تغطية ميدانية وتصوير أميرة جمال
إذا ما كنت تعيش في إسطنبول، فستدرك جيدًا طبيعة الحشد الذي دعا إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزعماء الأحزاب الكبرى لما سُمي بـ “تجمع الشهداء والديموقراطية”، اللوحات الإعلانية في الشوارع، الملصقات على جدران المكاتب الحكومية وفي محطات المترو، حديث الأتراك مع بعضهم، كل شيء في المدينة كان يقول إن يوم الأحد السابع من أغسطس سيكون يومًا غير عادي، وأن دعوة أردوغان التي قال فيها “لتكن الأمة جميعًا هناك!” كانت مختلفة هذه المرة!
وعندما قررنا تغطية المظاهرات الحاشدة، لم نكن متيقنين تمامًا من حجم الاستجابة التي علينا أن نتوقعها من قبل أحزاب المعارضة أو الأتراك من غير المؤيدين لحزب العدالة والتنمية أو الرئيس أردوغان، إلا أن عدم اليقين سرعان ما تلاشى بمجرد اقترابنا من إحدى محطات مترو إسطنبول، عثمان باي، التي تبعد عن الموقع المقرر للتظاهرات بقرابة 25 دقيقة، فعلى الرغم من أنه في ذلك الوقت عقب ظهر يوم العطلة الأسبوعية عند الأتراك، يُفترض بتلك المحطة ألا تشهد ازدحامًا كبيرًا، إلا أن الحشود التي استقبلتنا كانت أول علامة على أن دعوة أردوغان لمواطنيه لم تذهب سُدى!
الآلاف من الأتراك يحملون الأعلام ويملأون محطة المترو، وإذا ما دلفت إلى إحدى عربات المترو المزدحمة بصعوبة، فلا يجب أن تتوقع أن يتحسن الأمر مع اقترابك من نهاية خط المترو ومحطة ميدان “يني كابي”.
لم يكن هناك أحد من مرتادي المترو في تلك اللحظة قد قرر الهبوط في أي محطة أخرى قبل يني كابي، ولذلك لم يكن الازدحام يخف مع اقترابنا من وجهتنا، بل على العكس تمامًا، وكلما اقتربنا من “يني كابي”، والذي يعني بالتركية “الباب الجديد”، كلما ظهر أن الحشود تزداد كثافة وأعدادًا.
لم يكن الصعود من محطة المترو يسيرًا، فأمواج البشر لا تتوقف، وعندما وصلنا إلى مخرج المترو قبيل الموعد المحدد لبدء التظاهرات، كان من الواضح أن مئات الآلاف قد وصلوا بالفعل إلى حد أنهم قد أغلقوا بأجسادهم الميدان ومعظم الطرق المؤدية إليه، لكن لم تكن هناك حاجة لأن نصل إلى قلب الميدان أو إلى منصة الحدث كي نقوم بتغطية التظاهرة، فلن نبالغ إذًا قلنا إن إسطنبول كلها ميدان تظاهر من أجل الديموقراطية والشهداء!
للوهلة الأولى يمكنك أن تلحظ المظاهر الاحتفالية، هذه ليست تظاهرة غاضبة، بل على العكس، الهتافات في معظمها وطنية حماسية، والأعداد الكبيرة من الأطفال الذين اصطحبهم آباؤهم، وصنوف الطعام الذي أحضره العديد من المشاركين، وحتى الاسم الذي أطلقه الداعين للمظاهرة من أنها “تظاهرة الانتصار”، كلها أكدت أن التجمع احتفالي بهزيمة محاولة الانقلاب العسكري أكثر من كونه احتجاجيًا ضدها.
من أجل الوطن والمستقبل!
المشاركون الذين تحدث معهم نون بوست أكدوا جميعًا أنهم “هنا من أجل الديموقراطية”، بالقرب من حدود الميدان التقينا عائلة كمال، الرجل الأربعيني وزوجته شاركوا في المظاهرة “من أجل مستقبل أفضل لابنتنا”، ابنتهما شاركت أيضًا في المظاهرة وكان باديًا على وجهها السعادة طوال الوقت.
