ترجمة: أحمد القفاري
“الفوضى التي ستحدث في يوم من الأيام في جميع أنحاء العالم على إثر تجربتنا التي إمتدت 35 عاما مع النقود الورقية ستتطلب العودة إلى مال ذو قيمة حقيقية. سنعرف أن ذلك اليوم قد اقترب عندما تطلب الدول المنتجة للنفط الذهب مقابلاً له، أو ما يعادله بدلاً من الدولار أو اليورو. وخير البر عاجله” رون بول- عضو سابق في مجلس النواب الأمريكي
خط أنابيب نفطي قيد البناء في الصحراء السعودية … هذا واحد على ما يبدو متجه لحقل الغوار النفطي، واحد من أقدم الحقول في المملكة العربية السعودية ولا يزال الأكبر في العالم.
يمكن إرجاع طبيعة العلاقة المعقدة بين أسواق الطاقة و نظامنا المالي العالمي، إلى ظهور نظام البترودولار في السبعينات من القرن المنصرم، والذي كان مدفوعا بشكل رئيسي من قبل ظهور الولايات المتحدة كقوة عظمى اقتصادية وسياسية. كانت الولايات المتحدة المُصّدر الوحيد للنفط لما يقرب من عشرين عاما. استقلالها النسبي في الطاقة ساعد في دعم اقتصادها وعملتها. حتى عام ١٩٧٠ تمتعت الولايات المتحدة بفائض في ميزانها التجاري. الخبير النفطي ومؤلف كتاب “أثر النفط ” ، بيرترام بريكلمانون شرح التغير الدراماتيكي الذي حدث للاقتصاد الأمريكي حيث مر بعدة تحولات: أولا، تحول من كونه اقتصاداً مُصدِّراً للنفط إلى مستوردٍ له، ثم أصبح مستورداً للبضائع، وأخيراً أصبح مستورداً للمال. بدأت هذه الدوامة الكارثية تدريجياً ، لكنها أثّرَت في نهاية المطاف على الاقتصاد العالمي.
يعرف البترودولار بالدولار الأمريكي الذي يتلقّاه منتجي النفط مقابل بيع النفط. كما هو مبيّن في الرسم البياني أدناه، فإن الفجوة بين استهلاك وإنتاج النفط في الولايات المتحدة بدأت في الاتساع أواخر الستينات ، مما جعل الولايات المتحدة تعتمد على النفط المستورد.
قرية في الصحراء: مجمع في الصحراء يؤوي العاملين في حقل شيبة النفطي في المملكة العربية السعودية.
وعلى الرغم من أن هذا أدى لاحقاً إلى أن يصبح الدولار العملة الإحتياطية الأولى للعالم، إلى أن هذا أيضا ساهم في زيادة ديون الدولة. كان حظر تصدير النفط عام ١٩٧٣-١٩٧٤ضربة رئيسية أوضحت مدى عرضة الاقتصاد للخطر. إلا أنه وتحت شعار “الأمن القومي” عُيّن مسار السياسة المستقبلية بشكل واضح: ففي ورقة لمجلس الأمن القومي عام ١٩٧٣، ذُكر أنّ ” نفوذ الولايات المتحدة في شؤون الطاقة ناتج عن النفوذ الاقتصادي والسياسي مع المملكة العربية السعودية وإيران، وهما المصدرين الرئيسيين للنفط”.
إنتاج واستهلاك النفط وصافي الواردات النفطية للولايات المتحدة. بعد صعود كبير من عام 1950 وحتى أوائل القرن الحالي، تراجعت واردات الطاقة في الولايات المتحدة بشكل كبير منذ منتصف الألفية نتيجةً لطفرة النفط الصخري. بدأ هذا وبالإضافة إلى أمورأخرى يؤثرعلى السيولة الدولارية العالمية.
من النظام النقدي القائم على الذهب إلى نظام البترودولار
السيناتور الأمريكي السابق رون بول أوضح أنّ :”فهم نظام البترودولار والقوى المؤثرة فيه، هو أفضل طريقة للتنبؤ بموعد إنهيارالدولار الأميركي”. تعود أصول نظام البترودولار إلى إتفاقية بريتون وودز عام ١٩٤٤ والتي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذي جعل الدولار الأمريكي عملة الإحتياط الوحيدة.
