وقعت محاولة الانقلاب الفاشلة على الحكومة التركية المنتخبة مساء يوم الجمعة الـ 15 من يوليو، تاركة ورائها حالة من الجدل في المحيط الدولي والإقليمي، بعدما تمكنت حكومة حزب العدالة والتنمية من إفشال المحاولة واستعادة زمام المبادرة أمام مجموعة العسكريين المتمردين.
قامت الحكومة التركية بمجموعات إجراءات استثنائية واحترازية كرد فعل على محاولة الانقلاب الفاشلة، والتي اتهمت بالضلوع فيها جماعة الخدمة بزعامة “فتح الله غولن” المقيم بالولايات المتحدة، والذي تطلق أنقرة على تنظيمه اسم “الكيان الموازي” وتتهمه بمحاولة السيطرة على مفاصل الدولة بطرق غير شرعية.
الإجراءات المتخذة من قبل الحكومة التركية أثارت جدلًا واسعًا ليس في الداخل التركي، وإنما في الخارج وبالتحديد لدى غالبية الدول الأوروبية التي أعلنت معارضة الحملات التطهيرية التي أعلنتها السلطات الحكومية لتتبع العناصر الانقلابية في الجيش، وكذلك الموالين للكيان الموازي في أجهزة الدولة المختلفة.
وبالطبع هذه الإجراءات ستسفر عن تغيير وجه تركيا في المستقبل، لا سيما تلك التي تتعلق بثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي “ناتو”، الجيش التركي، الذي تعمل الحكومة المنتخبة حاليًا لإخضاعه للسيطرة المدنية التامة في تركيا، في سابقة ستكون تاريخية بلا شك في حال تمت على هذا النحو.
وكذلك تعمل إجراءات الحكومة على تصفية جيوب جماعة الخدمة “الكيان الموازي” داخل أجهزة الدولة التركية، كما تجهز على مصادر تمويلها وتجنيدها فيما يُعرف بسياسة “تجفيف المنابع”، بعد توجيه الاتهام المباشر للجماعة بالضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة عن طريق العسكريين الموالين لها في الجيش، وكذلك محاولة اغتيال رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان عشية المحاولة الانقلابية.
بين هذه الأحداث المتتالية وآثار العملية الانقلابية الفاشلة، ووجهات النظر المتباينة من خطوات الحكومة التركية الأخيرة، ربما جدير أن يُعرف نظرة الحكومة التركية لمستقبل الفترة القادمة خاصة بعد هذه القرارات التاريخية التي تشهدها تركيا على أكثر من صعيد.
كيف تنظر أنقرة إلى المستقبل؟
البروفسير إبراهيم كالين المتحدث باسم الرئاسة التركية وأحد أبرز مستشاري الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حديثه مع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عن تداعيات المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو الماضي على مستقبل تركيا.
يرى كالين أن ما حدث محاولة اعتداء على التجربة الديمقراطية التركية ككل تصدى لها الشعب بكل طوائفه وفي مقدمته النخب السياسية التركية المعارضة التي تعاملت مع الموقف بنضج بحسب وجهة نظره، وهو ما أثبت الإيمان بالقيم الديمقراطية والحريات في تركيا، وهو الأمر الذي يعطي الأمل في مستقبل الديمقراطية التركية.
وأما على جانب المواقف الدولية والإقليمية من المحاولة الانقلابية الفاشلة، يرى كالين أن الشعب التركي كان يتوقع الدعم الكامل من الدول الغربية وليست الإدانات فقط الممهورة بتحذيرات لتركيا من محاكمة المتآمرين، وهي تحذيرات وصفها كالين بأنها ذهبت إلى حدود غير معقولة، حتى يرى أنه بعض وسائل الإعلام الغربية هاجمت الحكومة التركية وكأنها هي التي نفذت انقلاب عسكري.
كالين: الشعب التركي كان يتوقع الدعم الكامل من الدول الغربية وليست الإدانات فقط الممهورة بتحذيرات لتركيا من محاكمة المتآمرين
فلقد كانت تركيا بحسب حديث كالين تتوقع من “شركائها الأوروبيين الوقوف إلى جانب الحكومة المنتخبة ديمقراطيًا من البداية، وليس هناك أي معنى لإدانة الانقلاب دون اتخاذ أي إجراءات ضد مدبري هذا الانقلاب.
