(طوال الوقت ظلّت تدمدم صلواتها وهي تنزل من الباخرة إلى “إليس أيلاند”. المهاجرون تدافعوا على “السقالة” الخشب وهي تمسّكت بحبال الدرابزين ورأت جرذان الماء تقفز من الصناديق إلى الأرصفة. المبنى الضخم المتربع على الجزيرة ابتلع البشر المتدفقين كالأنهار من البواخر: أين يختفون؟ لا يغرقون في الضباب، لكنهم يغيبون).
في عام 2009، نشرت دار الآداب، رواية جديدة للأديب اللبناني صاحب الإنتاج الأدبي الغزير “ربيع جابر” بعنوان “أميركا”.. وفي عام 2010، وصلت الرواية التي تحكي بصورة تفصيلية وقائع الهجرة الكبرى للسوريين من الشام إلى أميركا إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية “البوكر”..
هذه الرواية التي تحكي بإسهاب عن اضطرار الشابة الصغيرة الفقيرة “مرتا أندراوس حدّاد” لمغادرة بيتها الآمن في قرية بتاتر – جبل لبنان/ سوريّة، فجأة ودون أي خطط مُسبقة إلى أميركا حيث المجهول. حاملة معها حياتها كلها في كيس، محاوِلة الذوبان داخل أمواج المهاجرين الذين لا تعرف منهم أحدا، ولا يجمعها بهم شيئا، في خريف العام 1913.
حيث يأخذنا الكاتب في رحلة ميدانية، لنعيش معه هجرة السوريين إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين واستقرارهم هناك. لنُشاهد العمالة السورية التي حطّت رحالها في مصانع الملابس الأميركية، وبزوغ نجم الكشّاشين أو الباعة المتجولين/تُجّار الشنطة كما يُعرفون في مصر.
لماذا غادرت “مرتا”، بقعتها الآمنة إلى المجهول؟!
خرجت “مرتا” بحثا عن زوجها الذي هاجر منذ زمن إلى أميركا، وظل يراسلها إلى أن انقطعت أخباره فجأة. فصبرت عام كامل على أمل أن يصلها منه أي شيء، ثم قررت أن تخرج لأن “قلبها سيُفقع” على حد تعبيرها. أما باقي المهاجرين الشوام، التي يُصنّف التاريخ خروجهم إلى أوروبا وأميركا ودول أمريكا الجنوبية كالبرازيل والأرجنتين، فقد خرجوا –على عكسها- بحثا عن الرزق بعدما أنهكهم العوز والفقر والشح في بر الشام.
تذكرة هويّة أرجنتينية لأحد المهاجرين السوريين من آل القنطار في أواخر القرن التاسع عشر
ما الذي جاء بكم إلى هنا؟
في المشهد الأول من الرواية، عندما وقفت “مرتا” على ميناء “إليس أيلاند” تُصلّي كي لا تضع عليها المرأة التي ترتدي زيّ الشرطة عليها علامة (X) وتُعيدها إلى المركب لترجع من حيث أتت. أردتُ بشدة أن أسألها: مالذي أتى بكِ أيتها المسكينة من آخر الدنيا إلى آخرها الأخر الذي لا تعرفين فيه أحد ولا تتحدثين حتّى لغته؟!.
أما اليوم وبرغم تكرار هذا المشهد بصورة شبه يومية، فلا أحد يجرؤ أن يسأل نفس السؤال؛ حين يرى صور مراكب المهاجرين السوريين غارقة في عرض البحر، وبعضهم متمسّك بقشّة أو خشبة، وآخرين تيبست أذرعهم حول أطفالهم الرُضّع ليموتوا معا.
مهاجرين سوريين قبالة سواحل تركيا 2015
فلا أحد -حول العالم- يجهل أنهم خرجوا هربًا من موتٍ محقق إلى موتٍ آخر محتمل..
كما أنهم على عكس بطلة الرواية، تركوا المجهول من أجل بقعة آمنة، تحترم الإنسان وتُقدّس حقوقه وتؤّمن له معيشة كريمة دون أن تسأله عن أصله وفصله وانتماؤه السياسي وهل يتبع المذهب السني أم الشيعي.
الهجرة السورية إلى العالم الجديد..
جزء من لائحة وزارة الداخلية بأسماء مهاجرين موارنة من قرية المتين، أوائل القرن العشرين
الرواية التي كتبها “ربيع جابر” بأسلوب “الراوي كُلّي المعرفة” أو ما يُعرف بـ “السارد العليم” في مدارس النقد الروائي الأدبي.. تبدو كمعزوفة تاريخية، مليئة بشخصيات وحكايات وقعت بالفعل في تلك الفترة الزمنية.