مؤتمر بريتون وودز النقدي في فندق جبل واشنطن في يوليو ١٩٤٤
ومنذ ذلك الحين ونتيجة لتلك الإتفاقية ، أصبح الدولار الأمريكي العملة الوحيدة التي يمكن تحويلها للذهب بسعر ثابت قدره ٣٥ دولاراً للأونصة. وهذا يعني أيضا أن الولايات المتحدة فقط كانت قادرة على تغيير سعر الذهب، وفي المقابل ، إلتزمت الولايات المتحدة بالمحافظة على قيمة الدولار من خلال شراء وبيع كميات غير محدودة من الذهب على السعر المحدد سلفاً. في عام ١٩٤٥، كان لدى وزارة الخزانة الأمريكية ١٧،٨٤٨ طن من الذهب الخالص، وهو ماكان يمثل حوالي ٦٣٪ من إحتياطيات الذهب في العالم آنذاك. قدّم الدولار المدعوم بالذهب للعالم عملة إحتياط موثوقة ومستقرة. ولكن التصدعات بدأت تظهر في نظام بريتون وودز، بموازة إنحدار الفائض التجاري للولايات المتحدة بعد عام ١٩٦٠.
كانت إدارتي كيندي وجونسون تبالغان في طباعة المال، سواء كان ذلك لتمويل سباق الفضاء، أو للإنفاق على البرامج الإجتماعية المحلية، في حين كانت الحروب في كوريا وفيتنام تشكل عبئا كبيراً على ميزانية الولايات المتحدة، وكان عليها أن تصرف على تلك الحروب من خلال اللجوء إلى آليات تمويل الحرب المعتادة، أي من خلال السندات والديون. وهكذا، بدأت البلاد تعيش على الإئتمان بينما غُمرت المصارف في جميع أنحاء العالم بالدولار الأميركي. وبحسب الإتفاقية فإن هذه الدولارات تمثل مُطالبات على الذهب. في عام ١٩٧١، علقت الولايات المتحدة مؤقتاً نظام تحويل الدولار للذهب، ثم خفّضَت قيمة الدولار ليصبح سعر الصرف أمام الذهب ٣٨ دولاراً للأونصة.
ريتشارد ميلهاوس نيكسون مثال كلاسيكي لكون الحكومات وبشكل روتيني تكذب بشكل فج عندما تقرر أن تطبق خطوات لمواجهة “طوارئ اقتصادية” وهم من تسبب بها أصلاً. هذه الخطوات تعني دائماً أن ثروة أحد ما تُسرق أو تتلاشى لصالح “الدولة”.
لكن هذا أطلق على أية حال سعياً خلف الذهب، حيث كانت الدول الأوربية وبالأخص فرنسا وألمانيا متشككتين من خفضٍ آخر لسعر صرف الدولار أمام الذهب، وهو مانتج عنه تقلص إحتياطيات الولايات المتحدة من الذهب إلى ٢٨٨ مليون أونصة. لم يجد نيكسون بُداً من اللجوء لإقفال نافذة تقييم الدولار بالذهب في أغسطس من عام ١٩٧١، وللمرة الثانية خُفض سعر الدولار بمقدار ١٠٪ ، وبسرعة أصبح سعر أونصة الذهب ٤٢.٢٢ دولار. عنى هذا أن وزارة الخزانة الأمريكية تعثرت في الإلتزام بوعدها بدعم الدولار بالذهب ما جعل النظام المالي في ذلك الوقت غير مستدام.
سعر الذهب من ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣. في أواخر الستينات كانت هناك محاولة من قبل الحكومات للحفاظ على سعر الذهب تحت السيطرة من خلال التنسيق بين البنوك المركزية في بيع الذهب ” إتحاد لندن للذهب “، ولكنهم خسروا الذهب بسرعة في تلك المحاولة للتدخل في السوق و سرعان ما تخلوا عن ذاك الأمر. أنبأ هذا عن العجز في المحافظة على نافذة الذهب بنهاية المطاف. وكان اقتصاديون نقديون مثل ميلتون فريدمان قد قالوا لنيكسون أن سعر الذهب سينخفض إلى ٦ دولار إذا قامت الولايات المتحدة بالتخلي عن دعم الدولار بالذهب. وهذا يثبت مرة أخرى أن توقعات معظم الاقتصاديين لاتساوي الكثير.
