جاء لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، مع رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في الخارج مريم رجوي، في باريس أوائل الأسبوع الجاري على هامش زيارته لمناقشة المبادرة الفرنسية للسلام، ليشعل فتيل الأزمة من جديد بين الجانبين، الفلسطيني والإيراني.
اللقاء الذي لم يستمر أكثر من ساعة واحدة فقط، استفز طهران بصورة كبيرة، ما دفع كبار مسئوليها لشن حملة انتقادات ضد الرئيس الفلسطيني، وصلت في بعضها لاتهامه بالخيانة والعمالة لصالح أمريكا والكيان الصهيوني، وهو ما اعتبرته رام الله تطاولا غير مقبول، يستوجب الاعتذار الفوري من الجانب الإيراني.
وبالرغم من تأكيدات أبو مازن أن اللقاء مع رجوي لم يتطرق للشأن الداخلي الإيراني إلا أن رد الفعل هنا وهناك أوصل الطرفين إلى نفق مسدود..فما هو مصير العلاقات بين البلدين عقب هذه الأزمة؟ وكيف ستؤثر على علاقات حركة حماس مع أبومازن وحكومته؟ ومن هو المستفيد الحقيقي من اشتعال وتوتر العلاقة بين الجانبين؟
العلاقات الإيرانية الفلسطينية
مرت العلاقات الفلسطينية الإيرانية بموجات متعددة من المد والجذر، لاسيما فيما يتعلق بعلاقة طهران بالكيان الصهيوني، لكنها في نهاية الأمر تصب في الاعتراف الكامل بدولة فلسطين المستقلة، ودعم حركات المقاومة والتحرر، ويمكن تأريخ العلاقات بين الجانبين إلى مرحلتين أساسيتين.
الأولى:ما قبل الثورة الإيرانية
تحت حكم الشاة محمد رضا بهلوي، وقبيل الثورة الإسلامية، كانت العلاقات بين طهران وتل أبيب في أوج عهدها وقوتها، حيث كانت إيران – على المستوى الرسمي- من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان الصهيوني، فضلا عن الارتباط فيما بينهما بعلاقات تجارية وعسكرية – علنية في بعضها وسرية في بعها الأخر- .
وفي المقابل كانت فصائل المعارضة الإيرانية على علاقة قوية بالجانب الفلسطيني، حيث قدمت لها العديد من المساعدات العسكرية، ومنها تقديم السلاح لمنظمة التحرير الفلسطينية من أجل مقاومة الوجود الصهيوني، إضافة لعلاقات اقتصادية قوية، كان بعضها بموافقة ضمنية من الحكومة الإيرانية.
وفي حرب 1967، قدمت إيران للمقاتلين الفلسطينيين الأموال والذخائر، وعقب هزيمة العرب، طلب الفلسطينيون اللجوء إلى إيران، والتي رفضت إيواءهم حفاظا على علاقتها مع الكيان الصهيوني.
الثاني: ما بعد الثورة الإيرانية
وحين قامت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، كانت منظمة التحرير الفلسطينية أول الداعمين لها، وبعد أيام قليلة من قيامها، ترأس زعيم المنظمة ياسر عرفات وفد فلسطيني إلى إيران، حيث تم استقبالهم بصورة أسطورية، كما تم تسليمهم رمزياً مفاتيح السفارة الإسرائيلية في طهران، التي أصبحت فيما بعد سفارة فلسطينية، ومن هنا دخلت العلاقات الفلسطينية الإيرانية مرحلة جديدة من الوفاق والتعاون المشترك.
ومما ساهم في قوة ومتانة العلاقات بين الجانبين، إفراج عرفات عن عناصر من حركتي حماس والجهاد الإسلامي المعتقلين على خلفية الانتفاضة الفلسطينية الثانية في سبتمبر 2000، وهو قرار اعتبرته طهران خطوة إيجابية نحو تفعيل التعاون بين الجانبين، وهو ما كان بالفعل، حيث أرسلت إيران سفينة محملة بالأسلحة المتطورة في عام 2002 لدعم المقاومة الفلسطينية لكن قوات الكوماندوز الإسرائيلية ألقت القبض عليها قبيل وصولها لشواطئ غزه.
الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ونظيره الإيراني محمد خاتمي
حماس نقطة الاتفاق والخلاف
تمثل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” البوصلة الرئيسية التي تحدد اتجاه العلاقات بين إيران وفلسطين، والترمومتر الحقيقي الذي يقيس درجة حرارتها، فقوة العلاقة بين حماس وفتح تعكس ضمنيا علاقات جيدة مع الجانب الإيراني، وأي توتر بينهما يشير إلى فتور في العلاقات مع طهران، وهكذا.
منذ صعودها السياسي في غزه، كانت حماس الابن المدلل لإيران، احتضنتها بالتمويل والدعم المادي والعسكري في مسيرتها نحو مقاومة الكيان المغتصب، وهو ما ساعد الحركة في تحقيق العديد من المكاسب على الأرض بالرغم من البون الشاسع في مستوى التسليح قياسا بالجيش الصهيوني.
الصعودي السياسي لحركة حماس أستفز القيادة الفلسطينية في رام الله، مما دفعها لوقف الدعم المقدم لها في محاولة لإحراجها محليا أمام الفلسطينيين، وهو ما تداركته طهران برفع مستوى الدعم المقدم للحركة
وبعد وفاة ياسر عرفات في 2004، وما تلاها من انسحاب قوات الاحتلال من غزة في 2005، ارتفع رصيد حماس بصورة كبيرة، ووجد فيها الفلسطينيون الأمل في الخروج من هذا المأزق، وتعويض ما أفسده حكم حركة فتح بقيادة محمود عباس أبو مازن، وهو ما أدى إلى نجاح الحركة في الانتخابات الفلسطينية عام 2006 وتشكيلها الحكومة.
الصعودي السياسي لحركة حماس أستفز القيادة الفلسطينية في رام الله، مما دفعها لوقف الدعم المقدم لها في محاولة لإحراجها محليا أمام الفلسطينيين، وهو ما تداركته طهران برفع مستوى الدعم المقدم للحركة بما يعوضها عما كانت تحصل عليه من فتح.
واستمر اتهام الرئيس الفلسطيني لحماس بتلقي التمويل والدعم المتواصل من إيران، في إطار الحرب المعلنة ضد الحركة ومشروعها المقاوم للكيان الصهيوني، إلى أن تراجع الدعم المقدم من طهران لحركة المقاومة، بسبب دعم الأخيرة للمعارضة الثورية في سوريا ضد الأسد ونظامه، فضلا عن التقارب مع السعودية بصورة لم ترضى عنها طهران.
خالد مشعل القيادي بحركة حماس مع المرشد الإيراني
أبو مازن – رجوي..لقاء الأزمة
لقاء الرئيس الفلسطيني مع رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في الخارج، وزعيمة المعارضة، مريم رجوي، في باريس مساء السبت الماضي، أدخل العلاقات الإيرانية – الفلسطينية غرفة الإنعاش من جديد، لاسيما بعد التراشق الإعلامي والسياسي بين الجانبين.
من الجانب الإيراني..شنّ محسن رضائي أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، هجوما لاذعا ضد الرئيس عباس، معقبا على لقاءه بزعيمة المعارضة الإيرانية “التقى عنصرا فاشلا آخر، ويحاول دعم زمرة المنافقين ضد الجمهورية الإيرانية”، إضافة إلى وعيده وتهديده قائلا: “سنكسر قدم كل من يتخذ أدنى خطوة ضد الشعب الإيراني”.
التقى عنصرا فاشلا آخر، ويحاول دعم زمرة المنافقين ضد الجمهورية الإيرانية
فيما قال مستشار وزير الخارجية الإيراني حسين شيخ الإسلام، تعقيبا على اللقاء أيضا “هناك خط نفاق يعادي الثورة الإسلامية منذ انطلاقتها، وهو ما نراه مستمراً إلى اليوم”، وأضاف حسب ما نقل عنه “هذا الخط النفاقي يجمع كل العناصر المدعومة من أمريكا والكيان الصهيوني”، كما اتهم عباس بالعمالة لصالح جهاز المخابرات الأمريكية، وقال “تصرفاته على مدى العقود اللاحقة أثبتت ذلك”.
