كنت أنتظر تلك اللحظة التي سيفتح بها باب الطائرة لتدخل رائحة الهند التي طالما سمعت عنها وتصفعني بشدة، الرائحة الصافعة كما وصفها أحد الكوميديين، وصلنا إلى دلهي وفتح الباب، انتظرت لحظة، لحظتين، ملأت صدري بالهواء، لا توجد رائحة! يبدو أن الجميع كانوا يضخّمون الموضوع أكثر من اللازم، دخلنا المطار وكان كباقي مطارات العالم المتحضّر، لا فرق، لا رائحة، فقط اختلاف لون البشرة واللكنة المضحكة نوعًا ما، عدا عن ذلك لم أشعر بالاختلاف.
أنهيت معاملاتي في المطار وانطلقت لأخرج منه في أسرع وقت، وصلت الباب ووضعت قدمي خارجًا وفي تلك اللحظة صفعتني، كإنني أكلت كف من كفوف الوالدة أيّام الصغر، الله يرحم، وأخيرًا الرائحة التي أخبروني عنها تلتهمني، أو كما أسميتها “رائحة الحياة في الهند”، هذه كانت أولى لحظاتي في هذا البلد السعيد.
مع بعض الأصدقاء في إحدى الحدائق العامة
كما تعلمون أعزائي وعزيزاتي، الهند تعدادها السكاني مليار ونصف، لم أتخيل أن تكون رحلتي من المطار إلى المدينة سهلة، تخيلتها رحلة سباحة بين أفواج من الناس كما أرى أفواج الحجّاج على التلفاز يوم عرفة، لكن الواقع كان مختلفًا، وصلنا المترو وكان مكيّفًا وباردًا وفارغا إلّا من عدة هنود أغلبهم بدوا أشخاص من طبقة الموظّفين ذوي البناطيل المشدودة على الخصر بالحزام الأنيق وقميص مكوي باحتراف داخل البنطال، عادي، مثل ما عندنا، قلت في نفسي “يبدو أن كل ما سمعناه عن الهند مجرّد أكاذيب من أشخاص مخربطين بين الهند ودبي”!
استمرّت الرحلة ما يقرب العشر دقائق إلى أن وصلنا إلى محطة مترو متوسطة في المدينة نزلنا من القاطرة نشق طريقنا إلى اللّانهائية وما بعدها، مشينا في زقاق المحطة تحت الأرض، أو فوقها، بصراحة إلى الآن لا أدري إن كانت المحطة فوق أو تحت الأرض، لا يهم، بعد عدة دقائق من المشي وصلنا إلى مكان فيه درج، فور الوصول كان المنظر واضحًا أمام أعيننا، مئات من الهنود واقفون على شبابيك بيع تذاكر المترو في مساحة صغيرة جدًا، شمّرنا عن.. لا أدري ما التعبير المناسب لكن المهم أننا بدأنا بالحجّ، لم يكن هناك طواف أو رمي جمرات وإنما كانت حجّتنا محاولة الوصول إلى الجزء الآخر من القاعة لنكمل طريقنا نحو خط المترو الذي سيوصلنا لمكان وجود الفندق.
في هذه اللحظات تحديدًا بدأت أحس أنني فعلاً في الهند، لكن لم يكتمل الإحساس تمامًا إلا عندما وصلنا إلى المترو ورأينا لأول مرّة بأعيننا كيف يتكوّم الهنود بعضهم فوق بعض في مساحات صغيرة جدًا لدرجة أن باب المترو عندما يغلق في الكثير من الأحيان يكون أحد الوجوه ملتصقًا بالزجاج يبتسم للمارة وكأنه عمله حتى الوصول للمحطّة التالية! بعد ركوبنا مع هذه الحشود لأول مرّة فقدنا الإحساس برائحة الحياة لباقي الرحلة ممّا جعل الأمر إيجابيًا نوعًا ما.