لكن الحاضر لم يكن بعيدًا عن ذهن كمال وعائلته، إذ يؤكد أنه جاء لدعم “القائد الحبيب أردوغان”، فهو يصوت لحزب العدالة والتنمية، ويرى في أردوغان القدرة على القيادة، وهو “أحد أعظم قادة العالم”.
عائلة أخرى تحدث معها نون بوست، قالوا إنهم يشاركون في التظاهرة كمشاركتهم في مباراة اعتزال لخصوم البلاد “لعلها تكون الأخيرة”.
أما أونور وعائشة، الزوجان الشابان، فقد قالا إنهم “أصحاب الوطن”، وتابع أونور بحماس “أنا هنا من أجل وطني، لأبين للخائنين أن تركيا لنا، نحن فقط”.
تركيا ليست وحدها
ومثل عادة الأتراك في الحشود التي تتكرر كثيرًا، أكد الكثيرون منهم على اهتمامهم بمحيطهم الإسلامي، إذ تحدثت “توبا” عن حبها للرئيس المصري السابق محمد مرسي، مؤكدة أنها أرادت الوقوف بجانبه وبجانب كل المقهورين والمظلومين.
وتابعت توبا قائلة “نحن أثبتنا أن العدل سينتصر في النهاية”.
كذلك كان لافتًا حضور العلم الفلسطيني في أيدي العديد من المشاركين، في الوقت الذي اختفت فيه كل الأعلام الحزبية والفئوية خلاف العلم التركي، وفي بعض الأحيان علم الأقليات التركية في الصين وآسيا الوسطى.
ارتباط تركيا ومصالحها وكذلك أعدائها بالخارج يبدو حاضرًا بقوة في أذهان المشاركين، إذ تحدث خالد بحدة قائلاً “جئنا لنقول لكل الخائنين في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا إننا أصحاب هذا البلد، ولن يستطيعوا احتلالنا من الداخل”.
وتابع خالد قائلاً “إننا هنا لنريهم أننا دومًا سنكون معًا، ولن نفترق أبدًا، وسيندم كل من أراد بتركيا سوءًا”.
فكرة “أصحاب البلد” تكررت أكثر من مرة، وهو ما قاله الشابان عمر وألارا الذين تحدثا بحماس مقتضب “جئنا لنحيي ذكرى الشهداء، ولنعلن للجميع من هم أصحاب البلد الحقيقيون”.
ميراث أتاتورك!
في حديثه القوي أمام الملايين من المتظاهرين، قال رئيس الوزراء التركي بن علي يلدرم أن رد فعل الشعب التركي ليلة محاولة الانقلاب جعل من الخامس عشر من يوليو عيد استقلال ثان للجمهورية التركية، وتابع متحدثًا عن المتجمهرين “نحن نحتشد الآن كما احتشدت الأمة عام 1919 خلف مصطفى كمال أتاتورك لمواجهة الغزاة”، وهو ما تتفق معه ديلارا وصديقتها نسليهان في حديثها مع نون بوست، “نحن هنا للدفاع عن ميراث أتاتورك”، تتحدث ديلارا بحماس قائلة إن الشعب التركي هو أفضل شعوب المنطقة بسبب دفاعه عن الحرية والكرامة، وتتابع “نحن نموذج لكل الشعوب المظلومة، ومثال لكل من يريد أن ينأى بنفسه عن الحياة تحت ذل الاحتلال العسكري”.
لا تبدو ديلارا ممن تنطبق عليهم الصور النمطية لمؤيدي حزب العدالة والتنمية أو الرئيس أردوغان، وهي ليست كذلك بالفعل، إذ تؤكد قائلة “أنا فنانة، واليوم وجدت الجميع هنا”، فقد كان واضحًا أن من بين المشاركين في التظاهرة والذين تراوح تقدير أعدادهم بين 5 مليون متظاهر حسبما صرحت مصادر الشرطة التركية لوكالة الأناضول، أو 3 مليون مثلما أوردت وسائل إعلام تركية، أو حوالي مليون حسبما أوردت مصادر صحفية أجنبية، كان واضحًا مشاركة المتدينين والعلمانيين، “المؤمنين وغير المؤمنين” كما تقول ديلارا، وتتابع “وحتى غير الأتراك شاركونا اليوم”.
