أكثر التساؤلات المطروحة عربيا حول ما يحدث في تركيا في الأيام الأخيرة، وحول ما يسمى بصراع أردوغان كولن، تدور حول مآلات هذا الصراع وإلى من سترجح الكفة، وإن كان التوقع في السياسة مستحيلا، فإن التأمل في خطاب أردوغان الذي قال فيه “سنكسر الأيادي التي تحاول المساس باستقلاليتنا” وختمه بالقول: “انتظروا منا الكثير”، ومقارنته بالدعاء الهستيري الذي أطلقه فتح الله كولن، كاف لتقدير مدى سلامة مواضع الأقدام لدى الطرفين.
وتطرح كذلك تساؤلات كثيرة حول الأسباب التي تدفع الجماعة “الإسلامية” إلى التصادم مع حكومة أردوغان، وهو ما يمكن التخمين فيه بأن الجماعة لم تختر المواجهة مع أردوغان، وإنما من اختار المواجهة، ودفع بالجماعة لتكون واجهة، هي قوى داخلية وخارجية لا تقبل بالدور الإقليمي الذي تقوم به تركيا، ولا تريد السماح لتركيا بالمضي في طريقها الحالي، وهو ما أشار إليه أردوغان في خطاباته الأخيرة.
وعبر تاريخها، ومنذ الستينات، كانت الجماعة منحازة دائما للمنقلبين، وبينما يدعو فتح الله كولن اليوم أنصاره لبذل كل السبل لمنع الحكومة من إغلاق مراكز التدريس الخاصة بالجماعة، فإنه قد عرض على الانقلابيين سابقا أن يسلم المراكز طواعية للدولة، ووضع يده في يدي من يقول عنهم أنهم “حاربوا الإسلام”، ويبدو أن الجماعة ترضخ اليوم للضغوط المسلطة عليها -كما رضخت في السابق- وتخوض حربا لا مصلحة لها فيها.
مجموعة كوتش:
عبر العقود التي سبقت وصول أردوغان إلى الحكم، تحكمت في دنيا الإعلام والسياسة والمال بشكل كبير 3 أسماء، خسر أولها المعركة في وجه حكومة أردوغان وهو مقيم الآن في فرنسا ومحكوم عليه غيابيا بالسجن لمدة 23 سنة، وهو جيم أوزان، وأما الثاني، وهو إمبراطور الإعلام التركي، آيدين دوغان، فقد نجحت حكومة العدالة والتنمية في إضعافه عبر إجباره على تسديد ديونه للدولة ودفعه إلى بيع عدد من مؤسساته الإعلامية والتحقيق معه في تهم التورط في الدعوة إلى الانقلابات ودعمها.
وأما الاسم الثالث، فيتعلق بأثرى العائلات التركية، والتي تعمل في كل قطاعات الاقتصاد التركي، من التغذية وصولا إلى الصناعات العسكرية، وهي عائلة كوتش ورئيس المجموعة الحالي مصطفى كوتش، والذي بدأت المواجهة العلنية بينه وبين حكومة أردوغان عندما اتهمه مقربون من الحكومة بدعم أحداث ميدان تقسيم (جيزي بارك) في الصيف الماضي، عبر التمويل وعبر التحريض على ذلك في “جامعة كوتش” الخاصة، والتي أرسل عميدها، في أيام الاحتجاجات، رسالة إلى كل الطلاب قال فيها بأنه سيتيح لكل الطلاب المتغيبين عن الامتحانات إعادة الامتحان في وقت لاحق، وقد علق أردوغان بنفسه على هذه الرسالة في تلك الأيام.
وقبل ثلاثة أشهر، أعلن عن اجتماع رباعي حضره رئيس الجمهورية الأسبق سليمان ديميرال، والذي شغل منصب رئيس الوزراء سبع مرات خلال عقود الانقلابات العسكرية في تركيا، وحضره أيضا رحمي كوتش، وهو والد مصطفى كوتش والرئيس السابق لمجموعة كوتش، وكذلك تايلان بيلغان عضو مجلس إدارة مجموعة دوغان المملوكة لآيدين دوغان، وأجمع المعلقون على أن هذا الاجتماع انتهى إلى اختيار الشخص الرابع وهو مصطفى ساري غول، ليكون رجل المرحلة القادمة، وممثل حزب الشعب الجمهوري لرئاسة بلدية اسطنبول أولا، ولرئاسة الوزراء ثانيا.
