ترجمة وتحرير نون بوست
قال الرئيس رجب طيب أردوغان في خطاب له بعد أيام من محاولة الانقلاب في تركيا “هذا الفيروس، انتشر كالسرطان”، في إشارة إلى أتباع فتح الله غولن، رجل الدين المقيم في ولاية بنسلفانيا، متهمًا إياه بتدبير محاولة الإطاحة به.
منحت حالة الطوارئ التي أعلنتها تركيا السلطة للحكومة لتطهير جميع مؤسسات الدولة من الغولينيين، فقد تم القبض، إلى حد الآن، على أكثر من 10 آلاف عسكري، من بينهم 151 جنرالاً وأدميرالاً، فضلاً عن 3 آلاف شرطي، هم الآن على ذمة التحقيق.
لكن يبدو أن “العلاج” ركز على التعليم، حيث تم إعفاء 67 ألف شخص من مهامهم خلال الـ 10 أيام الأولى من حالة الطوارئ، على الأقل 42700 منهم ينتمون إلى وزارة التربية، وبموجب مرسوم، تم غلق ومصادرة 1043 مدرسة خاصة، علاوة على إغلاق 15 جامعة و109 مبيت للطلبة، كما طُلب من 1577عميدًا تقديم استقالتهم، ومن المفترض أن يسمح للكثيرين بالعودة إلى مهامهم بعد تبرئتهم،
وفي الوقت نفسه، أعلن عصمت يلماز وزير التعليم، أن الحكومة ستعمل على توظيف أكثر من 20 ألف مدرس جديد هذا العام، لتعويض العجز.
كان التعليم حاضرًا بشكل واضح في رد الحكومة على محاولة الانقلاب الفاشلة، نظرًا لتركيز الغولينيين على بناء شبكة من المدارس في تركيا وحول العالم، لعقود طويلة، حيث كانت حاسمة في المجهود المبذول لتوسيع نفوذهم.
من الممكن أن الطبقة السياسية في تركيا لم تنشئ حركة غولن، لكنها سمحت لها بالتغلغل في مفاصل الدولة دون عوائق، نسبيًا، والآن تقرر دحض كل ذلك، وتم البدء بالجزء الذي يغذي البقية، التعليم.
على غرار العديد من الحركات الدينية في تركيا، تمثل الشبكة الغولينية ردة فعل على بناء تركيا الحديثة، التي أصبحت جمهورية علمانية في عام 1923، وقد استمدت أفكارها من العلامة سعيد النورسي، المعروف بذاكرته المذهلة وعزيمته، الذي كون حركة متورطة في العصيان المدني ضد الحكومة العلمانية.
وبعد موت النورسي، تشكلت العديد من الطوائف الدينية التي تستند إلى تعاليمه، لكن واحدة فقط خرجت عن أصولها المحافظة، حيث كانت تحت قيادة فتح الله غولن، الذي كان عمره 25 سنة، عندما ذهب لأول مرة إلى مدينة إزمير الساحلية وفرض نفسه إمامًا، وقد عرف بأسلوبه العاطفي، وصرّح شيخ في الثمانينات من العمر، كان يحضر بعض خطبه في الستينات، لأحد المؤلفين، ”كان دائمًا يبكي خلال خطبه”.
لكن، لغولن كاريزما فريدة من نوعها، وسرعان ما أصبحت خطبه شعبية في جميع أنحاء المنطقة، فقد تم تسجيلها صوتيًا، وفي وقت لاحق، في شكل فيديو، في تلك الفترة كان غولن يتبع نظام الدولة ولم يكن ضد النظام الكمالي علنًا، لكن، باعتباره متبنيًا للمبادئ النورسية، لم يقبل بذلك.
وفي أواخر الستينات، تميز أتباعه عن الجمعيات الدينية الأخرى من خلال التركيز على التعليم الثانوي والعالي، ليصل النظام التعليمي الغوليني إلى جميع جوانب الحياة. حيث يعين لكل طفل “أخ أكبر”، ليرشده في دراسته، وليعمل على تشكيل شخصيته، وعندما أُدرجت الفتيات، تم تعيين “أبلة” لكل واحدة منهن، أو “شقيقة كبرى”، يكونون عادة أكبر من التلاميذ، على غرار قيام طالب جامعي بإرشاد طالب بالمرحلة الثانوية، وقد منح ذلك، أعضاء الحركة شعورًا قويًا بالانتماء طوال حياتهم، وأنشأ هرمية واضحة ووحدة سياسية وإيديولوجية.
