في ملحمة أسطورية جديدة يسطرها ثوار الشعب السوري بأحرف من نور في سجلات المقاومة الشعبية ضد بطش نظام لا يبالي في أن يتخذ من أشلاء وجماجم بني وطنه سلمًا يصعد عليه إلى كرسي عرشه، ها هي مدينة حلب تشهد واحدة من أشرس المعارك بين مقاومة لا تملك سوى إيمانها بقضيتها وبعض الدعم القليل، في مواجهة جيش جرار مدعوم بقوات روسية وإيرانية فضلاً عن الأسلحة المتطورة التي زود بها طيلة السنوات الأخيرة.
قد تكون المعركة على الورق محسومة النتائج لمن يملك القوة والسلاح، لكن إرادة الثوار ودفاعهم عما يؤمنون به، أعاد المعادلة من جديد إلى المربع الصفري، وبعد قرابة شهر من إحكام جيش الأسد سيطرته على مدينة حلب ومحاصرة مناطق عديدة بها لاسيما التي تتمركز لها قوات المعارضة، ها هي الأمور على أرض الميدان تتغير، وفي 8 أيام فقط تعود المقاومة من بعيد لتفك أجزاءً كبيرة من هذا الحصار، بعد معارك ضارية، كبدت خلالها جيش الأسد خسائر عدة في الممتلكات والأرواح، كما تم تحرير بعض المواقع من قبضة الجيش النظامي، ليبقى السؤال: ماذا بعد حلب؟ وما هي سيناريوهات المعارضة لإتمام معركة التحرير الكبرى؟
فك الحصار عن حلب
بعد معارك ومواجهات دامية بين جيش الأسد والمعارضة، وبمشاركة أكثر من 10 آلاف مقاتل بأسلحتهم الثقيلة، انطلقت معركة فك الحصار، وخلافًا لتوقعات النظام، استهدفت هجمات المعارضة الأولى في المدينة أكثر مناطقه تحصينًا في حلب، حيث طالت مواقعه العسكرية في قرية العامرية ومنطقة مشروع 1070 شقة ومدرسة الحكمة، إضافة لتلال مؤتة والمحبة والجمعيات، وبعد 8 أيام فقط من بدء المعركة، نجحت المعارضة الثورية في فرض سيطرتها على مواقع عديدة من حلب، فضلاً عن فك الحصار عن شرقي المدينة، في خطوة هامة لإنقاذ حياة ما يقرب من 300 ألف مدني كانوا قابعين تحت حصار قوات الأسد لأماكن إيوائهم بالمدينة.
وبحسب صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، فإن المعارضة السورية نجحت وبصورة غير متوقعة في تغيير المشهد على الأرض بصورة غير متوقعة لكثير من المراقبين،
أحمد كورا علي، المتحدث باسم “أحرار الشام” أشار إلى أن المقاومة نجحت في السيطرة على أجزاء واسعة من اﻷرض من قوات النظام، وإنشاء منطقة كبيرة لا يمكن قصفها بسهولة، ملفتًا إلى أنه من المبكر الحديث عن جلب مساعدات للسكان المحاصرين داخل المدينة بالرغم من حاجتهم لمساعدات عاجلة، حيث إن الوضع شديد الصعوبة في ظل استمرار المعارك بين الجانبين.
كورا أشار في تصريحاته التي نقلتها الصحيفة الأمريكية إلى أن المعارضة نجحت في السيطرة أيضًا على أجزاء من طريق الإمداد الرئيسي المؤدي لمدينة حلب التي يسيطر عليها النظام، وسط مخاوف سكان المناطق التي مازالت خاضعة للنظام من حلب، من أنهم أصبحوا محاصرين، قائلاً: “هدف المعركة كسر الحصار عن أهلنا في حلب وقطع الطرق الإمدادات على النظام”.
جبهة فتح الشام (النصرة سابقًا) أعلنت في وقت متأخر من مساء أمس السبت التقاء المقاتلين المهاجمين من خارج حلب ومن داخلها، وأوضحت المصادر أن قوات النظام خسرت خط إمدادها عبر طريق الراموسة جنوبي حلب، بعد التقدم الذي حققه جيش الفتح، مشيرة إلى أن فقدان خط الإمداد عبر طريق الراموسة، يبقي للنظام خط إمداد وحيد، هو طريق الكاستيلو شمال حلب.
الجبهة أعلنت أيضًا أن قوات الجيش النظامي السوري انسحبت بالكامل من العديد من المواقع، أمام قوات المعارضة، ليحل محلها قوات من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، بما يكشف حجم الدعم الإيراني السوري للأسد بصورة غير مسبوقة، مشيرة أنها قتلت 150 من قوات النظام وعناصر حزب الله اللبناني، في أثناء الاشتباكات، في ضربة هي الأقوى منذ اندلاع الحرب في سوريا، إذ خسر الحزب المدعوم إيرانيًا أكثر من 20 مسلحًا بينهم قيادي كبير إضافة إلى ضباط إيرانيين.
