يعلم الجميع أن الصراع السياسي في العراق، هو صراع على السلطة، سباقٌ محموم نحو الاستئثار بالمناصب والمكاسب والظفر بالغنائم، بين اطراف مليشياوية وفصائل وكتائب مسلحة، تتبع جماعات متطرفة وأحزاب سلطوية وطبقة سياسية فاسدة.
جماعات تتخاتل وراء الدين، وتختبئ خلف رايات إسلامية، تستخدم فتاوى واطروحات “خامنئية”، وهاي هي اليوم ترفع شعارات “الاصلاح”، ويدعون انهم مصلحون، وهم ليسوا كذلك بكل تأكيد.
ساهمت الزوبعة الاعلامية التي تلت إستجواب وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي، في إحداث خلاف بين العراقيين حول ما جرى تحت قبة البرلمان. لا يختلف نسق هذا الخلاف عن الخلافات السابقة، غير ان الذي يميز هذا الحدث هي الطريقة التي أدارت بها بعض مراكز القوى المحلية، والتي رأت فيه خروج عن علاقات القوة القائمة والسياقات المتبعة.
الرواية الأكثر تداولاً حول ما جرى، ترجح أن العُبيدي استشعر ان هناك شبه إجماع بين مختلف الكتل البرلمانية حول إدانته، بغض النظر عن القناعة باجوبته حول اسئلة الاستجواب، وأن فرص الخروج من مصيدة الاقالة كانت شبه معدومة، تحسّب لها العبيدي بخطوة خلطت الاوراق أمام البرلمانيين من جهة، ومنحت له فرصة فتل عضلاته أمام الجمهور العراقي، لتسويق نفسه ببروبكندا خطابية، اجادها وباقتدار، دغدغت مشاعر العراقيين المعارضين من داخل العملية السياسية، ومن الرافضين لها ايضاً.
حدث ذلك عندما اشار خالد العبيدي بجملة من الاتهامات لشخصيات من كافة الكتل والتحالفات السنية والشيعية على حدٍ سواء، فيما بقيت جبهة التحالف الكردستاني شبه محيدة عن هذه الاتهامات.
لا يختلف العُبيدي عن اقرانه من سنة السلطة، الساعين لكسب ود الاطراف الشيعية من جهة، والمتصارعين على الزعامة السنية الوهمية، المدعومة شيعياً من جهة اخرى.
غير أن بعض الأطراف الشيعية رأت في خطوة العبيدي فرصة لصناعة رمز سني جديد، يمكن التحكم فيه (مگدور عليه) هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن إستخدامه كـ (ضد نوعي) للنيل من بعض الأطراف السنية، التي تتمتع ببعض المنافع السلطوية، والتي إستطاعت بطريقة وباخرى، إستثمار بعض نقاط الضعف في هذا النظام الطائفي المستبد، عندما استغلت ما يمكن استغلاله من المنافع الصغيرة، لدعم جمهورها الذي يعيش تحت سطوة المليشيات ووطأة التهجير.
ما يهمنا هنا أن أغلب الذين دعمتهم السلطة، سواء أكانوا من خارج السلطة أو من داخلها، إسلاميين أو علمانيين أو حتى بعثيين، أغلبهم ليس لديهم أي رصيد سياسي حقيقي، وهم يعتمدون في تسويق أنفسهم على الدعم الصريح من السلطة، يدعمون نكاية بالمعارضين السنة المشاركين بالعملية السياسية.
أما عن هدف دعم هؤلاء جميعاً، هو إنتاج وتسويق وتكريس، نخبة سنية سلطوية، تقبل بعلاقات القوة القائمة اليوم كما هي، والتي حكمت الوضع السياسي في العراق منذ 2003 ولحد اليوم، بحيث يصبح ليس بمقدور اي شخصية سنية الخروج عن سياق هذه العلاقات، والتي يصبح من يخرج عنها في حكم الميت سياسياً، والامثلة على ذلك كثيرة، ابتداءً من عدنان الدليمي ومروراً بـ طارق الهاشمي ورافع العيساوي واسامة النجيفي وانتهاءً بـ سليم الجبوري الذي باتت رمزيته السنية في مهب الريح.