من الواضح أن الغولينيين كانوا إسلاميين سياسيين، ولكن سريتهم هي التي جعلتهم يبرزون، حيث عارض معظم الإسلاميين في تركيا العلمانية علنًا، من خلال تأطير القاعدة الشعبية والمشاركة في النظام الديمقراطي، في حين سعت حركة غولن لتخريب العلمانية، حيث كان يرشد أتباعه في خطبه، ويقول لهم “تحركوا في شرايين النظام، دون أن يلاحظ أحد وجودكم”.
واستمر غولن في ذلك، حتى يتشبع أتباعه بتأثيره، بدرجة كبيرة، وختم تلك الخطبة بالقول “يجب الانتظار إلى حين امتلاك سلطة الدولة، حيث تكون كل سلطات المؤسسات الدستورية في تركيا، إلى جانبكم”.
في أدبيات الغولينيين، يعتبر الأشخاص الذين سيأخذون بزمام الأمور في الدولة عندما يحين الوقت المناسب، “الجيل الذهبي”، هؤلاء لديهم العزيمة على “عبور بحر من القذارة”، بمعنى الخطيئة العلمانية، في حين يبقون نقيين في نواياهم، وبالتالي يحدثون نوعًا من المثالية.
ولكن، الحركة بحاجة إلى قاعدة أوسع في المجتمع لإعطائها نفسًا أطول، وكان التعليم المؤسسي الوسيلة للوصول إلى ذلك، وبذلك، ركزت حركة غولن، في السبعينات والثمانينات، على تدريب معلمين على مستوى عالمي ليتمكنوا من جلب الأطفال إلى قضيتهم.
قال معلم كان يعمل في مدرسة غولينية: “حصلت على درجة عالية في امتحان القبول في الجامعات للوصول إلى كلية الطب، ولكن الجماعة – تسمية للحركة الغولينية – طلبوا مني أن أصبح مدرسًا، وهذا ما فعلته”، كان هؤلاء المدرسون على استعداد لتقديم تضحيات مادية كبيرة على مدى فترات طويلة من الزمن، بدافع المكانة التي وصلوا إليها في الحركة ومن أجل تحقيق هدف ديني.
ومع ارتفاع عدد المدرسين الغولينيين، امتدوا إلى القطاع الخاص، وقامت شبكة واسعة من مساكن الطلبة الغولينية ومخيمات الطلاب بالإعداد لامتحانات الجامعة، وإلى جانب تدعيم إحساسهم بالانتماء إلى المجتمع، وأهمها، “المدارس الإلزامية” التي يقصدها الطلاب الأتراك من أجل التحضير لامتحانات الجامعة.
وعادة ما يكون الطلاب تحت ضغط كبير، خلال السنة الدراسية التي يحضرون فيها لتلك الامتحانات، لأنها تحدد نوعية شهاداتهم الجامعية وحياتهم المهنية.
وعلى الرغم من أن المناهج الدراسية في المدارس الإلزامية الغولينية كانت مشابهة لغيرها، كانت تُعد الطالب ليصح “أبي أو أبلة”، حيث تتم دعوتهم لجلسات الدروس الخصوصية، وليصلوا معًا، وليطلعوا على الكتب الغولينية أيضًا.
وبمرور الوقت، بدأ نمط معين في الظهور، حيث عُرف الطلاب الغولينيون بالتقوى والعمل بجد والانضباط والبراعة في الرياضيات والعلوم الطبيعية، وقد جعلهم ذلك مرشحين ممتازين للعمل في الدوائر الحكومية الفنية مثل وزارة الخزانة والبنك المركزي، وسمحت لهم بالارتقاء بسرعة في مؤسسات أخرى مثل الشرطة.
وفي عام 1992، كان للحركة مدرسون من ذوي الخبرة، ما يكفي لتأسيس أولى مدارسه في الخارج، في جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة حديثًا، في تلك المرحلة، كانت الحركة تمول أنشطتها، إلى حد كبير، من خلال ما يسمى “اجتماعات المساعدات”، حيث يأتي رجال الأعمال المتعاطفون مع الخطب الدينية الخاصة، الذين يُطلب منهم المساهمة بمبالغ كبيرة للحركة، ومع توسع الحركة في الخارج، يقوم أتباعها، في كل مدينة تركية، بتحمل مسؤولية الأنشطة الغولينية في بلد أجنبي آخر، ومع مرور الوقت، انتشرت هذه المدارس في جميع أنحاء العالم وتفتخر الحركة اليوم بأكثر من ألفي مدرسة في 160 دولة مختلفة.