كان عام ١٩٧٣عاما هاما للنفط: ظهرت أزمة حظر تصدير النفط كردة فعل على حرب أكتوبر، ولكنها أيضا كنات ردة فعل على إقفال نافذة الذهب (تقييم الدولار بالذهب). أصبح الدولار ليس أكثر من عملة ورقية، وأصبح بإمكان الإحتياطي الفدرالي (البنك المركزي للولايات المتحدة) السعي إلى التوسع النقدي دون عوائق تماما. كانت المشكلة الوحيدة التي تواجه الولايات المتحدة هي كيفية تحفيز الدول على إستخدام الدولار الأميركي والإحتفاظ به. ولكن لم تكن مشكلة لفترة طويلة، فالأمريكيون قد حددت عيونهم الهدف: المملكة العربية السعودية.
وفقاً لوثائق مسربة، كانت هناك أطراف أخرى ذات مصلحة حيث إشتركت في “تدبير” تلك التطورات سنة ١٩٧٣-١٩٧٤. عقد هنري كيسنجر اجتماعاً في بيلدربيرغ في هولندا مع مجموعة مؤثرة من الرجال، كان من بينهم: اللورد غرينهيل من شركة بريتيش بتروليوم، ديفيد روكفلر من بنك تشيس مانهاتن، جورج بول من ليمان براذرز وزبيغنيو بريجنسكي. أدرك جميعهم أن أوبك ” قد تُخل وتقوض النظام المالي العالمي”، وعليه قرروا أن يستهدفوا سلعة أوبك. كان النفط ليحفظ بنوكهم ومصالحههم المالية من إنهيار الدولار.
إلتقى كيسنجر مع الملك فيصل بن عبد العزيز في السعودية، لم يبدُ الأخير مقتنعاً تماماً في البداية. في النهاية، أدركت العائلة المالكة السعودية كيف يمكن أن تكون هذه صفقة عظيمة لهم.
عقب ذلك بوقت قصير، إلتقى كيسنجر بملك السعودية، وبوصفه الوسيط إستطاع توجيه الأحداث في الإتجاه الذي كان من شأنه أن أدى إلى مقايضةٍ بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة. ما لم يكن معروفا حتى أفصح عنه مؤخراً، هو أنه كان هناك إجتماع سري آخر بين السعوديين والمعين حديثا آنذاك كوزير الخزانة الأمريكية، وليام سايمون. كان الهدف هو العثور على طريقة لتحويل السعوديين من كونهم غير وديين إلى حلفاء للولايات المتحدة وبذلك إستخدام نظام البترودولار لإحياء الاقتصاد الأمريكي المتداعي. لم يكن نيكسون ليقبل “لا” كإجابة، ليس لأنها مسألة أمن اقتصادي فقط، ولكن أيضا لمنع الإتحاد السوفيتي من دخول المنطقة من خلال هذه الزاوية الحرجة.
وزير الخزانة الأمريكي السابق وليام سايمون. ظهرت المعلومة في الآونة الأخيرة فقط، وهي أنه ذهب فعلا في مهمة سرية إلى المملكة العربية السعودية لإقناع السعوديين ببيع النفط بالدولار الأمريكي فقط وإعادة تدوير العائدات في سندات الخزانة الأمريكية.
عرف سايمون كيف يسوق فكرته: أميركا هي الأكثر أمانا بالنسبة للسعوديين لإستثمار عائدات النفط ولم يكن أحد ليعلم بذلك (لم تكن بيانات الإستثمارات السعودية تُكشف على حدة، بدلا من ذلك، تُجمع مع الدول الأخرى المصدرة للنفط). كما هو مبين في الرسم البياني أدناه، السعودية اليوم هي أكبر دائن أجنبي للولايات المتحدة بواقع ١١٧ مليار دولار مقارنةٍ بالدول المصدرة للنفط الأخرى والحاملة لسندات الخزانة الأمريكية.
سندات الخزانة الأمريكية التي تحتفظ بها الدول المصدرة للنفط. في هذه المجموعة، المملكة العربية السعودية هي أكبر دائن للولايات المتحدة.