وعلى مدار اليومين الماضيين نجحت المعارضة في السيطرة على أكثر من 20 موقعًا لقوات النظام، وبالرغم من نفي الإعلام الرسمي السوري لتلك التصريحات إلا أن روايات أعضاء الجبهات المقاتلة على أرض المعركة، وما تناقلته من صور حية لبعض المواجهات الميدانية تعكس وبصورة كبيرة صحة هذه التصريحات.
عملية فك الحصار عن مناطق شرقي حلب
محاصرة النظام
“معركة حلب هي المعركة الأخيرة التي ستحدد مستقبل الأزمة السورية، فلو نجح الثوار في فرض سيطرتهم الكاملة على هذه المدينة فستكون بداية النهاية لبشار ونظامه..” بهذه الكلمات استهل المحلل السياسي السيد الربوة، قراءته للمشهد السياسي الراهن بعد التقدم الملحوظ للمعارضة في تحرير حلب.
الربوة أكد في تصريحات له لـ “نون بوست” أن المعارك على أرض الميدان لازالت قائمة، ولا يمكن الحديث حاليًا عن تحرير كامل أو نصر شامل، فقوات النظام لن تصمت أمام هزيمتها على أيدي الثوار، خاصة وأن خط الإمداد الروسي الإيراني مستمر ولن يتوقف مهما كانت الأحداث، مشيرًا أن سيطرة المعارضة على أكثر من 20 موقعًا لقوات النظام في حلب وحدها يشير إلى تقدم ثابت للمد الثوري السوري في إحكام قبضته ومحاصرته لنظام الأسد.
وبعيدًا عن بيانات النفي التي تصدرها وسائل الإعلام الرسمية السورية فإن البث الحي لفك الحصار عن بعض المناطق بحلب، والبيانات المتلاحقة لجبهات فتح الشام وغيرها من فصائل المعارضة، والتي أكدت على نجاحها في فتح طريق إمداد لها بعرض كيلومترين في جنوب حلب، كما بث ناشطون مقطعًا على مواقع التواصل الاجتماعي لما قالوا إنه لحظة دخول مقاتلين من جيش الفتح والمعارضة المسلحة جنوب حلب بعد كسر الحصار عن المدينة، فضلاً عما نقله مصور وكالة الصحافة الفرنسية في الأحياء الشرقية من حلب، أن أول شاحنة محملة بالخضار دخلت هذه الأحياء للمرة الأولى منذ شهر عبر حي الراموسة جنوب المدينة، إضافة إلى خروج بعض أهالي حلب للتعبير عن فرحتهم بفك المعارضة حصار النظام أحياء المدينة الشرقية، يرددون شعارات تناصر الثورة وتندد بالقصف العشوائي لقوات نظام بشار الأسد، كل هذه الدلالات تعكس ملامح المشهد على أرض الواقع، مما يتطلب الاستمرار في المواجهات وعدم الاكتفاء بتحرير حلب وحدها، ملفتًا للمرة الثانية أن الثوار لو نجحوا في تحرير حلب ففي غضون أشهر بسيطة سيسقط الأسد.
وفي تصريحات صحفية له أكد العميد الركن أحمد خالد بري، وهو عسكري منشق عن قوات النظام السوري عام 2012، أن سيطرة المعارضة على “كلية المدفعية” مؤشر جيد على تقدم الثوار على أرض المعركة، فضلاً عن خنق نظام الأسد لاسيما وأن هذه الكلية تمثل أهمية استراتيجية كبيرة.
أما عن القوة العسكرية لهذه الكلية، أشار بري أن هذه المنطقة في الأساس معسكرات سيف الدولة على تلة الراموسة جنوبي حلب والتي تضم إلى جانب كلية المدفعية كلية التسليح والمدرسة الفنية الجوية والمعهد الملاحي الجوي، إضافة إلى مستودع التعيينات، غير أن القوة الأساسية فيها تكمن في كلية المدفعية فاشتهرت بها، مضيفًا أن قوة هذه الكلية تنبع من حجم العتاد الكبير والنوعي الموجود فيها، حيث تحتوي على 24 مدفعًا عاديًا عيار 122ملم، بالإضافة إلى العتاد المخصص لتدريب الطلاب والتلاميذ وهو (ثلاثة مدافع 130ملم، وثلاثة مدافع كفوذديكا، وثلاثة مدافع 122 دوارة معدلة مقطورة، وثلاث راجمات صواريخ 40 سبطانة، ومدافع هاون من 61-160 بمعدل ثلاثة من كل نوع)، كما أنها تحوي قواعد إطلاق صواريخ من عدة أنواع، وتوجد فيها عربات ترناجور وقاعات خاصة للتدريب، وبها ما بين 100-150 عاملاً ومجندًا وضباطًا مدربين.
كما تتميز هذه المنطقة بحيوية موقعها الاستراتيجي والذي يتيح الرمي المباشر بصورة مؤمنة، حتى قلعة حلب ومطار النيرب ومعظم مناطق محافظة حلب، أما للاستهداف غير المباشر فبالإمكان من موقع الكلية استهداف حتى مسافة 40 كلم وبكافة الاتجاهات مع قوة نارية عالية جدًا، وهو ما دفع النظام في مطلع 2012 إلى اتخاذ هذا الموقع مركزًا لتكديس الذخيرة والصواريخ فيها، واعتبرها نقطة ارتكاز وانطلاق ومقرًا عملياتيًا أساسيًا يقود كافة الأعمال القتالية في محافظة حلب ومنها أيضًا باتجاه إدلب والمنطقة الشرقية، وفي حال سقوطها يفقد النظام جزءًا كبيرًا من قوته على أرض الميدان.
