ترجمة وتحرير نون بوست
شهد تاريخ العلاقات الأمريكية التركية خلافات دبلوماسية عديدة خلال العقود الأخيرة، لكن الخلاف حول فتح الله غولين الذي تطور بعد الانقلاب الفاشل في تركيا قد يكون الأخطر دبلوماسيا.
إن التوتر الذي تشهده العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا بعد الانقلاب الفاشل الذي هزّ تركيا في الشهر الماضي، وعدم موافقة واشنطن على طلب تسليم فتح الله غولين الذي تعتبره تركيا العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الدموي، يمكن أن يكون الفصل الأخير في سلسلة التوترات التاريخية التي تشهدها العلاقات الثنائية بين أنقرة وواشنطن.
قد لا يكون للولايات المتحدة يدٌ في نشاطات فتح الله غولين، لكنّ كلما تشبثت واشنطن برفض تسليمه لأنقرة، إلا وازدادت قناعة الشعب التركي أن الولايات المتحدة تقف وراء هذه المحاولة الانقلابية.
وتجدر الإشارة إلى أن معاداة أمريكا ليست ظاهرة جديدة في تركيا. لكن خلافا لما كان يحدث منذ نصف قرن من الزمن، فإن توترات ما بعد الانقلاب الفاشل يمكن أن تؤدي إلى “حرب أهلية” في حلف الناتو، ستكون لها تأثيرات على العالم بأسره.
وقد تبلورت العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا بمفهومها الجديد لأول مرة خلال الحرب العالمية الثانية، وتحديدا بعد الاجتماع الثاني في القاهرة سنة 1943، عندما اجتمع كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت ، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل والرئيس التركي عصمت اينونو في العاصمة المصرية، القاهرة. وخلال هذا الاجتماع اتفق كل الأطراف على بناء قاعدة انجرليك الجوية في تركيا التي تستعمل اليوم لشنّ العمليات الجوية للتحالف الدولي على مواقع تنظيم الدولة في سوريا، لكن البداية الفعلية للمشروع لم تنطلق سوى سنة 1951.
وبعد الإعلان عن تبني عقيدة ترومان التي أدخلت تغييرات جذرية على السياسات الخارجية للولايات في سنة 1947، مثلت تلك المرحلة بداية الحرب الباردة التي جسدت رغبة الولايات المتحدة في التصدي للنفوذ السوفياتي المتنامي، ولذلك قامت واشنطن بتأسيس “حرب العصابات”، فرع منظمة غلاديو في تركيا، أو حلف شمال الأطلسي التي كانت تتكون من جيوش سرية أنشأت بعد الحرب العالمية الثانية بهدف التصدي للنفوذ السوفياتي. وقد كان ترومان يخشى، خلال تلك المرحلة، أن يهدد اليونان الشيوعي استقرار تركيا، ما يمكن أن يدخل منطقة الشرق الأوسط بأكملها في دوامة الفوضى والعنف.
كما شاركت تركيا في الحرب الكورية إلى جانب قوات الأمم المتحدة بين سنة 1950 و1953، ثم انضمّت لحلفا الناتو إلى جانب اليونان سنة 1952. وفي سنة 1954، وقّعت الولايات المتحدة وتركيا اتفاقية الاستغلال المشترك لقاعدة انجرليك الجوية.
الناتو والانقلابات
لم يكن عدنان مندريس، رئيس الوزراء التركي حتى سنة 1960، معاديا للولايات المتحدة أو لحلف الناتو، لكن أصبحت تركيا خلال فترة حكمه أكثر اعتمادا على المساعدات الأمريكية. وكان مندريس يستعد لزيارة موسكو سنة 1960، للبحث عن تمويلات بديلة بعدما أدرك جيدا أن الناتو لن يسمح لتركيا بإقرار إصلاحات هيكلية أو الحصول على قروض لتمويلها، إلا أن خطته أجهضت بعدما أطاح به المجلس العسكري في انقلاب 1960، وحكم بشنقه.
بعد اندلاع مواجهات عنيفة بين القبارصة اليونانيين والقبارصة الأتراك في شهر كانون الأول/ديسمبر من سنة 1963، فيما عرف “بعيد الميلاد الدموي”، بعث الرئيس الأمريكي، ليندون جونسون برسالة إلى رئيس الوزراء التركي، عصمة اينونو يحذره فيها من عواقب التدخل التركي في قبرص، أي أن الولايات المتحدة وحلف الناتو لن يقفا إلى جانب تركيا في حال تعرضت لهجمة من السوفياتيين.