المعضلة الكبرى في هذا المشهد هي أن الجميع بات يؤمن بضرورة الالتزام بسياق تلك العلاقات، وفق قواعد “فقه الهزيمة”، أي ان هناك منتصرين ومهزومين، وعلى الجميع الانصياع لها، مع محاولة تحسين شروط الهزيمة ليس أكثر.
ما أريد أن أصل إليه هو إنّ الحـديث عن وصـفة سـحرية للتوافق مع ثوابت الاطراف الشيعية السلطوية هو (خداع ذاتي سـني) من 2003 وحتى اليوم، بمعنى ان أي محاولة من سياسي سنة السلطة لإثارة إعجاب جمهور هذه الاطراف الشيعية [سـليم الجبوري انموذجاً] بتشـجيع من أطراف شيعية طبعاً، هي تسـعى بتشـجيعها إلى ان تتحول إلى (نهج سـني) وذلك بأن يبقى أن تجرّب تلك الاطراف السنية نماذجهم، وما على الأطراف الشيعية السلطوية إلا أن تنظر بالنموذج القادم، دون أن تتوافق مع أي نموذج من تلك النماذج، أو أن تصل مع أحدهم الى تسوية سنية شيعية.
ولهذا لا بد من الإعتراف ان التوصل الى تسوية للصراع الطائفي أو الى مصالحة وطنية، تقبل الاطراف السنية بشروط الاطراف الشيعية، وتقبل الاطراف الشيعية بشروط الاطراف السنية، بات بحد ذاته اعتقاداً ميتافيزيقياً، والسبب يعود إلى من حوّل الميتافيزيقا الى ايديولجية، وهو لا يريد أن يعترف بالواقع ولا يسمح بالتعامل معه، إلا من خلال اساليبه الرجعية.
ولسنا هنا بحاجة الى تكرار كل اساليب الرفض لكل مبادارات المصالحة، التي وقع عليها الطرف الاضعف في المشهد السياسي، والتي يتذكرها متطرفوا الشيعة قبل معتدليهم، أو إلى تكرار سعي سنة العراق [بجميع حركاتهم واحزابهم] من خلال معتدليهم الى (حل) تحت سقف الوطن، يمكن ان يشكل اساساً لـلمصالحة الوطنية، تقبل به الاطراف الشيعية قبل السنية، حتى اصبحت كل طروحات تلك النماذج الاحزاب والحركات ومبادراتها مُسـتهلكة أو نافذة للصـلاحية.
ولهذا سطع نجم وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي بعد واقعة الاستجواب، وبدأت الاسئلة تنساب من كل حدب وصوب. هل يمكن له ان يكون سيسي العراق، على غرار سيسي مصر، أي أن يستغل التأييد الشعبي ضد أحزاب الاسلام السياسي، وتعاطف بعض أطراف السلطة معه، للقيام بانقلاب عسكري، يفرض واقع جديد تمكن من عقد تسويةٍ ما أو حلٍ ما ؟! .. بعد فشل كل مشاريع المصالحة الوطنية، وبعد عجز كل الاطراف بعقد تسوية للصراع القائم.
علاقات القوة القائمة فرضت على “سيسي العراق” [إن كان خالد العبيدي أو غيره] واقعاً يستحيل فيه حدوث انقلاب. فالاطاحة بالعملية السياسية القائمة، مهمة قبل ان تحتاج لتوافق دول اقليمية ودولية لها نفوذ في العراق، فهي تحتاج إلى منظومة علاقات بديلة لها نفوذ في أجهزة الدولة، نهايكم عن وجود جيش يسمع وينفذ الأوامر في وسط العاصمة بغداد، قادر على مواجهة أكثر أربعين فصيلاً مسلحاً، وهو أمر يجعل من نجاح أي محاولة للانقلاب شبه معدومة أو مستحيلة.