عقوبة الإعدام والموقف الأوروبي
حول ما يُثار عن السعي لإعادة العمل بعقوبة الإعدام في تركيا، يقول البروفسير إبراهيم كالين أن عائلات وذوي ضحايا المحاولة الانقلابية هم من يطالبون بإعادة هذه العقوبة، والبعض تصور أن الرئيس هو من طرح هذه الفكرة، والحقيقة أن المطالب الشعبية تصل إلى طاولة البرلمان الذي له حق في مناقشتها، في حين يتطلب أمر كهذا موافقة أغلبية الثلثين في البرلمان، ما يعني لزوم التوافق المجتمعي والسياسي على تعديل الدستور.
وعن ما تتوقع تركيا من أوربا في هذه اللحظة يقول البروفسير كالين أنه على أوروبا الوقوف بحزم ضد هذه المحاولة الانقلابية الغير شرعية، ودعم الإجراءات الشرعية التي تتخذها الحكومة التركية أمام هذه التهديدات الإرهابية.
كما دعا كالين قادة الاتحاد الأوروبي لزيارة تركيا تضامنًا مع الشعب التركي، ودعاهم أيضًا للحضور ورؤية الأماكن التي دمرت من قبل الانقلابيين، مثل البرلمان التركي، و المجمع الرئاسي، ومقر قوات الشرطة، ووكالة الاستخبارات الوطنية التركية، ومقرات وسائل الإعلام المختلفة.
كالين: على أوروبا الوقوف بحزم ضد هذه المحاولة الانقلابية الغير شرعية، ودعم الإجراءات الشرعية التي تتخذها الحكومة التركية أمام هذه التهديدات الإرهابية.
يُشير كالين إلى أنه من الصعب ألا يزور أي رئيس من دول الاتحاد الأوروبي تركيا منذ 15 يوليو، ومن العار بحسب قوله أن يدين مسؤولو الاتحاد الأوروبي محاولة الانقلاب بعبارة وأمامها عشرة عبارات لانتقاد الحكومة التركية بسبب ملاحقة أتباع الكيان الموازي في القوات المسلحة والشرطة والقضاء وغيرها من القطاعات العامة.
الموقف من الكيان الموازي
يتحدث كالين ويقول أن على أوروبا أن تعي التهديد الذي يمثله الكيان الموازي لتركيا وهو ما سيهدد بالتبعية الاستقرار الإقليمي والعالمي، مشيرًا إلى تسبب تسلل أتباع الكيان الموازي في مؤسسات الدولة التركية في زعزعة هذا الاستقرار في تركيا عبر محاولة الانقلاب.
ويرى أيضًا أن الغرب لا يمكن أن يتغافل عن أدوات واستراتيجيات هذا التنظيم الغير قانونية المتمثلة في تسريب الوثائق الرسمية، وحملات التشهير، وتصفية الحسابات باستخدام السلطة القضائية والأمنية، وقد عانت تركيا من هذه الأمور خلال الأعوام الماضية.
حاول كالين تقديم بعض الدلائل على إدانة غولن في المحاولة الانقلابية، حيث ذكر بعض الشهادات والأدلة التي جمعتها فرق تقصي الحقائق والتي تشير جميعها إلى انتماء مدبري الانقلاب إلى جماعة الخدمة، وشهادة رئيس الأركان تؤكد ذلك، حيث ذكر أنه طلب منه تأييد الانقلاب والحديث إلى فتح الله غولن مباشرة، مشيرًا إلى أنه يتم الآن جمع الأدلة الموثقة وإخراجها للرأي العام تباعًا.
أما عن موقف الولايات المتحدة من تسليم فتح الله غولن على خلفية كل هذه الاتهامات، فإن كالين يرى أن لديهم ثقة بأن الولايات المتحدة سوف تتعاون مع تركيا في هذا الصدد، لأن غولن يشكل تهديدًا للأمن القومي التركي، ونحن نطلبه لأجل تسليمه إلى العدالة، وهو أمر ذو أولوية لدى تركيا، بحسب ما ذكر كالين.
التقارب مع روسيا
مع توجه الرئيس أردوغان إلى روسيا في الـ 9 من أغسطس القادم، تثار التساؤلات حول ما إذا كانت هذه الزيارة على خلفية التوترات مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، فيما يُلمح البعض إلى اتجاه أنقرة بشكل أقرب إلى الدب الروسي بعد إشارات مبطنة بضلوع الولايات المتحدة في هذا الانقلاب أو بالموافقة على تمريره في أقل تقدير.