لذلك تحدى اينونو، الرئيس الأمريكي جونسون قائلا أنّ “نظاما عالميا جديدا سيظهر، وستكون تركيا جزاء منه”، لكن بسبب وجود أزمة سياسية في تركيا، كان على اينونو مغادرة منصبه سريعا في سنة 1965.
أما في سنة 1974، فقد تحدت تركيا الولايات المتحدة بإرسال قواتها لحماية القبارصة الأتراك، غير مكترثة بتهديدات واشنطن بعد حدوث انقلاب عسكري في قبرص بقيادة الحرس الوطني القبرصي والمجلس العسكري اليوناني.
وتضررت العلاقات الثنائية بين تركيا والولايات المتحدة، بعدما أعلنت هذه الأخيرة عن حظر بيع الأسلحة لتركيا في سنة 1975، منحازة بذلك إلى اليونان في صدام عنيف بين حليفين رئيسيين من حلفاء الناتو. وقد كان موقف الولايات المتحدة المنحاز لليونان خلال تلك الفترة، من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تنامي ظاهرة معاداة أمريكا في تركيا.
وبمكن القول أن ما حدث لرئيس الوزراء التركي، مصطفى بولنات أجاويد، لم يختلف كثيرا عما حدث لسابقيه، فبعدما اكتسب أجاويد شعبية كبيرة في تركيا إثر التدخل العسكري التركي في جزيرة قبرص، استقال من منصبه سريعا، واضعا تركيا أمام خيار الانتخابات المبكرة. لكن الاختلافات السياسية أعاقت تشكيل الحكومة لمدة 200 يوم، شهدت خلالها تركيا مشاهد مختلفة من الفوضى والتحالفات السياسية.
وقد اتسمت تلك السنوات من التاريخ التركي بتواتر الخلافات بين التيارات اليمينية واليسارية في البلاد، أعقبها انقلاب عسكري في سنة 1980. وبعدما سيطر قائد الجيش التركي، كنعان ايفرين وشركاؤه على السلطة، كان أحد ضباط وكالة المخابرات المركزية ينقل خبر الانقلاب العسكري للرئيس الأمريكي، جيمي كارتر قائلا “لقد فعلها أولادنا”.
خلال السنوات الثلاثة التي تلت الانقلاب، سيطر الجيش التركي على البلاد التي كان يديرها مجلس الأمن القومي، وقد تم خلال هذه الفترة إعدام 50 شخصا، وسجن أكثر من نصف مليون شخص، بينما لقي المئات حتفهم في السجون.
النهضة الاقتصادية لتركيا
مثلت الفترة التي تولى فيها توركورت أوزال رئاسة الوزراء التركية منذ سنة 1983، مرحلة انتقالية في تاريخ تركيا من الناحية الاقتصادية، بعد أن أدخل تغييرات جذرية على التوجه الاقتصادي التركي الذي أصبح ليبراليا، وغيّر ملامح المشهد السياسي والثقافي والعلاقات الخارجية في البلاد. وعندما تولى رئاسة تركيا بعد النجاحات التي حققها في منصبه كرئيس وزراء، حاول أوزال التوصل إلى طريقة تسمح له بالدخول في مفاوضات لإنهاء الصراع مع الأكراد، وهو ما كان سيحدث تغييرا جذريا في خارطة الصراع في الشرق الأوسط، لكنّه توفي بنوبة قلبية مشبوهة، بدت أقرب إلى عملية اغتيال منها إلى موت مفاجئ.
تداولت أكثر من تسع حكومات على تركيا خلال السنوات التسع الماضية، شهدت خلالها البلاد أزمات اقتصادية، وفوضى سياسية عارمة.
فقد تمكن حزب العدالة والتنمية التركي بعد سنة واحدة من تأسيسه في سنة 2001، من الفوز بالأغلبية في الانتخابات. واستطاع رجب الطيب أردوغان الذي يتمتع بشخصية كاريزمية، كسب ثقة الشعب التركي، والنهوض بتركيا مرة أخرى.