اشتهرت هذه المدارس بتركيزها على الرياضيات والعلوم الطبيعية، حيث التعليم ليس بالضرورة إسلاميًا، ولكن نوعية التعليم عالية جدًا، لدرجة أنها أصبحت أماكن، يرسل إليها النخبة أطفالهم ليتعلموا الانضباط، كما يتم إعطاء الفقراء والأطفال النجباء المنح الدراسية، وبدأ الساسة الأتراك بدعم هذه المدارس كمنارات تنامي “القوة الناعمة” لتركيا في المنطقة.
على الرغم من أن حركة غولن كانت على علاقة جيدة مع مختلف الحكومات المتعاقبة، أصبح “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي المعتدل الذي صعد إلى السلطة في عام 2002، حليفًا حقيقيًا، ولأكثر من عقد من الزمان، ازدهرت المؤسسات التعليمية الغولينية تحت حكم حزب العدالة والتنمية، كما زاد انتشار المجموعة في الوسط البيروقراطي، إلى مستويات غير مسبوقة.
وكانت الغولينية قوية خاصة في الشرطة والقضاء، حيث استخدمت مؤسسات الدولة هذه، في التشهير وسجن أولئك الذين عارضوا شبكتهم، تماشت بعض تلك الأساليب مع سياسات حزب العدالة والتنمية، مثل قضايا سليدج هامر وايرجينيكون سيئة السمعة، التي أدانت ضباط رفيعي المستوى في الجيش بالتخطيط لانقلاب، باستخدام أدلة وهمية، كما تم سجن شخصيات بارزة أخرى مثل الصحفيين الاستقصائيين نديم سينر وأحمد سيك وقائد الشرطة السابق حنفي اوجي، على أدلة كاذبة لمجرد الكتابة سلبًا عن الغولينية.
ومع حلول سنة 2010، بدأ تأثير الغولينية بإقلاق حكومة حزب العدالة والتنمية، حيث أصبحت وكأنها دائرة غير مرئية تحيط بالحكومة في المفاصل الرئيسية للدولة.
وعندما تحرك أردوغان أخيرًا ضد الغولينية، حاول توجيه ضربة في المقتل، من خلال استهداف تأثيرها على المؤسسات التعليمية، وفي عام 2013، اقترح إغلاق جميع المدارس الإلزامية خاصة في البلاد، وبالتالي قطع المصدر الرئيسي لرأس المال البشري في الغولينية”، فدون البنية التحتية لضم الأتباع، تصبح حركة غولن مجرد طائفة دينية أخرى في تركيا، لكن لم تقبل الغولينية ذلك، فقد أطلقت أول هجوم على أردوغان في ديسمبر/ كانون الأول من ذلك العام، وباستعانتها بشبكتها في الشرطة وغيرها من فروع الحكومة، نشرت تسجيلات صوتية تورط كبار الشخصيات الحكومية في الفساد والرشوة وغسل الأموال، والتحريض على الحرب في سوريا.
لذلك أوضح أردوغان أن المعركة قد بدأت، ولن يسمح للغولينيين بالتحكم في السلطة من وراء الستار، وأضاف: “سوف نكشف هذا الهيكل للعلن”، وقال: “هي دولة داخل الدولة”.
ولكن حتى في خضم هذه المعركة الوشيكة، كانت هناك محاولة أخيرة لرأب الصدع بين حكومة حزب العدالة والتنمية وغولن. حيث التقى فهمي كورو، الصحفي المقرب من كلا الطرفين، برئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، آنذاك، والرئيس عبد الله غول وأُرسل إلى ولاية بنسلفانيا، أين يعيش غولن في المنفى من أجل محادثات السلام.
كتب كورو في كتابه “تال أول بوك” أن غولن أعطاه رسالة إلى أنقرة يطلب فيها من الحكومة تخفيف قبضتها على المدارس، كتب غولن في رسالته: “أقول لرئيس وزرائنا أننا لا نرغب في إغلاق المؤسسات (المدارس الإلزامية) المفيدة للشعب والتي نرغب في استمرارها في تأدية مهمتها الحالية”.