حزب الشعب الجمهوري:
كما كان متوقعا، وعملا بالعرف السياسي القائل بأن الطريق إلى قصر الحكومة في تركيا يبدأ من رئاسة بلدية اسطنبول، أعلن حزب الشعب الجمهوري يوم أمس أن مرشحه في الانتخابات البلدية القادمة، والتي ستعقد في 30 آذار/مارس من سنة 2014، سيكون السياسي الشهير مصطفى ساري غول.
مصطفى ساري غول وسط عدد من أنصار حزب الشعب الجمهوري
واللافت للأنظار، هو أن ساري غول وبعد زيارة وفد عن حزب الشعب الجمهوري إلى أمريكا ولقائه بعدد من الشخصيات النافذة داخل جماعة فتح الله كولن، أبدى في خطاباته شيئا من التودد للجماعة، فبعد أن كانت الجماعات الإسلامية تمثل الخطر الأكبر على تركيا، منذ تأسيس الحزب ذو التوجهات العلمانية الراديكالية، أصبح ساري غول، وهو الرجل الثاني في الحزب، يدافع عن مواقف الجماعة وعن مراكز التدريس التابعة لها، ويصفها بأنها مهمة للحفاظ على المعتقدات الدينية.
وقبل ساعات من اختيار ساري غول مرشحا لحزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البلدية القادمة، قالت الإعلامية التركية الشهيرة، سيفيلاي يوكسالير، أن ساري غول بنفسه أخبرها بأنه عقد اتفاقا مع جماعة كولن وبأن الجماعة تدعمه وستدعمه في الانتخابات القادمة، مضيفة: “إذا كنت كاذبة فليخرج ويكذبني، لماذا يخجل من قول الحقيقة؟”، مؤكدة كلامها: “ساري غول يمثل مشروعا، وتقف خلف هذا المشروع مجموعة كوتش وجماعة كولن ولوبيات في الولايات المتحدة الأمريكية”.
المحافظون الجدد في أمريكا:
خلال زيارته الأولى لأمريكا منذ توليه رئاسة حزب الشعب الجمهوري، وخلال افتتاحه لمقر الحزب في واشنطن، قبل أسابيع، قال كمال كيليتشار أوغلو: “سنأتي كثيرا لأمريكا في المرحلة القادمة”، وهي الكلمة التي دفعت أقلاما كثيرة للحديث عن مخطط أمريكي للإطاحة بحكومة رجب طيب أردوغان، وعن انزعاج أمريكي وغربي من حجم تركيا الإقليمي المتنامي وعن مخاوف دولية من أن تصبح اسطنبول مدينة عالمية تنافس عواصم أخرى مثل لندن ونيويورك من حيث الثقل السياسي والاقتصادي وتفوقهم بموقعها الجغرافي وإرثها الحضاري.
والمحافظون الجدد هم حَمَلَة مشروع “القرن الأمريكي الجديد”، وورثة “الليبرالية الستراوسية” أو المحافظين ذوي التوجه اليميني المتدين ولكن بنَفَس ليبرالي، ويسيطر هذا التحالف بشكل كبير على وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية وعلى لوبيات اقتصادية ضخمة، ويحظى كذلك بنفوذ سياسي كبير داخل أمريكا وخارجها.
ويرى محللون، من بينهم الإعلامية سيفيلاي يوكسالير، أن تحالف المحافظين الجدد مع حزب الشعب الجمهوري وجماعة فتح الله كولن يهدف بالأساس وتحديدا إلى الإطاحة بشخص رجب طيب أردوغان وبرئيس جهاز الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، والذين أبديا عنادا كبيرا في تعاملهم مع القوى الدولية، سواء من خلال مواقف أردوغان من القضايا الإقليمية، أو تحركات هاكان فيدان التي أخرج من خلالها جهاز الاستخبارات التركية، إم تي أي، من تحت عباءة الموساد الإسرائيلي.