وفي المقابل لم يقف الجانب الفلسطيني مكتوف الأيدي حيال هذا الهجوم الضاري، حيث استنكر الدكتور صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هذا الهجوم غير المبرر، مهددا أنه في حال لم تتلقَ القيادة الفلسطينية اعتذاراً دبلوماسياً من الحكومة الإيرانية، فإنها بصدد اتخاذ “موقف دبلوماسي من شأنه تعكير الأجواء بين الجانبين”، ربما في إشارة ضمنية إلى سحب منظومة التحرير لممثلها في طهران حسب توقع خبراء.
عريقات أكد أن القيادة الفلسطينية لن تصمت طويلا على هذه التصريحات، ملفتا إلى أن تقديم الجانب الإيراني للاعتذار مسألة لا تقبل النقاش، تجنبا لأي تصعيد من الجانبين، مشيرا أن الرئاسة الفلسطينية ومنظمة التحرير “ترفضان مثل هذا التطاول على قيادة الشعب الفلسطيني”.
أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، نوه إلى أن التطاول الإيراني على القيادة الفلسطينية لم يكن المرة الأولى، بل سبقها جولات متعددة من تطاول مسئولين إيرانيين على شخصيات من السلطة الفلسطينية، إلا أن هذه المرة الذي يتجاوز فيها حجم النقد إلى التجريح والسب والقذف في شخص رئيس الدولة، وهو ما لا يمكن السكوت عنه.
أما فيما يتعلق بالرد على الاتهامات الإيرانية بشأن لقاء عباس – رجوي، أكد عريقات أنه لا علاقة لهذا اللقاء بالشأن الإيراني الداخلي، وإنه لم يتطرق لبحث أي من القضايا الإيرانية خلال اللقاء، بل تطرق الأمر إلى مسائل أخرى لا علاقة لها بالوضع في إيران من قريب أو بعيد، مشيرا إلى أن القيادة الفلسطينية تسعى دوماً إلى نسج علاقات جيدة مع كافة القوى الإقليمية والعالمية وحركات التحرر في كافة أنحاء العالم.
وفي نفس السياق، شنت حركة فتح بدورها هجوما على هذه التصريحات قائلة:”إنه يثبت فظاعة دور القائمين على خدمة المشروع الصهيوني بحملاتهم المنظمة على رئيس الشعب الفلسطيني وقائد حركة تحرره الوطنية، وعلى القضية الفلسطينية”، متهمة القيادة الإيرانية بالعمل على إحلال الدمار والموت والحروب الأهلية الداخلية والفتنة المذهبية في كل بلد عربي استطاعت الوصول إليه، فضلا عن السعي إلى تدمير وتخريب الصف الفلسطيني، و تعميق الانقسام، من خلال الوقوف خلف حماس في مواجهة فتح ومنظمة التحرير من أجل اكتساب مواقع متقدمة لمصالحهم، على حد قولها.
كما شككت فتح في مبررات إيران بأنها تعمل لصالح القضية الفلسطينية، مشيرة أن طهران لا علاقة لها بالقدس، بل تكرس لمصالحها في المنطقة فحسب، محذرة من المساس بالرئيس عباس الذي قالت إنه يمثل “ضمير الشعب الفلسطيني” وأنه “خط أحمر لن يسمح لأحد الاقتراب منه بالإساءة أو التشكيك بإخلاصه للشعب الفلسطيني الذي انتخبه”.
أمام هذا التصعيد الخطير من قبل الجانب الفلسطيني لم تجد طهران سبيلا لتهدئة الأوضاع سوى التراجع خطوة للوراء قليلا، لاسيما بعدما فقدت جزءا كبيرا من رصيدها الفلسطيني جراء التقارب مع الجانب السعودي، وهو ما يدفعها للحيلولة دون تأزم الوضع أكثر مما هو عليه.
عباس هو”ضمير الشعب الفلسطيني” وأنه “خط أحمر لن يسمح لأحد الاقتراب منه بالإساءة أو التشكيك بإخلاصه للشعب الفلسطيني الذي انتخبه”.