مقتل عناصر من جيش الأسد جراء المواجهات مع المعارضة
ماذا بعد فك الحصار؟
بعد نجاح المعارضة في فك الحصار عن بعض مناطق حلب، مئات الآلاف من السوريين العالقين بداخل المدينة قد عبروا عن قلقهم من بطش نظام الأسد حال فشل هذه العمليات أو التوقف عند هذا الحد، كما حدث في معركة الساحل، لأن حينها ستكون النتائج وخيمة، مما دفع الناطق العسكري لحركة “أحرار الشام ” أبو يوسف المهاجر، إلى طمأنتهم بقوله: لن تتوقف معركة فك الحصار عن حلب التي هي جزء من معركة تحرير كامل حلب، فالسبب الرئيسي وراء إيقاف معركة الساحل هو الوضع الذي كانت حلب مقبلة عليه، فقد تيقنا أن المدينة باتت قاب قوسين من الحصار، مبينًا في تصريحاته لصحيفة “القدس العربي” أن ما أخر معركة حلب هو “نقل العدة والعتاد فقط، حيث أوقفت العمليات العسكرية في الساحل بعد عيد الفطر بأيام، وحينها كانت حلب قد حوصرت وأصبح الوضع يشكل خطرًا حقيقيًا”.
كما تعهد المهاجر بأن معركة تحرير حلب بالكامل في قمة هرم أولويات المعارضة، ولن تتوقف، قائلاً: إن تجربتنا تخبرنا بأن توقفنا يعني خسارتنا لكل إنجازاتنا السابقة، الأمر برمته هو ترتيب أولويات، ملفتًا إلى أن الهدف الأساسي من مواجهاتهم العسكرية هو حسم المعركة في حلب وريفها لصالح الثوار وطرد قوات النظام والمليشيات الأجنبية المساندة له بالكامل، وتابع متابعا: فك الحصار عن المناطق المحاصرة في حلب هو خطوة في معركة كبيرة بنفَس طويل، كما أن زمن المعركة غير محدد، فهي كبيرة وضخمة، ومن غير الممكن أن نتكهن متى ستنتهي لكن ووفق رؤيتنا فإنها ستستمر شهورًا.
أما طارق شرابي المحلل السياسي وعضو جبهة التغيير السورية، أشار إلى أن قوات المعارضة لا بد وأن تعيد حساباتها من جديد فيما يتعلق بسيناريوهات ما بعد حلب، فلا بد ألا تتوقف العمليات عند فك الحصار وفقط، بل تحرير حلب بالكامل من قبضة بشار، من خلال فتح ثغرات عدة في ترسانة الجيش النظامي السوري، وإرهاقه في أكثر من موقع.
شرابي أشار في تصريحات لـ “نون بوست” أن معركة حلب ستكون الورقة الرابحة في محادثات جنيف القادمة المقرر لها نهاية أغسطس الحالي، فمن يملك حلب يستطيع أن يفرض سيطرته وكلمته على مائدة المفاوضات، وهو ما يعرفه الثوار جيدًا، لذا فدفاعهم واستبسالهم دفاعًا عن حلب ليس مجرد رغبة في تحرير مدينة وفقط، بل هم على علم يقين أن هذه المعركة ستكون فاصلة في مسيرة الثورة السورية.
مراحل فك الحصار عن مدينة حلب
ملحمة حلب الكبرى
دشّن رواد مواقع التواصل الاجتماعي عددًا من الهاشتاجات، فرحًا وتضامنًا مع المعارضة السورية بما حققته من نجاحات في فك الحصار عن مواقع عدة في مدينة حلب، ومن بين هذه الهاشتاجات: #مبروك_فك_حصار_حلب، حلب_تنتصر، #ملحمه_حلب_الكبري:
خطط للأيام بل الساعات القادمة بعون الله ومشيئته انتصارات ومفاجآت كبيرة
سائلينه بإحسانه أن يجعلها عزا لﻹسﻻم والمسلمين
#حلب_تنتصر #حلب_تتحرر
— عدنان العرعور (@AdnanAlarour) August 2, 2016
بفضل الله
خضار وفواكه ومواد الغذائية تدخل الآن إلى أهلنا في حلب من الطريق الجديد✌️#ملحمه_حلب_الكبرى
— الامامين بن باز والعثيمين (@aqwaal_alolamaa) August 7, 2016
ويبقى السؤال: هل تستفيد المعارضة السورية مما حققته من نجاحات على أرض المعركة، وتحول هزيمتها إلى نصر عظيم من خلال تفعيل قدراتها الميدانية والتخطيطية والعمل على توظيف إمكانياتها لشل حركة الجيش النظامي من خلال فتح العديد من الثغرات بداخله؟