المتحدث باسم الرئيس التركي تحدث في هذا الصدد ورأى أن روسيا شريكًا لتركيا بالرغم من التوترات التي تلت حادث إسقاط الطائرة الروسية، ولكن هناك قضايا مشتركة الآن ستكون على رأس أولويات البلدين في القمة الرئاسية المرتقبة، ومحاولا تحسين العلاقات بين البلدين مستمرة من قبل محاولة الانقلاب، وتركيا تقدر دعم الرئيس بوتين للحكومة التركية بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، كما أننا أشرنا مرارًا إلى أن روسيا فاعل إقليمي هام، وعلينا بشكل عام تطوير علاقتنا وتحسينها مع دول الجوار.
كالين: روسيا شريكًا لتركيا بالرغم من التوترات التي تلت حادث إسقاط الطائرة الروسية
هل ستتراجع الديمقراطية التركية؟
هناك مخاوف من عمليات التطهير واسعة النطاق داخل الجهاز الحكومي تستهدف أتباع الكيان الموازي غولن، ولكن هناك مخاوف ترددت أنه ليس بالضرورة أن يكون كل هؤلاء الأشخاص شاركوا في محاولة الانقلاب
ويرد إبراهيم كالين على هذا بأن العمل حاليًا يجري على التحقيق في أمر الموقوفين، حيث أشار إلى أن وكالة الاستخبارات الوطنية تجري تحقيقًا موسعًا مع المشتبه بهم، في صلاتهم مع مدبري الانقلاب. ومن بين هؤلاء صحفيين ومحامين وغيرهم، وأولئك الذين تثبت برائتهم يُطلق سراحهم على الفور، ومن تثبت إدانته سيواجه محاكمة عادلة. كما اشار إلى أن في واقع الأمر، أفرج عن عدد من الجنود والمدنيين بعد تقديم شهاداتهم.
جميع الأدلة حتى الآن تشير إلى أن مجموعة تابعة للكيان الموازي داخل الجيش كانت وراء محاولة الانقلاب، والتحقيقات الجارية سوف تكشف عن الصورة الكاملة، ومن الذي خطط له ونفذ من قبل مجموعات في الجيش، ومن دعم من الآخرين في الشرطة والدرك والقضاء والإعلام، والقاسم المشترك بين هؤلاء في وجهة نظر كالين هو انتمائهم للكيان الموازي بحسب التحقيقات الأولية.
شرح كالين خطورة المنظمة السرية للكيان الموازي داخل الدولة التركية، والتي يصعب على الغرب تخيلها، كما أخذ في توضيح استراتيجية فتح الله غولن وأتباعه، واستشهد بكتابات تركية عديدة حول هذا الأمر، موضحًا أن الأمر بالفعل عصي على فهم الغرب، لكنهم يبذلون جهودهم لتوثيق كافة هذه الأدلة.
العلاقات المدنية العسكرية
يؤكد البروفسير إبراهيم كالين أن العلاقات المدنية العسكرية في تركيا دائمًا ما مثلت إشكالية مع حزب العدالة والتنمية منذ صعوده إلى السلطة في عام 2002، حيث حاولت حكومات الحزب دائمًا إقامة التوازن ولكن لصالح السيطرة المدنية على القوات المسلحة، وهو ما يمثل حجر الزاوية للديمقراطية في وجهة نظره.
ويرى أن نتيجة هذه العملية استغل الكيان الموازي الموقف لوضع أعضائه في الجيش التركي. ونتيجة لذلك أيضًا فإن شبكة من الكيان الموازي تعززت داخل الأجهزة الرئيسية للدولة، على خلفية رغبة الحكومة في فرض السلطة المدنية على كافة مؤسسات الدولة في تركيا.
كالين: العلاقات المدنية العسكرية في تركيا دائمًا ما مثلت إشكالية مع حزب العدالة والتنمية منذ صعوده إلى السلطة في عام 2002
حديث البروفسير إبراهيم كالين يأتي في ظل حملة حكومية لإعادة هيكلة الجيش التركي، وهي غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة، حيث تعزز من السيطرة المدنية على الجيش، وترجع قيادته الفعلية للحكومة المنتخبة، وعلى إثر هذه الحملة، أعلن رئيس الأركان الأمريكي عن زيارة سريعة لتركيا يُعتقد أنها متعلقة بهذه التغييرات بعد موقف واشنطن المضطرب منها والادعاء أنها ستؤثر على التعاون في الحرب على الإرهاب، وهو ما نفته أنقرة في الحال.