وهكذا، شُكلت شراكة وتحالف استراتيجي: وافقت الولايات المتحدة أنها ستضمن بقاء بيت آل سعود، وتوفير الأمن العسكري لحقول النفط السعودية، فضلا عن توفير الأسلحة العسكرية والمدفعية للحكومة السعودية. وفي المقابل، فإن المملكة العربية السعودية ستسخدم نفوذها في أوبك لضمان أن جميع المعاملات ستجرى بالدولار الأمريكي، بالإضافة إلى إستثمار عائدات مبيعات النفط السعودية في الأدوات الإستثمارية بالولايات المتحدة، والحفاظ على التأثير على مستويات الأسعار ومنع إجراء حظر تصدير النفط مرة أخرى.
شكل هذا التحالف نقلة نوعية، أي الإنتقال إلى “نظام البترودولار”. مكّن هذا الولايات المتحدة من ملء الفراغ الذي خلفه قرار إغلاق نافذة الذهب.ساهمت التكتلات النفطية والمؤثرين بالتمويل بتأمين تدفق الأموال من خلال خلق موجة جديدة من الطلب على الدولار الأميركي. وعلى الرغم من أن هذا الطلب كان مصطنعاً وبلا أساس، إلا أنه دُعم من قبل الطلب المتزايد على النفط في جميع أنحاء العالم. مكّن هذا الطلب وبنجاح إستمرار التوسع النقدي الأمريكي، على الأقل حتى بداية الأزمة المالية العالمية والنقطة التي نجد أنفسنا فيها الآن.
هل هناك نقلة نوعية أخرى قادمة؟
على غرار النقلة النوعية التي أعقبت إنهيار نظام بريتون وودز، هناك تحول رئيسي آخر يجري في الوقت الحالي. وفقا لرون بول، سنعرف عواقبه بالكامل عندما تبدأ الدول المنتجة للنفط بطلب الذهب مقابل النفط بدلاً من الدولار.
منشأة روسنفت في سيبيريا
ولقد بدأنا بالفعل نرى تغييرات في إتفاقات بيع النفط في السنوات الأخيرة. في عام ٢٠١٣، وافقت شركة روسنفت الروسية على تزويد الصين بما يعادل ٢٧٠ مليار دولار من النفط، وهو أكبر اتفاق حتى الآن. بالإضافة إلى أن العديد من دول أوبك بدأت بقبول صفقات نفط بعملة أخرى غير الدولار الأمريكي. كيف ذلك؟ في يناير كانون الثاني عام٢٠١٦، إتفقت الهند وإيران على تسوية مبيعات النفط بالروبية الهندية. في عام ٢٠١٤، إتفقت الصين مع قطر على أن تكون الأخيرة مركزاً لتخليص المعاملات باليوان الصيني. في ديسمبر ٢٠١٥، وافقت الإمارات العربية المتحدة والصين على إتفاقية جديدة لتبادل العملات. تشير كل الخطوات السابقة وبقوة، أن دول الخليج تسعى إلى إيجاد تدابير للحد من اعتمادها وإنكشافها على الدولارالأمريكي.
ولذلك فمن الواضح لماذا تتجه الأنظار للإضطرابات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. كما أن المخاوف قد تكثفت بعد محاولة التدخل العسكري الفاشلة التي قامت بها الولايات المتحدة (العراق)، وتضاعف الموقع الإستراتيجي للمملكة العربية السعودية في المنطقة و تزايد قوة إيران بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها.
الرئيس أوباما وملك المملكة العربية السعودية الجديد سلمان وجدا شيئا ليضحكا منه. في الواقع، العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية تدهورت بشكل مطرد في السنوات الأخيرة، على الرغم من أن التصريحات الرسمية بخلاف ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية في الوقت الراهن ذات أرضية مهتزة. في أبريل، حذرت السعودية أنها يمكن أن تمضي قدما في بيع ماقيمته المليارات من سندات الولايات المتحدة، إذا أقر الكونغرس مشروع قانون من شأنه أن يسمح بمحاكمة المملكة في المحاكم الأمريكية بوصفها مسؤولةً عن هجمات ١١ سبتمبر الإرهابية. هذا القانون مرره بالفعل مجلس الشيوخ في مايو والآن أصبح في مجلس النواب، لكن التصويت لم يجدول بعد. وعلى الرغم من أن التهديد السعودي لم يتحقق حتى الآن، ولكن لو حدث هذا، فإنه يعني سحب مليارات الدولارات من الاقتصاد الأمريكي ومن المتوقع أنه سيترتب على أمر كهذ نتائج كارثية.