وفي السنة الأخيرة عمل الإعلام الأمريكي وحلفاؤه في المنطقة بقوة لتنفيذ هذه الغاية، سواء من خلال التركيز على استخدام مصطلح “السلطان أردوغان” و”حلم أردوغان بإقامة الخلافة”، أو من خلال التغطية المكثفة لأحداث تقسيم في الصيف الماضي، بالإضافة إلى تقارير كانت تنشر بصفة روتينية تتهم هاكان فيدان بالولاء لإيران، كان آخرها يدعي أن فيدان سلم إيران معلومات استخبارية عن عملاء للموساد الإسرائيلي مما أدى إلى اعتقالهم هناك.
ما خلف قضية الفساد المالي:
بالإضافة إلى المنفعة الانتخابية التي حققها حزب الشعب الجمهوري، والمعنوية التي حققتها الجماعة، حققت أمريكا أهم أهدافها من خلال ضرب رجل الأعمال التركي الإيراني الأصل، رضا زراب، والذي كان وسيطا ما بين الحكومة التركية والإيرانية. فبسبب العقوبات المفروضة على إيران، ومنع تركيا من دفع ثمن النفط الإيراني عبر الطرق التقليدية، قامت الحكومة التركية طيلة السنوات الماضية بإيداع أثمان النفط المستورد من إيران في حسابات بنكية إيرانية في تركيا، لتقوم إيران في ما بعد بشراء الذهب من تركيا من عند رضا زراب وغيره من رجال الأعمال المقربين منها في تركيا عبر تلك الأموال.
وفي حديث له مع الصحافة مباشرة بعد إخلاء سبيله، نفى زراب التهم الموجهة له وقال: “أنا أقوم يوميا باستيراد وتصدير طن من الذهب، بصفة قانونية، ولا ضرائب تفرض على تجارة الذهب في تركيا، فلماذا أقدم رشوة؟”، ثم أضاف: “ذات مرة علقت شحنة ذهب قادمة من إفريقيا بسبب نقص في الأوراق القادمة من عند البائع الإفريقي، وعندما حاولت معالجة الأمر ابتزني مساعد مدير بجهاز الأمن وطلب مني رشوة بمليون دولار ونصف، وقد رفعت الشكوى وتسجيلات الصوت لوزير الداخلية”.
وأضاف رضا زراب، “بعد فترة اتصل بي صحفي وقال لي بأن لديه ملف عن تهم بالفساد موجهة لي، فحولته إلى أحد المحامين العاملين معي، فإذا به يبتزني ويطلب مني مليون دولار مقابل عدم نشر تلك الملفات، وكل هذا مسجل عندي، وقد أخبرت قاضي التحقيق بأن بإمكاني إعطاؤه تسجيلات هذه المكالمات”، مع العلم بأن زراب قام في الأيام الأخيرة بنشر بعض هذه التسجيلات على موقع يوتيوب، وقال زراب: “لقد قدمت كل هذه المعلومات لوزير الداخلية منذ أشهر، وبدأت في تقديم شكوى ضد مساعد مدير الأمن وضد الصحفي الذي ابتزني، ولكن الغريب أنهم هم يحاكمونني اليوم !!”.
ومن جهة أخرى حققت أمريكا أو لوبي المحافظين الجدد في أمريكا مصلحة اقتصادية أخرى، من خلال ضرب مؤسسة “هالك بنك” والذي اتهم رئيسه بالفساد، حيث كان هذا البنك يمثل شريان الحياة بالنسبة للعلاقات الاقتصادية التركية الإيرانية، وفي حال نجاح هذه الضربة في ردع البنك عن تعامله مع الإيرانيين، فإن أمريكا ستنجح في تضييق الحصار على إيران وإبقاء كل مفاتيح رفع الحصار حصريا بين أيديها.