ترجمة وتحرير نون بوست
برزت وجهتا نظر متعلقة بموضوع محاولة الانقلاب الفاشلة التي حصلت يوم 15 تموز/يوليو، إحداها وجهة نظر الأتراك، والأخرى وجهة نظر غير الأتراك.
معظم الأطراف خارج تركيا، ركزت على موضوع ما يقوم به الرئيس أردوغان، وحكومة حزب العدالة والتنمية من إجراءات رافقت المحاولة الانقلابية الفاشلة، أكثر من التركيز على الانقلاب نفسه، وبرغم من أنّ هذه المحاولة تسببت بمقتل مئات المدنيين، وقصف مبنى البرلمان، فإنهم سرعان ما تجاهلوا ذلك، وبدؤوا بتوجيه الرأي العام العالمي، نحو ما تقوم به الحكومة التركية والرئيس أردوغان من إجراءات تصفها بالقمعية ضد من شارك بالمحاولة الانقلابية، مشيرين إلى أنّ أردوغان يقود تركيا نحو الاستبداد.
أعلنت تركيا حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر بعد الانقلاب، وهو ما يمنح أردوغان السلطة لتسريع الإجراءات بقوة القانون، وقد أشار أردوغان الى إمكانية تمديد هذه الفترة في حال تطلب الأمر ذلك. وأول مرسوم ناتج عن حالة الطوارئ هذه، هو مرسوم يقضي بغلق 15 جامعة، و1043 مدرسة ابتدائية وثانوية، و1229 من مؤسسات المجتمع المدني، و35 مركزا طبيا، و19 نقابة.
والمرحلة الثانية من حالة الطوارئ، تعاملت مع الأفراد العسكريين، وأغلقت 131 وسيلة إعلامية. وبناء على ذلك، تم توقيف 18044 شخص، واعتقال 9677، وإلغاء جوازات سفر 49211 شخص، وتم إقصاء 1700 عسكري من الجيش، وإلقاء القبض على 134 جنرالا وادميرالا. كما تم توقيف عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين، وإقالة جميع رؤساء الجامعات، والتحقيق مع 2239 أكاديميا.
ربما تشير هذه الأرقام، والتي من المتوقع أنْ تزداد، خصوصا للأطراف الخارجية، إلى أنّ ما يجري هو عملية “تطهير مُمنهج” ضد معارضي النظام، في حين تبذل الحكومة جهودها من أجل إبقاء مؤيديها في الشوارع والميادين منذ ليلة المحاولة الانقلابية وحتى الآن، مطلقين على ذلك “مناوبات الديمقراطية”، وهذا يدل على ارتفاع في نسبة التأييد للزعيم أردوغان ذي الجذور الإسلامية، وهو ما يجعل الغرب يعبر عن قلقه تجاه مصير المعارضين العلمانيين.
لكن في المقابل، فإنّ الشارع التركي، ومن أمامه الحكومة التركية، يعلن مسؤولية رجل الدين الإسلامي فتح الله غولن، المتواجد في بنسيلفانيا الأمريكية، ومنظمته عن محاولة الانقلاب، متهمين منتسبي هذه المنظمة بأنها تسربت إلى كافة أجهزة الدولة، بما في ذلك الجيش، وذلك عن طريق إخفاء أنفسهم على مدى عقود. وهذا هو التبرير الرسمي لإعلان حالة الطوارئ في تركيا، وحجم الاعتقالات الكبير الذي تم. بينما ترفض الحكومة الأمريكية تسليم فتح الله غولن دون تقديم إثباتات ملموسة على وقوفه خلف المحاولة الانقلابية، وترفض الأحاديث التي تقول بأنّ لأمريكا يد في المحاولة الانقلابية.
كان أردوغان وغولن حليفين سياسيين حتى 2013، وعملا سويا من أجل التفوق على الكماليين، وبقاء حكومة العدالة والتنمية في سدة الحُكم، وكانت هناك عدة محاولات من عساكر كماليين للانقلاب على حزب العدالة والتنمية، لكن تم الكشف عنهم والحُكم عليهم بالسجن، وربما تم الكشف عنهم من خلال عناصر منظمة غولن، التي كانت تعمل بتناغم تام مع العدالة والتنمية. لكن بعد 2013، عمل أردوغان عمليات تطهير لعناصر ومنتسبي جماعة غولن من جهازي الشرطة والقضاء، والاعداد التي تم التعامل معها آنذاك أقل بكثير عمّا يجري الآن. ونفس الاتهامات كانت تأتي من الخارج تجاه أردوغان.
