هناك متغيرات استراتيجية كبرى تجري أطوارها في منطقتنا المسماة بالشرق الأوسط، وهي تشير بصورة متزايدة إلى رجحان كفة الداخل والقوى الفاعلة فيه على حساب كفة القوى الخارجية. انقلاب تركيا الفاشل يعتبر مؤشرا قويا على هذا الاتجاه المستقبلي الآخذ في التشكل في هذه المنطقة من العالم.
طبعا هذا لا يعني أن فشل الانقلاب التركي قد قلب موازين القوى العالمية رأسا على عقب، ولكنه يقدم لنا مرآة عاكسة نقرا من خلالها توازنات القوى في المنطقة ومساراتها القادمة.
كل المعطيات تشير إلى أن ما حصل في تركيا قد تقاطعت فيه أجندات داخلية مع حسابات خارجية لأطراف كانت هي الراعية للانقلاب العسكري، والساعية لمنحه الغطاء الدولي المطلوب. لكن القوى المحلية وحركة الشارع تمكنت من افتكاك زمام المبادرة من الخارج وأذرعه التي يُنفِذ من خلالها إرادته ويحقق أهدافه. وهكذا تمكن أردوغان من تحقيق المفاجأة التي باغتت الجميع وقلبت مسار الأمور: أي الانقلاب على الانقلاب.
كان من الممكن، لا قدر الله، أن يكون مصير الزعيم التركي مشابها لمصير سلفه عدنان مندريس الذي انقلب عليه جيشه واقتاده إلى حبل المشنقة في سبتمبر من عام 1961، أو كمصدق إيران من قبله، لما انقلب عليه الإنجليز وأسقطوا تجربته الديمقراطية الوليدة المتمخضة عن ثورة شعبية، لصالح عودة العائلة البهلوية المرتهنة لهم والمرتبطة بمصالحهم.
ومن دون الخوض في تفاصيل الأحداث في مواجهة الانقلاب (ومن ذلك عامل الصدفة، أو ما نسميه نحن المسلمين بالقضاء والقدر، كمغادرة أردوغان للفندق الذي كان يقيم فيه قبل ربع ساعة من مداهمته، ثم شجاعة القيادة التركية والتحامها بالشعب في مواجهة التمرد)، فإن الصورة الكبيرة تقول لنا بأن الرئيس التركي تمكن من صد هذا الانقلاب وتجنب مصير مندريس والحكومات المدنية التي أطاح بها الجيش 4 مرات متوالية، بفضل قدرة القوى الداخلية على افتكاك زمام المبادرة وتوجيه الأحداث في عكس المسار الذي أرادته القوى الخارجية وحلفاؤها.
إلى وقت قريب كانت للغرب قدرة هائلة على تفكيك أي نظام شاء، في آسيا أو إفريقيا أو الشرق الأوسط أو أمريكا الجنوبية، واستبداله بآخر يروق له. كان يكفي أن تتم المصادقة على مخطط الإطاحة في لندن أو باريس أو واشنطن، حتى ترفع الأقلام وتجف الصحف وينقضي أمر الحاكم المغضوب عليه ويصبح في خبر كان.
مع السقوط المدوي للانقلاب العسكري في تركيا، يتبين أن القوى الدولية الكبرى لم تعد تمتلك شهادات موت وحياة الأنظمة السياسية في المنطقة، وأنه من الممكن أن تسير الأمور عكس مشيئتها هي، في الاتجاه الذي ترتضيه الشعوب وقياداتها الداخلية.
لقد بقيت منطقتنا الشرقية خاضعة لتأثير ومخططات القوى الدولية الكبرى التي تمكنت من بسط هيمنتها بصورة كاملة البحار واليابسة ثم الأجواء، بداية مع البرتغاليين والهولنديين والنمساويين، ثم الفرنسيين والإنجليز في القرن التاسع عشر، قبل أن ينتقل مركز الثقل داخل الفضاء الغربي ذاته من القوى الأوروبية التقليدية صوب الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية.
وهكذا تراوحت الأقطار العربية والإسلامية بين الخضوع للاحتلال العسكري المباشر، وبين نظام حماية أجنبية أشبه ما يكون بالوصاية على الطفل القاصر، بزعم أن هذه الشعوب مازالت تحبو في طور المدنية وتحتاج لأن يؤخذ بيدها على طريق “التقدم” والحضارة.
حتى بعض البلدان الإسلامية التي تمكنت من حماية ثغورها في مواجهة الآلة العسكرية الغربية الكاسحة، كما هو شأن تركيا الأناضول أو إيران الشاه نسبيا وأجزاء من الجزيرة العربية، فقد ظلت عرضة لضغوط سياسية ودبلوماسية واختراقات عسكرية واسعة، فضلا عن سيطرة مالية اقتصادية لا حدود لها.
وأريد لمنطقة الشرق الأوسط أن تكون المختبر العملي والملموس لبداية تشكل القرن الأمريكي الجديد من خلال احتلال أفغانستان سنة 2001، ثم إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق سنة 2003.
لكن سخرية الأقدار شاءت أن تكون لحظة صعود الغرب واحتفائه بالانفراد بالهيمنة الدولية مع نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، في إطار ما أسماه المحافظون الجدد بتشكل القرن الأمريكي الجديد، هي ذاتها لحظة انكسار شوكته نتيجة لمغامرات عسكرية رعناء غير محسوبة.
اليوم يغدو جليا أن قوى الهيمنة الدولية لم تعد عاجزة عن ضبط الأمور بعد إسقاط من تريد فحسب، بل حتى عن تغيير الأوضاع القائمة والإطاحة بمن لا ترغب فيه. لقد أمسى عجزها مضاعفا، لا يتعلق فقط بعدم القدرة على بناء الجديد وإقامة البديل المرجو، كما حدث في أفغانستان والعراق “المحررين” ساحتي الفوضى والحروب الأهلية المفتوحة. مع فشل انقلاب تركيا يتبين أن مسار انحدار نفوذ هذه القوى قد تعمق وأنها باتت عاجزة ليس على البناء فقط بل حتى عن تدمير الموجود الذي لا تستسيغه.
هذا يؤشر إلى رجحان تدريجي لكفة الداخل على الخارج في المنطقة.
طبعا، لا يجب أن يجرنا هذا إلى السقوط في الأوهام وتصور بأن نظام الهيمنة الدولية الذي تشكل خلال القُرُون الثلاثة الأخيرة على الأقل، سيتبخر بسرعة البرق، أو أننا نحن الممتحنين بالفتن والصراعات سنحل محله.
لكن المؤكد مع ذلك هو أن العالم بات يتسِع اليوم لتعدد القوى، وأن الظروف الدولية باتت تتيح لمن يمتلك وضوح الرؤية وآليات النهوض وإرادة الفعل من الذود عن مصالحه ووجوده وافتكاك موقعه في الساحة الدولية وفرض هيبته على بقية اللاعبين.
المصدر: عربي 21