تلك الفترة التي تُعيد نفسها اليوم بسبب الأحداث الواقعة في سوريا. وفي الوقت الذي يظن فيه مشاهدو نشرات الأخبار حول العالم، أن مشكلة المهاجرين واللاجئين السوريين تنتهي ما أن يطأوا بأقدامهم السواحل الأوروبية، تُخبرنا الرواية -التي كُتبت قبل نشوب الثورة في سوريا وما تبعها من أحداث دموية شنّها ولا يزال يشنها النظام الحاكم على الشعب السوري-، عمّا يلاقيه المهاجرون إلى أميركا وأوروبا. فالوصول إلى الموانئ الأوروبية ليس نهاية المطاف، بل بدايته، ويشهد على ذلك أبطال الرواية، المُهاجرون السابقون “مرتا حداد” و”معمر باشي” و”جوزف أسطفان” و”وديعة صليبي”.
الرواية القديمة المستعادة
وفي الوقت الذي يُنوه فيه “جابر” عن أن هذه الرواية (من نسج خياله وأيّ شبه بين أحداثها وأشخاصها وأماكنها مع أشخاص وأحداث وأماكن حقيقية هو محض صدفة ومجرد عن أي قصد)، نجده وقد أجرى بحثا دقيقًا جدا عن زمن “الهجرة السورية” في بدايات القرن العشرين. ونشاهده يحكي بسلاسة أحوال المهاجرين هناك وفي ماذا يعملون؟، وكيف استطاعوا نقل بلادهم وإرثهم الثقافي إلى “الحي السوري” في قلب نيويورك. ذلك النقل الذي يبرع فيه معظم المهاجرين، ويخشاه الأوروبيون الآن ويتعلل به كل من يرفض استقبال المهاجرين واللاجئين السوريين، بدعوى أن وجودهم في أوروبا سيؤدي إلى طمس الهوية الأوروبية وربما يمتد ليُهدد الهوية الدينية المسيحية للقارة.
الرواية المُتخيّلة الحقيقية
ولا يُمكن أن نتحدث عن “أميركا” ولا نُشير إلى أن الأديب استشهد بحوادث تاريخية حقيقية وقعت آنذاك، كقتال السوريين في الحي السوري وأن هذا الخبر تم نشره في النيويورك تايمز –وبالبحث في أرشيف الجريدة، سنجد أن هذا الخبر نُشِر بالفعل-.
وأن بعض أسماء المهاجرين الموجودة في الرواية، موجودة بالفعل في موقع “إليس أيلاند” مثل (مرتا حداد) و (علي جابر). ليظهر لنا أن “ربيع جابر” استخدم عالمًا تاريخيًا حقيقيًا وُجد ذات يوم، من أجل أن يصنع داخله عالمه الروائي المُتخيّل، عالم “الملكة مرتا حداد” وباقي أبطال العمل.
هل تنبأت “أميركا” بخروج اللاجئين السوريين اليوم؟
في الوقت الذي يتعجّب فيه القارئ من قدرة “جابر” العظيمة، على وصف أميركا وولاياتها وأحيائها، وإلمامه بتاريخها وكأنه قد عاش هناك في هذه الفترة بالفعل. ومعرفته الدقيقة بقائمة البضائع التي كان يبيعها الكشاشون وأسعارها في تلك الفترة الزمنية البعيدة، فإن الصحف الأجنبية قامت برصد ما يحمله المهاجرون السوريون في حقائبهم أثناء رحلة العبور إلى أوروبا، وتذكره في تقاريرها المنشورة عنهم. الأمر الذي قد يوقعنا في حيرة، وكأن “ربيع جابر” كان يرى بعين زرقاء اليمامة، ما سيحدث في سوريا، فنبش في التاريخ بحثا عن “خروج” سابق يُشبه ما سيحدث لاحقا، وإن كان يختلف فقط في أن المهاجرون الأوائل، خرجوا بمحض إرادتهم، أما مهاجروا اليوم، فخرجوا لأنه لا بديل للخروج.
وليقول لكل من يتابع أخبار اللاجئين السوريين الذين وصلوا بسلام إلى أوروبا، أن الوصول لأي ميناء أوروبي لا يضمن لأي مهاجر حياة وردية هادئة، بل هو مجرد خطوة أولى على الطريق. الطريق غير المعبّد الذي سلكته “مرتا حدّاد” و “جوزف أسطفان” و”علي جابر”، والذي ابتلع عشرات غيرهم لم يصمدوا أمام العراقيل والعقبات التي تملؤه.