لكن شهدت العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا اضطرابات جديدة بعد قرار الغزو الأمريكي للعراق في سنة 2003، فقد استقبلت أنقرة دول المنطقة للاتفاق حول تمكين العراق من فرصة أخيرة للتعاون مع مفتشي الأمم المتحدة لتفادي الحرب التي تقودها الولايات المتحدة.
الدولة الموازية
بدأت تركيا في سنة 2007 تحقيقا حول نشاطات منظمة إرغينكون. وهي منظمة قومية متطرفة تعمل بطريقة سرية، وتضم أعضاء في الجيش والقوات المسلحة، كان لهم دور رئيسي في كثير من أحداث العنف السياسي التي هزت تركيا.
وأدت التحقيقات إلى الكشف عن مئات الجنود والجنرالات الذين تم توقيفهم وإعفاؤهم من مهامهم بتهمة تشكيل نخبة عسكرية علمانية داخل الجيش التركي، والتخطيط لإثارة الفوضى ودعم انقلاب عسكري.
كان العديد يعتقد أن تركيا كانت تعمل، من خلال مواجهة إرغينكون، على تطهير البلاد من بقايا “حرب العصابات”، التي تبنتها عقيدة ترومان في تركيا، وتم تهميشها في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
وفي وقت لاحق، اكتشفت تركيا أن الوثائق التي تتعلق بالجرائم المزعومة كانت مزورة، وأن شبكة غولين قامت بزرع الأدلة حول هذه القضية. بعد ذلك، تم مباشرة العفو عن الضحايا، ووجهت تهم عديدة للضباط، وأعضاء النيابة العامة، والقضاة الذين كانوا موالين لفتح الله غولين، رجل الدين المسلم الذي لجأ للولايات المتحدة منذ سنة 1999، وتعلقت هذه التهم بالتآمر على الجيش التركي بعدما ثبت تورطهم في تزييف الحقائق في قضية إرغينكون.
تعرضت تركيا لانتقادات شرسة بعدما عملت منذ سنة 2013، على إقالة الموالين لغولين من أجهزة الدولة. فقد وجهت تركيا اتهامات عديدة لشبكة غولين، من بينها التخطيط للقيام بانقلاب قضائي وبناء دولة موازية. وفي سنة 2015، وضعت تركيا غولين على القائمة السوداء للإرهابيين.
وعلى رغم من أن المخططات الانقلابية داخل الجيش كانت محتملة، فإن تورط غولين في محاولة انقلابية لم يكن مستبعدا بعدما تغلغل كبار الضباط الموالين له داخل الجيش، مكان الأشخاص الذي تمت إقالتهم ضمن قضيتي ارغينكون وسليدجهمر. وقد حاولوا يوم 15 يوليو/تموز لكنهم فشلوا.
عملت شبكة غولين على تهيئة السياق المناسب للانقلاب من خلال إستراتيجية تغذية الصراعات والتوترات لتشويه صورة تركيا دوليا، وهو ما تغاضت عنه الولايات المتحدة. وخلال الانقلاب الأخير، انتظرت إدارة الرئيس الأمريكي لتتعرف على نتائج الانقلاب قبل أن تحدد موقفها منه.
وحتى بعد الانقلاب الأخير، لا زالت الولايات المتحدة تسمح لفتح الله غولين وشبكته بالبقاء في الولايات المتحدة. إذ تعتقد واشنطن أنها يمكن أن تثق في غولين لخدمة مصالحها، لكن الأتراك اليوم أصبحوا أكثر عداء للولايات المتحدة من أي وقت مضى.
إن الأمر لا يتعلق بأردوغان أو بالحقوق والحريات أو حتى بالديمقراطية. ولذلك فإن أكثر الأشخاص انتقادا لأردوغان بدأوا يشكون أنهم دفعوا ليكونوا جزءا من حملة واسعة تستهدف أردوغان.
يجب أن تتوقف الولايات المتحدة عن محاولة تطويع تركيا مع ما يتماشى مع سياستها الشاملة في الشرق الأوسط، لأن تركيا لم تعد ضعيفة كما كانت. وقد تؤدي المناورات السياسية للولايات المتحدة ضد أدروغان إلى إلحاق الضرر بتركيا، لكنها يمكن أن تؤدي أيضا إلى حرب أهلية داخل الناتو، قد تؤدي إلى أضرار كبيرة.
المصدر: ميدل إيست آي