السفير الفلسطيني في باريس سلمان الهرفي، كشف في تصريحات صحفية له أمس عن تلقي الرئيس الفلسطيني أبو مازن رسالة من القيادة الإيرانية عن طريق سفير طهران لدى فرنسا، والذي بدوره طلب نقلها للرئيس عباس.
الهرفي أوضح أن الرسالة وصلت الرئيس، وأنه سيتم الرد عليها قريبا، لكنه رفض الكشف عما احتوت من مضمون، لكنها في نهاية الأمر تصب في تبرير الجانب الإيراني لموقفه، وهو ما قد يحمل اعتذارا ضمنيا يحفظ كرامة الفلسطينيين، ويلطف الأجواء بين الجانبين، حسبما أشار مقربون من دوائر صنع القرار الفلسطيني.
مريم رجوي رئيسة المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية في الخارج
من المستفيد؟
في نظرة سريعة على خارطة التحالفات داخل فلسطين والدور الإيراني بها يمكن الوقوف على أن هناك محورين أساسيين يحركان الوضع الداخلي، الأول: تحالف عباس – السعودية – إسرائيل، وهو محور يميل إلى لغة الحوار والتعاون المشترك بعيدا عن التصعيد والتوتر، وقد دخلت الرياض هذا التحالف مؤخرا بعد خطوات التطبيع التي قامت بها مع الكيان الصهيوني، فضلا عن الدعم المستمر لحكومة عباس وحركته.
هذا التحالف الأقوى على الأرض حتى الآن تجمعه عدد من المصالح المشتركة، في مقدمتها ” التصدي لإيران” وإجهاض كافة مساعيها في الشرق الأوسط، وهو ما سعت إليه الرياض من خلال تحالفها مع تل أبيب، كذلك ما رأت فيه الأخيرة فرصة سانحة لاغتيال الحلم الإيراني في المنطقة، أما عن عباس فهو أميل لمن يدفع أكثر، ومادامت علاقته بالكيان الصهيوني جيدة، والتمويل السعودي مستمر، فلا بأس من دعم توجهاتهم في مناهضة إيران والاشتباك معها سياسيا مابين الحين والأخر، خاصة أن إيران هي الداعم الأول لخصمه اللدود، حركة حماس.
أما المحور الثاني: تحالف حماس – إيران، وهو الأكثر تعرضا للخروقات والانتهاكات في الآونة الأخيرة، لاسيما بعد التوتر الذي شاب العلاقات بينهما جراء الدعم الحمساوي للثورة السورية وهو ما اعتبرته طهران تغريدا خارج السرب، وعرقلة لمخططاتها في المنطقة، إضافة إلى استمالة الرياض للقيادة الحمساوية، ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام طهران.
الجنرال السعودي السابق أنور عشقي خلال زيارته لتل أبيب مؤخرا
مما سبق يتضح أن توتر العلاقات الفلسطينية – الإيرانية يصب في نهاية الأمر لصالح المشروع الصهيوني الرامي إلى إحداث الوقيعة بين جميع الأطراف، والعمل على تفعيل مبدأ ” فرق تسد” من خلال بث روح الفرقة والخلاف بين الجميع، وهذا ما يفسر لغة التصعيد غير المسبوقة من الجانب الفلسطيني على الهجوم الإيراني، وهو ما لم نراه مثلا في رد فعله على غزو غزه، وقتل الأبرياء والأطفال والنساء جراء القصف الوحشي الصهيوني على منازل الفلسطينيين بالقطاع المحاصر.
كذلك تعد المملكة العربية السعودية أبرز المستفيدين أيضا من هذا التوتر، فخسارة خصمها اللدود رقعة جديدة في أرضه تعد انتصارا يضاف إلى سلسلة الانتصارات التي حققتها الرياض في الآونة الأخيرة ضد طهران، لاسيما في إفريقيا…فهل تقع إيران في الفخ وتفقد أخر قدم لها في القضية الفلسطينية، أم تتدارك الأمر وتتشبث بحضورها – ولو كان باهتا- من خلال تسوية الوضع وتهدئة الأجواء سريعا قبل فوات الأوان؟