الازدحام في المترو
أحد الشوارع الفرعية
قد يكون بالفعل الجميع مخطئ بحق الهند بحكمه المسبق عنها، حيث يعتقدون أنها دولة قذرة وأهلها عبيد، وأن الفئران تسرح وتمرح في الشوارع وأنه فيها أشخاص لا يلبسون أي قطعة تسترهم، ويتبولون في الشوارع، وأن طعامها مليء بالأمراض وأن وأن وأن، لكن هذا لا يجعلها دولة كباقي الدول، الهند تختلف عن كل ما رأيته في حياتي قبلا، الشوارع مليئة بالبقر، الطعام له نكهات لا تنتهي، آلهتهم في كل مكان وكل شيء من المحتمل أن يكون أحد الآلهة، هندي فقير معدم يركب فيلاً ويتجوّل به في أنحاء المدينة، الجو يتحول من مشمس حارق إلى ماطر بطريقة لم أشهدها قبلاً خلال عدة ثواني ليعود بعد دقائق مشمسًا، الجميع يحاول جاهدًا استغلال بشرتك البيضاء لاستخراج عدة روبيات “قروش” من دون يأس، كلمة “لا” لا تكفي لجعلهم يتركوك وحدك، ويبدو أنهم يملكون الكثير من الوقت للّحاق بك لعشرين دقيقة وإقناعك بشراء سلعة الواضح أنك غير مهتم بها.
كل الهنود يحدّقون بك بلا توقّف من لحظة خروجك من المطار إلى لحظة رجوعك إليه، لا وجود لمفهوم المساحة الخاصة، سيارات التكتك الصغيرة تتّسع أكثر لما تتّسع له سياراتنا ذات المساحة الفارهة، العديد والعديد من المواقف التي تختلف عن كل ما رأيناه في حياتنا التي لأول وهلة قد تبدو مواقف نصفها بالسلبية لكن الواقع هنا مختلف جدًا.
بائعو الليمون في الشارع
بقرة تتجول الشوارع
قبل زيارتي لمدينة دلهي كنت قد تشرّبت آراء العديد ممّن أخبروني أن دلهي مدينة صعبة وبشعة ولا تستحق الزيارة ويجب عليّ الهرب منها بأسرع وقت، لذلك فور وصولي لها كنت حاملًا حكمي المسبق عنها في صدري وكنت أرى كل شيء بسلبيّته وأهمل ما يعجبني لكي لا أقع ضحية لهذه المدينة.
مر أول يوم بصعوبة وضيق ولم أسمح لنفسي للحظة أن أقع في حب المدينة ليصبح كل شيء أفضل، في اليوم الثاني كان مزاجي جيدًا وقررت أن أحاول الاستمتاع بيومي قدر المستطاع وكان هذا ما غيّر كل شيء.
نعم، دلهي مدينة صعبة ومكتظة وضخمة ولا يحبّها أغلب زوّارها، لكن لو أخذت خطوة للوراء ووقفت للحظة تتأمل كل ما يحدث أمامك، ستشعر فجأة بالحياة تغمرك من كل جانب، مفهومي للحياة هو ما ستراه في تلك اللحظة، حركة الناس وتصرفاتهم وتعابير وجوههم، ذلك العامل الذي يقود الدراجة ويركب خلفه أربعة أشخاص لمسافات طويلة جدًا مقابل 20 روبية (نصف دولار) ترى الحياة في وجهه، مش عارف كيف موفية معه، رجل الأعمال الهندي الذي يقود سيارته الفارهة وينظر للجميع بازدراء حتى للسيّاح ذوي البشرة البيضاء، صدق مشاعر الخيبة في وجه أحد المحليين الذي حاول جاهدًا أن يحشر نفسه في أفواج راكبين المترو لكن لم ينجح، كل ذلك سيملأك بالحياة بطريقة لا يمكن تصورها، لكن مهما حاولت جاهدًا ألا تحس بها، أكثر ما سيملأك بالحياة هنا هو رائحة الحياة في الهند.