لأننا نحبه!
لم تتحدث ديلارا من فراغ عندما قالت إن غير الأتراك شاركوا في مظاهرة الديموقراطية والشهداء، فقد التقينا عددًا من المواطنين الأوغنديين الذين جاءوا إلى الميدان لأنهم يحبون أردوغان.
يقول جون “إن أردوغان كان في بلادنا قبل عدة أسابيع فقط من الانقلاب” في إشارة إلى زيارة الرئيس التركي إلى أوغندا وكينيا في بداية يونيو من العام الجاري، ويؤكد “إنه رجل طيب! ولهذا نحن هنا، نحن نحبه، وجئنا لنشارك من يحبه كذلك”.
شارك في التظاهرة أيضًا عراقيون وسوريون ومصريون، إذ تبادل المقيمون في إسطنبول من الجاليات المختلفة رسائل تحث على المشاركة في التظاهرات.
وتحدث نون بوست مع أحد اللاجئين السوريين في تركيا والذي قال إن “الشعب التركي لم يخذلنا قط، لقد أكرمونا، ولا نريد لهم أن يروا الحكم العسكري كما عرفناه في سوريا”، يؤكد أحمد “من دون أردوغان سنموت في الحرب”.
أردوغان الذي ختم الفعالية بحديثه بارك لمواطنيه “الانتصار ضد الانقلابيين”، وتحدث موجهًا خطابه إلى قادة الأحزاب السياسية بعدما قطع حديثه هتاف الآلاف من مؤيديه بإعدام منفذي محاولة الانقلاب الفاشلة قائلاً “يجب على الأحزاب السياسية أن تستمع لمطالب الشعب بخصوص حكم الإعدام، وأن على البرلمان أن يقر القانون إذا أراد الشعب ذلك”.
وقبل أردوغان، كان الحشدُ قد قاطع بهتافات “إعدام” رئيسَ أركان الجيش الجنرال خلوصي أكار، الذي احتجزه الانقلابيون لوقت قصير، قبل تحريره.
ويعكس التوجه التركي الجديد عدم اكتراث عام بانضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، والذي كان قد اشترط على تركيا إلغاء العمل بعقوبة الإعدام، وهو ما تم بالفعل في عام 2004 استجابة لطلب الاتحاد.
وختم أردوغان حديثه بالقول أن الأربعاء المقبل سيحدد اليوم الأخير للمظاهرات المؤيدة للديموقراطية في البلاد.
حضور الأتراك الكثيف لمظاهرة الديموقراطية والشهداء، والذي تجاوز إسطنبول ليصل إلى كل الولايات التركية، يمكن أن يشير إلى حجم القوة التي يتمتع بها الرئيس التركي حتى بين العديد من معارضيه، فهيمنة أردوغان على المشهد السياسي في البلاد تجعل منه قائدًا أوحد، ورئيسًا بصلاحيات واسعة سواء أُقر تعديل الدستور الذي يهدف للانتقال بالبلاد إلى النظام الرئاسي أم لم يتم إقراره.
وعلى الرغم من الحشود الضخمة التي شهدها الميدان، إلا أن غيابًا لافتًا للوجود الكردي ممثلاً في حزب الشعوب الديموقراطي الممثل في البرلمان يجب أن يقلق الساسة الأتراك، فالعقد الاجتماعي الجديد، والتوافق الذي بُني في ميدان يني كابي في إسطنبول، لا يمكن أن يكتمل بدون المكون الكردي، خاصة مع يقين مواطني البلاد أن نجاح الانقلاب العسكري كان يعني من بين ما يعني قطع أي طريق أمام محاولات التوصل لحل دائم للمشكلة الكردية.
* بناء على طلب عدد من المشاركين، فإن معظم الأسماء الواردة في هذا التقرير غير حقيقية.