والحقيقة أنّ فترة الغزل التي استمرت بين غولن وأردوغان حتى 2013، كانت سببا في تسرب العديد من منتسبي منظمة غولن إلى داخل أجهزة الدولة، لكن الشارع التركي لم يكن يُدرك الخطر الناتج عن هذه المنظمة، وكان يرى بأنّ إجراءات أردوغان التي يتخذها ضدهم بأنه مبالغ بها، قبل أنْ يكتشف قبل أسبوعين حجم الخطر، ولذلك أصبح الشعب التركي يصدّق الآن الرواية الرسمية حول خطر غولن ومنظمته، وأنها تقف خلف المحاولة الانقلابية، وهذا الأمر لا يقتصر على مؤيدي أردوغان وحزبه.
ووجد الكماليون والقوميون اليوم، العُذر الذي يبرر التحذيرات التي كانوا يوجهونها نحو حزب العدالة والتنمية في سنوات حُكمه الأولى، وخصوصا المتعلقة بسرقة الأسئلة، وأنّ هناك تحذيرات كان توجهها جماعة غولن للعدالة والتنمية تتعلق بأنّ هناك محاولات للانقلاب عليه من قبل الكماليين، مستغلين ذلك من أجل التسرب داخل أجهزة الدولة، وهذا أدى في النهاية، إلى أنّ هذه التحذيرات كانت مصدرها من ضباط في الحقيقة تابعين لمنظمة فتح الله غولن، وبالتالي تبيّن اليوم أنّ الذين حذروا من الانقلاب، هُم من قاموا به.
في الوقت ذاته، وحد أردوغان كبش الفداء ليُعلق عليه أخطائه وأخطاء حزب العدالة والتنمية في السنوات الماضية، مثل أحداث مجزرة أولودريه التي تسبب بمقتل 34 مدنيا كرديا، وكذلك حادثة إسقاط الطائرة الروسية، واشتعال أحداث غزي بارك، وغيرها من الأحداث التي سينسبها الآن العدالة والتنمية إلى منظمة غولن، وهذا الأمر قد يغيّر من توجه الأكراد، مما يعني أنّ الأكراد أيضا قد يعودون ويقتربون أكثر من أردوغان كون من تسبب بالمجزرة ضدهم هم ضباطا من جماعة غولن.
في الواقع، محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا كشفت وغيّرت الكثير من الأمور، منها اعتقاد الغرب بأنّ تركيا اعتادت على الانقلابات العسكرية، والتدخل العسكري في الحياة السياسية، لكن الشعب التركي أطاح بالانقلاب، وأزاح صورة شعب يستقبل الدبابات، إلى شعب يقف أمامها ويرفض مرورها وسيطرتها. وقد لاحظت خلال الأسبوعين الماضيين تعاطف الغربيين مع الانقلابيين، وشعورهم بالحسرة لعدم نجاح الانقلاب، وذلك من خلال مشاركاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما وجد انتقادا كبيرا من متابعيهم الأتراك، الذين ليسوا بالضرورة ان يكونوا داعمين أردوغان، وإنما من الغاضبين على عدم وقوف الغرب في وجه من أراد إسقاط الديمقراطية.
كما أنّ الغرب يعاني من الآونة الأخيرة من مشكلة في المصداقية، حيث كانوا يلعبون في الماضي على حبل الكماليين وأردوغان، لكن اليوم يرى الجميع أنّ كل أطياف الشعب التركي وقفت في وجه غولن، وأنّ حة الاستقطاب بين أردوغان وداعميه وبين العلمانيين، قد تلاشت عندما تعرضت المسائل الوطنية والقومية للخطر، واتحدوا جميعهم أمام عدو واحد.
وأكثر من خسر من قوى المعارضة المتبقية، هم الأكراد، واليساريين، والحركات النسائية، والليبراليين، فأيٍ من هذه الحركات لم يحصل في السابق على أي تعاطف من الرأي العام التركي. كما يجري الحديث في الآونة الأخيرة حول العقوبات التي من المُمكن فرضها على منتسبي غولن، وسكوت هذه الأطراف من المعارضة قد يعني مشاركتها بصورة مباشرة في الانقلاب، ولذلك تم ملاحقة صحفيين ليبراليين ربما أنهم ليسوا منتمين لمنظمة غولن، لكنهم كانوا من العاملين في مؤسساتها.
لكن هذا لا يعني استمرار هذا الغزل بين قوى المعارضة وأردوغان لفترة طويلة، وذلك لأنّ أردوغان ومؤيديه يستقصوا العلمانيين من خطاباتهم، كما أنّ مشاركة الكماليين في “مناوبات الديمقراطية” ستنتهي مع خروج تركيا من آثار المحاولة الانقلابية، وعندما تهدأ الأمور، سترجع كما كانت، ولأردوغان اليد العليا، كما أنّ إصرار أمريكا على عدم تسليم غولن، ربما يجعل أردوغان يستمر مطولا اكثر في عملية التطهير.
ما يثير القلق هو الفجوة الحاصلة بين تركيا والغرب، والطرفان يتحملان المسؤولية هنا، لكن عندما تُحل هذه المشكلة، ستفشل كل الرهانات حول مستقبل تركيا السياسي وسياستها الخارجية.
المصدر: لندن ريفيو أوف بوكس