لكن المنافسة بين الطرفين ازدادت، وسرعان ما تحولت إلى حرب مفتوحة، حيث صنفت الحكومة، في السنوات التالية، حركة غولن كمنظمة إرهابية وبدأت في الضغط على الشركات المرتبطة بغولن، كوسائل الإعلام، وغيرها من المؤسسات، كما أغلقت المدارس الإلزامية، وبدأت أيضًا في دحر وجود شبكة غولن الموجودة منذ 25 عامًا عبر جهازها كله، مع استثناء ملحوظ للجيش، بسبب الحساسيات العلمانية من المؤسسة، وعلى الرغم من ذلك، قيل إن الغولينية تغلغلت بشكل سري.
عرّض العداء النظام التعليمي الغوليني لمزاعم فساد، حيث حقق المسؤولون الأتراك في عام 2015، مع الغولينيين حول تهم الغش في امتحانات الخدمة المدنية، مدعين أن البيروقراطيين الذين حصلوا على أسئلة الامتحان سربوها إلى الذراع التعليمي للشبكة قبل مواعيد الاختبار، ونتج عن ذلك، حملات اعتقال في صفوف الأشخاص الذين يزعم أنهم ارتكبوا هذه الجريمة، مما أدى إلى أكثر من 3200 محاكمة جارية، إلى جانب اعتبار نتائج امتحان الخدمة المدنية باطلة.
أكد مسؤولون حكوميون أنهم كانوا يجمعون أسماء غولينيين في مختلف القطاعات، بما في ذلك التعليم، قبل وقت طويل من محاولة انقلاب، ولكن حالة الطوارئ منحتهم السلطة لتطهير ما تبقى من الغولنيين من مؤسسات الدولة.
وفي الوقت الحاضر، لا تعتقد الحكومة أن كل الغولينيين مؤيدون للانقلاب ولا تتهمهم رسميًا بالتورط في الانقلاب، ولكن ترى استمرار وجودهم في القطاع العام خطر على الأمن القومي، ونظرا للإجماع العام في تركيا أن الغولينيين كانوا في الواقع وراء الانقلاب، تلقت عملية التطهير دعمًا ضمنيًا من المعارضة، وبغض النظر عما سيحدث بعد ذلك، سيفقد عشرات الآلاف، إن لم يكن مئات الآلاف وظائفهم.
السؤال الهام في هذه المرحلة هو: إلى أي مدى سوف تستغل الحكومة حالة الطوارئ للبدء في تطهير الغولينيين؟ على سبيل المثال، 16 عضوًا من نقابة المعلمين اليساريين الذين كانوا تحت قيد التحقيق منذ يناير/ كانون الثاني، غض عنهم البصر، وإذا تجاوزت الحكومة تلك الخطوط، سيكون هناك بالتأكيد ضجة عارمة حول إساءة استخدام السلطة.
هناك احتمال كبير أن الحكومة ستذهب في الواقع بعيدًا جدًا، فقد قام أتباع أردوغان بتشويه سمعة الدولة السابقة في أعمدة الصحف، بما في ذلك رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو ونائب رئيس الوزراء السابق علي باباجان، والممثلة عن حزب الحركة الوطنية ميرال أكسنر، التي وصفت نفسها بأنها منافسة حقيقية للحزب الحاكم، وعلى الرغم من أنها كانت ضد محاولة الانقلاب في الدقائق الأولى منه، نجحت وسائل الإعلام الموالية للحكومة إلى حد بعيد في جعلها في صالح إسقاط أردوغان.
في حال فشلت الحكومة في احتواء هذا الاتجاه وسمحت بعمليات تطهير ضد غولن لاكتساح المعارضين السياسيين الشرعيين للحزب الحاكم، يمكن أن تترتب عنها اضطرابات واسعة.
من المؤكد أن الحكومة ستبذل قصارى جهدها لمحو أي تأثير غوليني داخل أروقة السلطة التركية، حيث سيتم حل المؤسسات التعليمية الغولينية المتبقية، ومعهم، مستقبل الحركة في بلدها الأم.
منذ فترة طويلة، لم تكن السياسة التعليمية من أولويات السياسيين الأتراك، إلا أنهم سوف يهتمون بها أكثر لضمان عدم استفادة أي جماعة سياسية أو دينية أخرى من هذا العجز.
المصدر: فورين بوليسي