيادات أمنية وسطى تم اعتقالهم دون الاعلان عن أسمائهم أو عن رتبهم داخل الجهاز الأمني التونسي، مع الحديث عن تعاون بين الجيش ورئاسة الجمهورية لإفشال المخطط الانقلابي.
وفور إعلان خبر الانقلاب الفاشل، عقد رئيس الوزراء علي لعريض مجلسا وزاريا بحضور كل الوزراء صرح على اثره بعض الوزراء المنتمين إلى حزب المؤتمر لأجل الجمهورية بأن المجتمعين قرروا أن يعقد السيد علي لعريض مؤتمرا صحفيا لإعلان تفاصيل محاولة الانقلاب ولكشف الجهات التي تقف خلفها ولإعلان البدء في تتبع وملاحقة ومحاسبة كل الضالعين في محاولة الانقلاب.
غير أن علي لعريض أجل كلمته إلى الساعة الخامسة ظهرا من ذات اليوم وتوجه إلى قصر الرئاسة في قرطاج حيث اجتمع مع رئيس الجمهورية وقادة الجيوش لمناقشة التطورات والقرارات التي توافقت عليها الأحزاب المشكلة للحكومة وكذلك كل المشاركين في المجلس الوزير، ليعود العريض لاحقا بخطاب شديد اللهجة أكد من خلاله ثبات الحكومة في وجه الانقلابيين وأعلن مبادرة وخطة طريق لإنهاء المرحلة الانتقالية، دون أن يفصح عن أية تفاصيل عن الانقلاب وعن الذي يقفون خلفه، ودون الإعلان عن إجراءات ستتخذ في حقهم.
كما أثني العريض خلال كلمته على جهود قوات الأمن والجيش الذين وقفوا في وجه المنقضين على السلطة وأفشلوا مخططات الانقلابيين مما جعل المعلقين والمتابعين يثنون ويكثرون من الثناء على قوات الأمن التي تحلت بالحياد في تعاملها مع المتظاهرين، وعلى الجيش التونسي الذي وقف إلى صف الشرعية ولم ينتهز لحظة الارتباك التي عاشتها السلطة التنفيذية لينقض على السلطة كما فعلت قيادة الجيش في مصر.
وقبل أن ينتهي التونسيون من تحليل خطاب رئيس الوزراء، جاء خبر الفاجعة من الحدود الجزائرية التونسية حيث تعرضت كتيبة وحدات خاصة متكونة من 9 جنود إلى عملية ارهابية أودت إلى مقتلهم جميعا، ورغم القدرة القتالية العالية التي تتمتع بها هذه الكتيبة إلا أنها أبيدت بالكامل، ولم تتوقف جريمة عند هذا الحد بل قام المعتدون بالتنكيل بجثث القتلى وذبحوا ثلاثة منهم بالإضافة إلى تجريدهم من ملابسهم العسكرية وكل أسلحتهم قبل أن يختفوا في المنطقة الجبلية الحدودية المسمات بمحمية جبل الشعانبي.
وتثبت حيثيات الهجوم أن المهاجمين كانوا على مستوى قتالي محترف وكانوا كذلك يتمتعون بالأريحية الكافية التي تسمح لهم بالهجوم والتنكيل بالجثث والانسحاب دون أن تطالهم أية إصابات ودون أن يخشوا لحاق كتيبة أخرى من جيش أثناء قيامهم بعملية التنكيل بالجثث.
في ظل حالة الحزن التي عمت المشهد العام في تونس، اتجهت كل التحليلات إلى أن ما حدث كان عقوبة سلطها المنقلبون على الجيش التونسي للانتقام منه على اثر موقفه الرافض للانقلاب، وولإضعاف موقف القيادة العليا للجيش ولإجبارها على الخضوع لمطالب الانقلابيين أو على الأقل لإجبارها على فتح الطريق أمام الانقلابيين للانقضاض على السلطة.
في حين ظهر ممثلون عن كل التيارات السياسية المعارضة على كل الفضائيات التونسية حاملين ذات البضاعة مطالبين بذات المطالب، مؤكدين من جديد بأن الارهاب والعنف لن يتوقفوا إلا بعد إسقاط الحكومة وحل المجلس التأسيسي.
وفي المساء، قام صحفيون ومحللون سياسيون بالبوح بما لم تتمكن السلطة الحاكمة من البوح به، فوجهوا أصابع الاتهام مباشرة إلى المخابرات العسكرية الجزائرية مستشهدين بتاريخها في ارتكاب جرائم كهذه وبتنكيلها بجثث ضحاياها في التسعينات بذات الطريقة، مستشهدين أيضا بأخبار تناقلها بعض العسكريين عن قيام الجيش التونسي بإغلاق الحدود الجزائرية التونسية منذ أكثر من يوم وقيامه بعمليات ملاحقة لمجموعة مسلحة دخلت الأراضي التونسية وعجزت قوات الجيش عن كشفها أو عن كشف هويتها.. حيث أكد محللون أن كتيبة عسكرية جزائرية خاصة دخلت الحدود التونسية ونفذت الهجوم لارباك المشهد السياسي في تونس ولتدعيم موقف المعارضة الداعي لإسقاط كل من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية.
وفي فيديوهات بثت على الفضائيات، تحدث جنود أصيبوا بجراح أثناء قيامهم بنقل جثث زملائهم الذين قتلوا، فأكدوا صمودهم واستعدادهم للموت والتضحية في سبيل الدفاع عن الوطن، داعين الشعب التونسي إلى دعمهم وإلى تجنب الانقسامات وإلى الابتعاد عن الخلافات السياسية التي تثيرها بعض الوسائل الإعلامية لتتطور وتصبح في شكل حشود وحشود مضادة في الشارع تنهك قوات الأمن والجيش وتشغلهم عن مواجهة المخاطر الحقيقية التي تواجه البلاد من ارهاب وجريمة منظمة.
وبعد تكشف خيوط المؤامرة، وبعد وقوف القيادات الأمنية والعسكرية إلى جانب الشرعية وبعد إعلان الجنود والضباط عن صمودهم وعن استعدادهم للتضحية في سبيل الوطن، يأتي الدور على السعب حتى يختار الانحياز إلى الثورة.. أو اللا ثورة.. إلى الوطن أو إلى اللا وطن.